صفحات الثقافة

ماذا يجري في ظلام صالات السينما السورية؟/ عامر م الملا

 

في غيابها ووجودها، السينما السورية باقية، وشُعلة الأهداف السامية لا تقف عند إعادة إعمار هذه الصالات أو لا، بل بكفاح سينمائييها وصنّاعها الراجين أن يسموا بها في البعيد، وفي جعلها مادة دسمة تُقدم للناس كي يصفّقوا ويهلّلوا ويُكبّروا من شدّة جمالها. تقديم السينما وصناعتها هما العبء الأول والأخير، وفي غياب الثقافة السينمائية الجمّة للناس، فإن دور العرض لا تثير اهتمامهم. يقول أحدهم: هذا ليس كلاما يُقال. يبدو حقاً أنه خطاب حزبي سينمائي شبع من مساحيق التجميل، حتى خرج بهذه الحلة الباهتة التي وإن دعت إلى التصفيق فهي مكرهة على ذلك. كيف يجرؤ أحدهم على الطعن بالثقافة السينمائية للناس، ويضع ذلك مبرراً يجعل من دور العرض هذه الأيام مرتعاً لخيوط العناكب، وطبقات الغبار السميكة؟ أو يأتي أحدهم ليضع الأزمة التي تمرّ بها البلاد عذراً، لتبرير قلة الاهتمام بها؟ هذا رأي أكثر سذاجة. جوانب الحياة كلّها في البلد تراجعت أعواماً إلى الخلف، إلا ان دور العرض هذه، ومنذ سنين عديدة قبل الأزمة، تعاني «جفافاً»، إذ أغلقت أبوابها منذ أعوام في وجه السينما والسينمائيين، وشرّعته بوجه الـ «سيلما» والـ «سيمائيين». الـ «سيلما؟ اصطلاح لأشباه الفن السابع، الذي وجد في الشباب السوريين هذه الأيام ملجأً له كي ينجو بنفسه من أنياب المتحذلقين الذين ينمون بفكرهم مترين إلى الأمام، في مقابل شحّ من هذه الصالات بمقدار مترين إلى الخلف.

في قلب العاصمة، كنا نعلم أن إحدى صالات العرض مغلقة لأعمال الصيانة. إلا انها كانت تحتوي على «بسطة» لبيع الدخان، وعربة تبيع غزل البنات، وطاولة خاصّة بلعبة الـ «بينغ بونغ»، وطاولتي «فيشة» معنيتين بكرة القدم. كانت دهشتنا لحظوية، حيث إيماناً منا بالمفارقات الجميلة، دخلنا ولعبنا. شباب سينمائيون طموحون يلعبون الـ «فيشة» في صالة سينمائية. ضحكنا من أنفسنا وعليها، عمّا آلت إليه السينما في هذا البلد. لماذا الاستخفاف بعقول الناس، حتى توضع ثلاث طاولات لعب في بهو صالة عرض مغلقة منذ زمن بحجة أعمال الصيانة؟ من المفارقات الشائعة، التي باتت عرفاً، أن غالبية صالات العرض تلك، الخاضعة للملكية الخاصة، أهملت الفحوى الرئيسي لوجودها، أو ربما نسيته أو تناسته، فبدأت بإرضاء المراهقين والمراهقات. بثمنٍ بخس يدفعه المراهق، يدخل برفقة مراهقته الصالة المعتمة ذات الفيلم، ويتّخذ أبعد نقطة ملائمة لهما، لساعاتٍ طِوال، يعرض خلالها أكثر من فيلم، ولا أحد من موظفي الصالة يقول له «ما أجمل الكحل في عينيك». تبدأ المشاهد الإباحية على المقاعد المخملية، التي تفوق بجرأتها ودقتها إباحية المشاهد على الشاشة. هذا يعني فيلماً على المقعد، وآخر على الشاشة.

يا للسخف. ألف مقعد فارغ، وعشرة مقاعد ممتلئة. ولا عين ترمش نحو شاشة العرض تلك. ويخرج لك من يصيح مهلّلاً: «من يتحمّل المسؤولية؟». المسألة بسيطة: هناك قاعدة جميلة تقول إن لم تستطع التخصيص، فعمِّم. الأطراف كلّها تتحمّل المسؤولية، وعلى رأسها الجهات المعنية بالأمر بشكل مباشر وفعلي، بسبب غيابها عن الرقابة المباشرة على دور العرض هذه، وعدم طيّها تحت جناحها، بعد فشل مُلّاكها في إدارتها، وتشويههم من خلالها ثقافة الفن السابع، الذي بدأ بالاضمحلال في عقول الناس. بالإضافة إلى القائمين عليها: مُلّاكها، أصحاب الليرات المتسخة، الذين يبثون فِكر الأفلام التجارية جداً، التي لا ناقة لها ولا جمل من الثقافة السينمائية، والتي تتبلور في عقول الشباب اليوم، بغية شحذ غرائز عشرة مراهقين وتأمين غلّة اليوم.

لا يمكن لوم المراهق الذي يقصد هذه الصالة للتسيلة. فقداسة المكان لم تصل إلى تفكيره. وهذا ما ساعدت به دور العرض هذه. جديرون بالثقة أولئك الذين يعترفون بأخطائهم ويسارعون إلى إصلاحها. لكن، أين هم من هذا الانجراف الحضيضي لروح وقداسة السينما السورية عبر قرن من الزمن؟ أتوا بالكثير، وصنعوا الكثير، ولم يصل منها إلى المشاهد إلا الفتات. هذا ما يحدث هذه الأيام.

لا بد من أن تعود. السينما السورية يجب أن تنهض بدور عرضها مرة أخرى راضيةً مرضيّة. فوجبة الأرز لا تؤكل بالشوكة والسكين أيها المشاهد المسكين.

عامر م. الملا

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى