صفحات الرأي

“القوس الإسلامي” في مرحلته الأخيرة


كمال ديب

في كانون الثاني 2009 دخل البيت الأبيض رئيس أميركي جديد، أسمر من أصل مسلم، عشقه العرب والمسلمون، هو باراك أوباما. كان عمله الأوّل حضوره إلى القاهرة واسطنبول باكراً ذلك العام وإلقاءه خطابات مهّدت لانقلاب الأمور وإشعال العالم العربي بموجة انتفاضة دينية، تنتهي باكتمال قوس إسلامي – يتضمّن إيران – يشكّل حاجزاً دفاعياً للغرب في وجه الصين وروسيا.

في خطاب القاهرة في الرابع من حزيران 2009 ما ان قال أوباما “السلام عليكم” باللغة العربية حتى انطلقت عاصفة تصفيق طويلة من الحضور المصري. ثم بدأ بمديح جامعة الأزهر الاسلامية وكانت محور خطابه علاقة أميركا بالإسلام. وفجأة أخذ أوباما يطمئن أقباط مصر وموارنة لبنان:

The richness of religious diversity must be upheld, whether it is for Maronites in Lebanon or the Copts in Egypt.

وقتها استغرب البعض: لماذا يريد أوباما طمأنة الموارنة والأقباط؟ وما هذا التوقيت؟

لم يأتِ الخطاب والتوقيت من فراغ، فهو جزء من سياسة دائمة تجاه العالم الاسلامي وصل تنفيذها إلى المنطقة العربية ما احتاج إلى تهدئة خوف الأقليات. وتعود هذه السياسة إلى مطلع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً منذ العام 1949. وفي العام 1951 كتب المؤرخ برنارد لويس في فصلية أكاديمية بريطانية عن ضرورة استعمال الاسلام كأداة فعالة لمحاربة الشيوعية الملحدة. ذلك أنّ الكتلة الاشتراكية كانت تطوّقها شعوب على دين الاسلام بدءاً من ولاية اليوغور في الصين وولايات وسط آسيا السوفياتية، وأفغانستان وإيران وجبال القفقاس وتركيا والبوسنة.

حقبة المارد العربي العلماني

سأل مثقفو العرب في نهاية القرن التاسع عشر عن كيفية لحاقهم بالتفوّق الأوروبي، ورأى البعض العودة إلى التراث الديني فظهرت حركة الاخوان المسلمين في مصر عام 1928 ووُلدت المملكة السعودية على عقيدة محمد بن عبدالوهاب عام 1934. ورأى البعض الآخر الذهاب إلى ديموقراطية علمانية أوروبية فنما الفكر القومي العلماني في سوريا ولبنان والعراق ومصر، وظهرت أحزاب شيوعية وقومية سورية وقومية عربية. ومن رحم العلمانيين في بلاد الشام ظهر حزب البعث وحركة القوميين العرب كما انتصر خط جمال عبد الناصر القومي العربي في مصر.

المارد القومي العلماني انتصر في بلدان العرب من اليمن إلى مصر وسوريا والعراق والجزائر واشتعلت ثورات محلية تطالب بالوحدة ومنها الثورة الشعبية في لبنان عام 1958 وثورة تموز في العراق الهاشمي في العام نفسه والتي كادت تمتد إلى الأردن الهاشمي. وأدّى انتصار القومية العربية في المنطقة إلى إنزال بريطاني في الأردن وأميركي في لبنان في صيف 1958. وشعر الغرب بالخطر، فبات إعلامه يقارن حكّام القاهرة وبغداد ودمشق بهتلر وموسوليني (راجع مانشيت “نيويورك تايمز” 3 و4 شباط 1958)، خاصة بعدما تجاوز عبدالناصر العدوان الثلاثي وأمّم قناة السويس واستلم حزب البعث الحكم في سوريا والعراق، وقامت ثورات في اليمن والجزائر وليبيا وانتشرت حركات جديّة في الدول العربية الأخرى.

“القوس الإسلامي” في آسيا وأوروبا

قبل الحراك الإسلامي عربياً، حقّق الاسلام السياسي نجاحاته في آسيا أولاً. ففي 1976، انطلقت حركة إسلامية مسلّحة ضد الرئيس ذوالفقار علي بوتو، الزعيم العلماني النزعة وبطل عدم الانحياز مع عبدالناصر وتيتو ونهرو. وعندما أمر بوتو الجيش بفرض الأمن في البلاد، قام قائد الجيش الجنرال ضياء الحق بانقلاب عسكري أطاح بالنظام الديموقراطي وأعدم بوتو عام 1977. وكان ضياء الحق ملتحقاً بدورات طويلة في أميركا وقاد قوات باكستانية لدعم الملك حسين ضد المقاومة الفلسطينية في الأردن. وعندما أصبح ديكتاتوراً، أعلن الباكستان دولة إسلامية وأنّ سياسته الخارجية هي التقرّب من الولايات المتحدة.

وكانت أفغانستان المجاورة للباكستان تحت حكم شيوعي تدعمه موسكو. ولكن في 1978 ظهرت معارضة إسلامية مسلّحة هناك أيضاً، أدّت إلى تدخّل عسكري روسي، ما أعطى فرصة لواشنطن لاشعال “فيتنام اسلامية” ضد الوجود السوفياتي. وأصبح ضياء الحق رأس الحربة الأميركية في أفغانستان بمساعدة وتمويل من السعودية ودول الخليج. ثم قامت الولايات المتحدة بحملة واسعة في آسيا والمنطقة العربية لبناء حركات إسلامية مقاتلة، ومنها “الأفغان العرب” الذين انبثقت عنهم جماعة بن لادن.

وفي 1979، وصل الاسلاميون إلى الحكم في إيران عير امتطاء ثورة ضد الشاه شارك فيها كل ألوان الطيف السياسي من ديموقراطيين وشيوعيين ورجال دين. لكن جماعة الخميني فرضت جمهورية ولاية الفقيه وقضت على القوى العلمانية.

ونجح المسعى الأميركي عام 1988 بضرب روسيا في أفغانستان حيث فاز الطالبان وأعادوها إلى عصور الظلام. ولم يمضِ عام أو أكثر حتى سقطت الكتلة الاشتراكية، وارتسمت معالم شبكة دول اسلامية “معتدلة” تسير في الفلك الأميركي وتشكّل صمام أمان للغرب في وجه روسيا والصين. وهكذا منذ 1990 وُلدت دول اسلامية في وسط آسيا على أنقاض الدولة السوفياتية (قرغيزيا، أوزبكستان، تاجكستان، وتركمنستان)، وفي آسيا حيث خزّان الاسلام الأكبر (اندونيسيا والباكستان). وامتدّ بناء القوس الاسلامي إلى أوروبا، حيث غرقت يوغوسلافيا في حرب أهلية كان عنوانها الكاذب في الإعلام الغربي “منح مسلمي البوسنة وكوسوفو حق تقرير المصير”، فدكّت طائرات الناتو بلغراد 78 يوماً. ثم اشتعلت “انتفاضة إسلامية” في أراضي روسيا من الشيشان إلى داغستان وأصبحت ولاية أذربيجان – الأقرب جغرافياً من موسكو – دولة مسلمة على علاقة وثيقة بالناتو، مع جارتها الكبرى تركيا عضوة الناتو حيث وصل الإسلاميون إلى الحكم أيضاً.

“القوس الاسلامي” في مرحلته العربية

بدأ أفول القوى العلمانية العربية عام 1967 عندما استطاعت اسرائيل هزيمة مصر وسوريا. وفي السنوات الثلاث التي تلت، ترك عبدالناصر مواقفه المبدئية وتصالح مع عرب أميركا وقبِل بمبادرة روجرز وعيّن أنور السادات، اليميني الاسلامي الهوى، نائباً له عام 1969. وكان السادات حتى قبل ثورة يوليو 1952 منتمياً للاخوان المسلمين ثم أصبح رئيساً لمنظمة المؤتمر الاسلامي عام 1955. وتوفي عبد الناصر عام 1970 في أسوأ وضع عربي حيث بدأت تنهار المنظومة القومية ومعها صروح الثقافة والأدب والسينما. واشتعلت حرب أهلية في الأردن بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني وبدأت ملامح حرب لبنان بمعارك بين الفلسطينيين والجيش اللبناني.

وباشر السادات مرحلة “الانفتاح”  الرأسمالي ومصالحة اسرائيل وطلاق موسكو. وربط نظامه بالعرب المحافظين وسعى الى القضاء على تراث عبد الناصر. فقام بحركة تطهير في أيار 1971، وشجّع الاخوان المسلمين ليعاونوه ضد اليسار المصري. وفي حين كان عبدالناصر يسخر من “جماعة أبو لحية” في خطاباته الشهيرة، اتخّذ السادات لنفسه لقب “الرئيس المؤمن” رافضاً أن يزايد أحد على اسلاميته. ففرض التديّن على الشعب واعتبر أي معارض هو شيوعي وعدوه الرئيسي (“دول شوعيين”). وظنّ أنّه سيضبط الجماعات الإسلامية فجرّ قادتها إلى السجون في أيلول 1980 ولكنّهم اغتالوه في تشرين الأول 1981 (لأسباب لا علاقة لها بفلسطين). وكما في مصر كذلك في سوريا، حيث اقتحمت جماعة الاخوان الساحة السورية بالقوّة عام 1976 في انتفاضة مسلّحة هدّدت كيان الدولة في صراع مرير استمرّ سنوات وحسمته معركة حماة في شباط 1982.

تقدّمُ الاسلاميين في العالم العربي كان دائماً على حساب القوى الديموقراطية والعلمانية والأقليات. فإذا شكى مسيحي لبناني لديبلوماسي أوروبي عن ظلام مستقبل الأقليات ازاء صعود الاسلام، سأله الديبلوماسي: “ولماذا ما زلتم أنتم هناك؟ ماذا تفعلون؟ كل دول الغرب تفتح أبوابها لهجرتكم” (هذا النوع من الحديث حصل).

لقد ظهرت تنظيمات خطيرة في مصر في عهد حسني مبارك ارتكبت أعمال عنف واسعة أضّرت بالبلاد وبمصالحها الاقتصادية الحيوية. واندلعت حرب أهلية بين الاسلاميين والجيش الجزائري عام 1991 استمرت سنوات، وطغى التيار الاسلامي في المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا والأراضي المحتلة، وانتشرت حركات وجماعات أصولية في الدول العربية بعضها يتخذ من أوروبا أو أميركا مركزاً له.

ثم احتلّت أميركا العراق عام 2003 وصوّرت الغزو بأنّه للقضاء على شخص صدام في حين كان الهدف تدمير العراق كدولة علمانية وتفتيت جيشه وقطاعه العام ونهب ثرواته، وتمزيقه إلى أقاليم إثنية ومذهبية وتسليمه إلى أصوليات شيعية وسنيّة. واتجه السودان نحو الفكفكة بضغط غربي حتى تم تقسيمه عام 2011 إلى دولة شمالية مسلمة ودولة جنوبية وثنية ومسيحية. وكانت ليبيا تظن قبل سنوات أنّ تقديم تنازلات وأموال للغرب يكفي ليشملها العطف الأميركي. إلا أنّها سقطت بأيدي الجماعات الاسلامية المسلّحة عام 2011 بدعم الناتو. ولا داعي لإضافة تفاصيل عن مصر وسوريا وتونس في هذا السياق، وهي بلدان تحدثنا عنها سابقاً.

استاذ جامعي – كندا

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى