صفحات الرأي

ثفالة تاريخنا تحكمنا/ حازم صاغية

يتبدّى اليوم، ونحن نعيش في المشرق العربيّ لحظة بالغة القتامة، أنّنا ندفع أثمان المفاصل التاريخيّة الكبرى التي مرّت علينا، مثلما مررنا عليها، مرور الكرام. فكأنّنا بتنا الآن مطالَبين بأن ندفع مرّة واحدة تلك الفواتير التي تراكمت عقداً بعد عقد، وكنّا قد ظننّا أنّنا تحايلنا عليها ونجحنا في تجنّب سدادها.

فمع انهيار السلطنة العثمانيّة وقيام الانتدابات الغربيّة التي أنشأتْنا على هيئة دول ومجتمعات، تخلّفنا عن اللحاق بذاك المستجدّ الكبير الذي افتتحه القرن العشرون ممثّلاً بانهيار الامبراطوريّات. ففي مطالع ذاك القرن تصدّعت، فضلاً عن تلك العثمانيّة، امبراطوريّة الهابسبورغيّين النمسويّة – المجريّة وامبراطوريّة القياصرة الروس، وإن أعيد إتناج هذه الأخيرة في قالب سوفياتيّ شيوعيّ.

لكنّ العقل السياسيّ السائد في منطقتنا آثر أن يرى التصدّع كنتيجة لتآمر الخارج علينا، لا كحصيلة انهيار داخليّ أطاح التركيبة السلطانيّة التي كفّت عن الحياة. وفي النهاية، استأنفنا الوعي الإمبراطوريّ في قالب من الدعوات العروبيّة والإسلاميّة العابرة للحدود الوطنيّة الناشئة. ولم تكن الدعوات تلك تستهدف التمسّك بنطاق حضاريّ وثقافيّ يُغني دولنا الوليدة، بل استهدفت، في المقابل، إحلال روابط العروبة والإسلام أساساً سياسيّاً لبناء دول بديلة لم يعد يتّسع لها الواقع.

في هذا كان أهل المشرق يفعلون ما فعله الشيوعيّون الروس حين أحيوا الامبراطوريّة القديمة في زيّ جديد، مع فارق أساسيّ جدّاً هو أنّ إحياءنا الإمبراطوريّ ظلّ لفظيّاً يعيق عمل الدول الوطنيّة من دون أن ينجب أيّ بديل فعليّ.

وجاءت نكبة 1948 وقيام الدولة العبريّة فوق معظم أراضي فلسطين التاريخيّة. إلاّ أنّ تلك التجربة المريرة لم تحفزنا على التفكير في موقعنا من العالم المعاصر، وفي الفوات الكبير الذي أتاح لإسرائيل أن تقوم وتهزم “سبع دول وسبعة جيوش” على ما جرى القول. بدل ذلك استولى الانقلاب العسكريّ الخلاصيّ على مجريات الحياة العربيّة، مصحوباً بأهازيج “تحرير فلسطين” و”الوحدة العربيّة”.

كانت التجربة غنيّة جدّاً، والدرس الذي استُخلص فقيراً جدّاً.

ثمّ قامت وحدة 1958 بين مصر وسوريّا لتنهار بعد أقلّ من ثلاث سنوات. لكنّ التجربة تلك، وإن صدمت الوعي الوحدويّ البسيط الذي يرذل كلّ داخل وطنيّ لصالح الكلّ العربيّ المفترض، لم تنجح في تأسيس وعي جديد ونقديّ يواكب اكتشاف الداخل الوطنيّ للبلدان القائمة.

فحين حصلت هزيمة 1967 المجلجلة، هربنا إلى الأمام من مواجهة معانيها ودلالاتها الضخمة، وكانت الثورة الفلسطينيّة هذا الأمام. ذاك أنّ الأخيرة رُسمت ردّاً على هزيمة طالت جميع مستويات الوجود السياسيّ والثقافيّ للعرب، من دون أن يُنتبه إلى تواضع قدرات تلك الثورة وإلى صدورها عن مجتمعات منقسمة أهليّاً وأبعد ما تكون عن الإجماع على “تحرير فلسطين” بأيّ ثمن كان.

ومرّة أخرى، جاء الدرس المُستخلَص أفقر من سابقه، لتجربة أغنى من سابقتها.

ومن دون أيّ اتّعاظ بالحرب الأهليّة اليمنيّة في الستينات، دخل الأردن حربه الأهليّة في 1970، ثمّ دخل لبنان حربه الأهليّة الأكبر والأشرس والأطول في 1975. وعلى امتداد هذه السيرة الدمويّة، بقي من غير المألوف ربط الحروب الأهليّة بالشعارات الإيديولوجيّة الفخيمة التي تشقّ مجتمعات لا يزال نسيجها الوطنيّ هشّاً، أو ربطها بأنظمة الاستبداد العسكريّ ذي اللفظيّة القوميّة والتي تتطلّب الحروب في الكيانات الأصغر (لبنان، الأردن، الفلسطينيّين) من أجل إدامة السلطة في الكيانات الأكبر (سوريّا الأسد وعراق صدّام).

ولم يكن بلا دلالة أنّ شرائح المثقّفين ردّدت، في الأساسيّات، نفس ما كانت تردّده أنظمة الاستبداد العسكريّ ذي اللفظيّة القوميّة. لقد كان الخلاف ينحصر في أنّ أولئك المثقّفين أرادوا من صدّام حسين وحافظ الأسد ما يكفي من “الحرّيّة” لمقاتلة إسرائيل وأمريكا!

وحين شذّ أنور السادات عن هذا المجمّع من الخرافات المهلكة، خُوّن وشُهّر به إذ أنّه “تخلّى” عن معركة “قوميّة” ما لبثت أن خيضت في لبنان عام 1982. بيد أنّ اللبنانيّين والفلسطينيّين تُركوا وحدهم في هذه المعركة التي عزف عنها سائر “القوميّين”. وعندما أراد ياسر عرفات، المثخن بجراح الأخوّة القوميّة، أن يشقّ طريقه الوطنيّة الخاصّة، عولج بالتخوين نفسه الذي سبق أن عولج به السادات.

ولم نخرج بدروس أغنى من حرب العراق الصدّاميّ مع إيران ثمّ غزوه الكويت. فلقد أمعنت الحربان في هلهلة النسيج الوطنيّ والأهليّ لبلدان المشرق، ودلّلتا مرّة أخرى على حاجة هذه الأنظمة إلى الحروب فيما أدخلتا الكراهية المتبادلة إلى كلّ بيت عربيّ. وما ابتدأه عراق صدّام حيال الكويت كانت تُكمّله سوريّا الأسد حيال لبنان والفلسطينيّين، وهو ما تُوّج فلسطينيّاً بـ”الحرب على العرفاتيّة”، وسوريّاً باغتيال رفيق الحريري. وفي هذه الغضون، ومع انقشاع كلّ هذا العفن في العلاقات الأهليّة كما في العلاقات العربيّة – العربيّة، أطاحت القوّات الأمريكيّة نظام صدّام حسين.

لكنّ تلك الأحداث المفصليّة كلّها لم تنجح في تأسيس وعي مطابق لها، يستنتج منها ضرورة الصعود إلى سويّة بناء الدول الوطنيّة. وهي أيضاً لم تستولد حسّاً عربيّاً بالمسؤوليّة حيال العراق الجديد. وفي النهاية تفسّخ طائفيّاً ذاك التضافر الذي جمع أكثريّة اللبنانيّين في 14 آذار (مارس) 2005، قبل أن يتفسّخ على نحو أكثر دراميّة عراق ما بعد صدّام.

فحينما اندلعت الثورات العربيّة كان عفن العسكر ينافس عفن اليأس الإسلامويّ الراديكاليّ على استخراج أسوأ ما فينا واحتلال المشهد برمّته.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى