زين الشاميصفحات سورية

دولة محتلة


زين الشامي

بعد نحو ثمانية أشهر من استمرار السلطات السورية في قمع المحتجين، وانتشار الجيش والقوات الأمنية والدبابات في غالبية القرى والبلدات والمدن التي تشهد احتجاجات شبه يومية ضد نظام الرئيس بشار الأسد، وبعد تحليق الطائرات الحربية وطائرات الهوليوكبتر فوق العديد من المناطق لغاية تتعلق بتلك العمليات العسكرية ضد المتظاهرين، وبعد مقتل أربعة آلاف على الاقل من السوريين من شباب ورجال ونساء وأطفال على أيدي القوات الامنية والجيش، وبعد اعتقال عشرات الآلاف، وبعد نزوح الكثير من السوريين إلى البلدان المجاورة… بعد كل ذلك يمكن وصف سورية اليوم بأنها دولة محتلة لكن ليس من قبل دولة اجنبية بل من قبل قوات النظام الاستبدادي. هذا النظام الذي أثبتت الأحداث أنه مستعد لقتل كل السوريين من دون أن يتخلى عن السلطة ويفسح المجال لتغيير ديموقراطي يستحقه السوريون.

ما يجري اليوم يفوق قمعا وشدة في البطش ممارسات أي قوة احتلال او انتداب عرفتها سورية والسوريون في التاريخ المعاصر، أو ربما في التاريخ القديم، ربما يتساوى النظام السوري فقط مع المغول والتتار. حتى أنه يمكن القول إن إسرائيل ذاتها ورغم كل تاريخها القمعي لم تفعل بأهل الجولان المحتل ما يفعله هذا النظام الاستبدادي بالشعب السوري، فإسرائيل سجنت العديد من المناضلين والمقاومين من أهالي القرى المحتلة في الهضبة، «مجدل شمس» و«بقعاثا» و«مسعدة» و«واسط»، وغيرها، لكنها لم تقتل اي واحد منهم خلال فترة اعتقالهم، أما القوات الأمنية السورية فقد قتلت العشرات من المعتقلين خلال فترة احتجازهم، ومنهم من قتل خلال يومين فقط بسبب شدة التعذيب، مثل غياث مطر الشاب الذي كان يقدم مياه الشرب المعدنية والورود لعناصر الجيش الذين كانوا يقمعون ويقتلون أهله في بلدة داريا غرب دمشق. وليس غياث مطر من قتل داخل السجن بل هناك العديد من الناشطين.

إسرائيل أفرجت عن الناشط وئام عماشة، وهو من بلدة مجدل شمس المحتلة في هضبة الجولان بعد سنوات من السجن بسبب نشاطه ضد سلطات الاحتلال، لكنه كان يستطيع خلال فترة اعتقاله أن يزور أهله، وكان يستطيع أن يعبر عن آرائه السياسية ضد إسرائيل من داخل السجون وكان يلتقي مع اصدقائه، وفوق ذلك كان قد حوكم منذ البداية في محكمة إسرائيلية، وكان له محام للدفاع عنه، وحين خرج خرج قويا سليما معافى ووجهه ينضج بالحياة.

إسرائيل أيضا أفرجت عن عميد السجناء العرب في السجون الإسرائيلية سمير القنطار، ورغم أنه متهم «بقتل أبرياء اسرائيليين» حسب المحكمة الإسرائيلية التي اتهمته بذلك بعد تنفيذه عملية عسكرية ضد مستوطنين إسرائيليين وتسببت في مقتل العديد منهم، إلا أنها في النتيجة أفرجت عنه وقد خرج بصحة جيدة، وأيضا استطاع الحصول على شهادة جامعية حين قضائه فترة الاعتقال في السجن.

بكل تأكيد ان ذلك لا يحصل في سورية، ليس ذلك فحسب، ففي السجون السورية، وما ان يعتقل الناشط أو المعارض السياسي فإن أهله قد يقضون أشهرا طويلة لمعرفة مكان سجنه، وربما سنوات لرؤيته، وإن استطاعوا، فبعد وساطات ودفع لرشاوى كبيرة لضباط الأمن.

النظام السوري أيضا، وبعد نحو ثمانية أشهر من حركة الاحتجاجات، لم يقبل أن يعترف أن هناك احتجاجات ضده، وهو يسمي ما يحصل بالمؤامرة، وهو تبعا لذلك لم يقبل أن يجري أي حوار مع أي من قوى المعارضة، كل ما قام به هو اجراؤه «حواراً» مع موالين وشخصيات مستقبل لكنها لا تعارضه، كما عملت القوى الأمنية على إرسال وفود من «الوجهاء» إلى العاصمة دمشق لمقابلة الرئيس بشار الأسد. وهؤلاء «الوجهاء» معروفون بولائهم الكامل للنظام، لكن رغم ذلك فقد وصف الإعلام السوري هذه اللقاءات بـ «الحوار الوطني»، ما يعني أن النظام وإلى اليوم لا يعترف بوجود خصوم ومعارضين، ولا يقبل أن يجلس إلا مع أناس تشبهه وتحتفظ بولاء كامل له. إن هذه العقلية لا تشبه حتى عقلية القوات المحتلة أو الانتدابية. إنها لا تشبه إلا نفسها.

من ناحية ثانية، عملت السلطات السورية على التضييق على المناطق التي تشهد احتجاجات مستمرة ضد النظام، وذلك من خلال قطع الماء والكهرباء والاتصالات وخدمات الانترنت، ومن خلال منع دخول المواد الغذائية، وبخاصة مادة الدقيق حيث تحتكر الدولة هذه المادة، ما تسبب بتوقف الكثير من الأفران التي تصنع الخبز عن العمل، وهو الأمر الذي دفع الأهالي في بعض المناطق مثل درعا وحمص وادلب للمخاطرة بحياتهم والخروج إلى مناطق بعيدة بحثا عن الخبز. لقد أبلغنا بعض الناشطين عن حالات قتل كثيرة حصلت لسوريين خلال محاولتهم تأمين الخبز لأسرهم، حيث تنتشر الحواجز العسكرية والامنية على مداخل المناطق والبلدات ومفارق الطرق في تلك المناطق التي تشهد الاحتجاجات، وغالبا ما كان عناصر تلك القوات تطلق النار على اولئك الناشطين لمجرد خروجهم من منازلهم.

إن حقيقة ما يحصل اليوم في سورية هي أكبر بكثير مما يصلنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثل اليوتيوب والفيس بوك وغيرها، إن ما يصلنا فقط هو ما تستطيع كاميرا الهاتف النقال تصويره، وهذه الكاميرا لا تصور إلا ثوان قليلة، أما الألم والبطش والقمع والقتل والجوع والحزن والبكاء الذي يعيشه السوريون منذ أشهر طويلة فلا يمكن رصده أو تغطيته أبدا. ولن يظهر إلا بعد وقت طويل.

إن الكثير من السوريين اليوم، وحتى اصحاب الاتجاهات القومية صاروا يتغنون بأيام الانتداب الفرنسي، ويتمنون لو أن سورية كانت خاضعة لقوة احتلال أجنبية على أن تحكم من قبل النظام «البعثي» ونظام عائلة الأسد، لقد قال البعض إن فرنسا وحين كانت محتلة لسورية قامت بتعبيد وإنارة الشوارع وفتح الطرقات والمدارس، وخلال انتدابها أيضا ازدهرت الصحافة الحرة وحريات التعبير، وكان هناك الكثير من الأحزاب السياسية التي تنشط بكل حرية وغالبيتها كانت ضد الوجود الفرنسي.

روى لي مرة جدي عندما كنت صغيرا انه وبينما كان يلعب بين الحقول مع رفاقه على الطريق الذي يربط حلب بمحافظة ادلب شمال سورية، أنهم رأوا سيارة تابعة «للفرنسيين» وعلى متنها جنود، مقبلة نحوهم، وما أن اقتربت تلك السيارة حتى شعر جميع الأطفال بالهلع والخوف الشديد، إلا أن الجنود الفرنسيين وما أن رأوا الأطفال حتى ضحكوا كثيرا، اقتربوا منهم محاولين تهدئتهم ومراضاتهم لكنهم لم يفلحوا… وحين غادروا، تركوا لهم الكثير من المعلبات الغذائية والحلويات التي كانت معهم في السيارة.

رحمك الله يا جدي، أنت عشت مع الفرنسيين بينما نحن نعيش مع قوات الاحتلال الأسدي و«البعثي».

كاتب سوري

الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى