سلام الكواكبيصفحات سورية

جدار برلين” والخروج إلى الحرية/ سلام الكواكبي

 

في عام 1961، قرر حكّام ألمانيا الشرقية، بتوجيه وإشراف سوفييتي واضح، إشادة جدارٍ يفصل بين القسم الخاضع لسيطرتهم من مدينة برلين وأجزائها الأخرى، الواقعة تحت حماية ثلاث قوى غربية، هي فرنسا وإنكلترا وأميركا. استيقظ السكان في أحد أيام شهر أغسطس/آب من ذلك العام على انتشار نحو 15 ألف جندي ومسلح في الشوارع، لتأمين حسن سير هذا “الإنجاز”، واستنفرت القوات السوفييتية الموجودة في المدينة، وفي محيطها، للمؤازرة. وتم قطع الطرق الواصلة بين قسمي المدينة، ونشرت آلاف الأمتار من الأسلاك الشائكة، والتي سرعان ما تحولت، فيما بعد، إلى جدران عازلة خرسانية، مزوّدة بوسائل مراقبة متعددة، كما هي محاطة بالألغام. والتبرير، الذي خرج به زعماء تلك الحقبة، كان مختصراً “مفيداً”، فهدف بناء الجدار هو “الحماية ضد الفاشية” ليس إلا. وبما أن استخدام تعبير “النازية”، المرتبط أكثر بالتاريخ الألماني، لم يكن محموداً بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، واندحار المشروع النازي أمام الحلفاء والسوفييت إلى جانبهم، فقد تم تفضيل عبارة تحاكيها، لتدعيم الغوغائية الإيديولوجية السائدة.

وقد اعتبر زعماء ألمانيا الشرقية، حينها، كما كل الأباطرة، أنهم قاموا بإنجازٍ عظيمٍ سيخلّده التاريخ، حيث وصل الأمر بأحد قياداتهم، في تلك المرحلة، إلى حدّ اعتبار أن “الحدود حيث نوجد، وسلاحنا في يدنا، ليست فقط خط فصل بين بلد وآخر، بل هي حدود بين الماضي والحاضر”. ويظهر أن الحرية، التي كان يتمتّع بها سكان ألمانيا الغربية، كانت ماضياً يُحبّذ تجاوزه، أما العزل، كما القمع الذي عاشه الألمان الشرقيون، فكان الحاضر الذي تسعى إليه ثورات الشعوب. وكما غيرهم من طغاة الشمال والجنوب، وكما غيرهم ممن لوّثت عقولهم تراجم فاشلة لإيديولوجيات إنسانية، سيجدون التبرير الدائم واللازم لكل خطواتهم، من أي مصدر أتت، وفي أي اتجاه ذهبت.

جدار امتد كالحيّة السامة بين شرايين المدينة الضحية على مسافة 43 كيلومتراً، وشهدت أطرافه موت 136 مواطناً ألمانياً، حاولوا تجاوزه للحاق “بسراب الإمبريالية”، كما كان يصفها رفاق موسكو أو أتباعها حينها. وحملت التقارير المصوّرة، والتي يزخر بها متحف ذاكرة الجدار اليوم، مئات الشواهد على المآسي الإنسانية، التي خطّها هذا الجدار بين أفراد العائلة الواحدة والبلد الواحد. كما لا يمكن نسيان تلك الصور، التي تُرى فيها نساء يرمين أطفالهن من النافذة، ويلحقن بهم، حيث أن باب البناء كان في الشرقية، ونافذته تطل على الغربية. كما انتشرت صورة تحمل جرعة رمزية كبيرة تمثّل الجندي الألماني الشرقي، الذي قفز راكضاً فوق الأسلاك الشائكة، محاولاً الهرب من “جنة” الاشتراكية المشوهة إلى “جهنم” الرأسمالية الموهومة.

توالت التبريرات الفاشلة لعملية الفصل والعزل هذه، إذ صرّح حينها إيريش هونيكر، وكان يشغل المسؤولية الأمنية في اللجنة المركزية للحزب، قبل أن يصبح رجل ألمانيا الشرقية القوي، لاحقاً، كأمين عام الحزب ورأس الدولة منذ 1971 حتى السقوط، بأنه “مع بناء جدار الحماية من الفاشية، قمنا بدعم الاستقرار السياسي في أوروبا، ودعمنا السلام (…)”. وفي الحقيقة، كان هذا الجدار تعزيزاً للتوتر وإبعاداً “لشبح” السلام. ويكمن السبب الحقيقي وراء بناء الجدار، إضافة إلى طغيان العقلية الانغلاقية، التي ميّزت كثيرين ممن ادّعوا وصلاً بالاشتراكية، إلى هروب بين 2.5 و 3.5 مليون ألماني شرقي إلى ألمانيا الغربية بين 1949، تاريخ إنشاء جمهورية ألمانيا “الديمقراطية” و1961. وكان جلّهم من الشباب المتعلّم. نزيفٌ هدّد البلاد بفقدان جلّ قواها البشرية.

مع نهاية الحرب الباردة، وتداعي الاتحاد السوفييتي قبل انهياره في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بدا جليّاً أن كل الجدران أمام الحرية ستنهار، أوروبياً على الأقل. ومع أن هونيكر كان قد تبجّح، قبل عام فقط من سقوط الحائط، بأنه “سيكون موجوداً بعد خمسين أو مائة عام”، إلا أن الضغط الشعبي حطم جدار الخوف، لينطلق بعدها محطماً جدار العزل. وبالطبع، ساعدت التطورات السياسية العالمية في إنجاز هذا التحرّر.

اليوم، تحتفل ألمانيا بمرور 25 عاماً على سقوط “حائط برلين”. وشهدت المدينة تدفق نحو مليوني “سائح”، سيشاركون أهلها عيدهم هذا. وقد تزيّنت العاصمة الفيدرالية الجديدة بأبهى حللها، كما خطّت ثريات بيضاء مرفوعة على أعمدة خشبية مسار الجدار السابق، لكي يتذكر البرلينيون، كما البشرية، أن للجدران مدة انتهاء صلاحية أخلاقية وإنسانية. وجدران الفصل السياسي، كما العنصري، كما القمعي، لا يمكن تبريرها إلا من أصحاب العقول الفاشية والنازية، فعلاً وعملاً. وتأخُّرُ سقوط جدار لا يعني، بالضرورة، تأخّر الأمل بالحرية. هذا ما علمته برلين للعالم. ويمكن القول إن اللبنة الأولى، التي استعملت في بناء حائط برلين، كانت الأساس الذي أعلن بدء انتهاء المنظومة “الاشتراكية”. فلا يمكن بناء نظام سياسي، يدّعي المثالية وحماية الإنسان ومصالح الطبقات الفقيرة، بالاستناد إلى حاجز الخوف والفصل، مهما كانت التبريرات. وكم أساءت الأنظمة، التي تصدّرت المشهد الاشتراكي، إلى الاشتراكية ذاتها، كما تُسيئ، اليوم، جهات، تتصدر المشهد الديني، إلى الدين نفسه.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى