صفحات سورية

سورية وتركيا.. بداية حرب باردة


عبد الرحمن مظهر الهلوش

تشكّلت سورية وتركيا الحديثتان في مجال جغرافي وتاريخي وثقافي متقارب، وقد قارب ذلك ما أمكن بين الأطراف، أو هو قلّل من مخاطر التوتر. كما أن العداء لإسرائيل (والغرب)، كان يُقرِّب سيكولوجياً بين الشعوب في المنطقة العربية وتركيا.

لقد عملت تركيا وسورية وفق حسابات إستراتيجية معقدة وحاولت كلاً منهما التأكيد على إنها لاعباً لا يمكن تجاوزه. وقد لَعِبَ الضعف العربي في مراحله المختلفة دوراً في تسريع تقبل الدور التركي عموماً، ولا سيما من الأنظمة المتوجسة من النفوذ الإيراني في المنطقة العربية في المشرق العربي ودول شمال إفريقيا العربية.

حيث تمتلك تركيا وإيران من ميزات القوة ما يؤهلهما إلى لعب دور في المنطقة في ظلّ التوازنات الدولية المعقدة. وفي ظلِ تفجر الأوضاع في الشرق الأوسط، ظهر الدور التركي للبعض أكثر حضوراً.

وقد بدا الدور التركي محاولاً التمدد في الفناء الخلفي لتركيا دون استثارة النعرات العربية كقوة تسعى للهيمنة.

وقد جاءت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى أنقرة في كانون الثاني/ يناير 2004 وهي أول زيارة لرئيس سوري لتركيا منذ عام 1946 لتشكل بداية توافق سوري تركي. وقد أشار البعض أن هذا التقارب لم يكن ليحدث لولا ضوء أخضر أميركي بذلك.

والهدف الأميركي فك الارتباط بين دمشق وطهران أما دمشق فكانت لها حساباتها الخاصة وهي تتعلق أساساً بالوضع مع إسرائيل. وقد بدأت تركيا تلعب دوراً مؤثراً لم يكن موجوداً منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.

حيث تكثف سورية في موقعها الجيوبوليتيكي كل توازنات الشرق الأوسط. وتمنع سورية تركيا عن عمق شبه الجزيرة العربية، وسورية هي متنفس لبنان الجغرافي الذي يعطيه معناه المَدَوي.

إن حدود لبنان مع سورية (في الشرق والشمال) يبلغ طولها 278كم من أصل 570 كم هي مجمل حدود لبنان، وتشكل ما نسبته 49′ من الحدود مما يعني إن نصف حدود لبنان هي مع سورية، وبالنسبة لطول الحدود السورية البالغة 2413 كم فإن حدود لبنان تشكل 11.5′ منها.

وتقود هذه الحقيقة إلى نتيجة جيوبوليتيكية فائقة الأهمية مفادها أن سورية كانت ومازالت الرافع الحصري للأدوار الإقليمية في المشرق العربي، وبحيث يبدو الصراع الراهن عليها كما كان دائماً في المنطقة مجسداً لجوهر الصراع في المنطقة.

كانت سورية ولا زالت جزءاً أساسياً من التصعيد والتهدئة الإقليمية، فقد نجحت دمشق خلال العقد الماضي على الأقل في جمع تناقضات التصادم الإقليمي بين المشروعات المختلفة ووظفته لمصلحتها.

دائماً سورية لاتحسم خياراتها السياسية بتسرع إنما تترك الباب موارباً أمام الأطراف كافة، فتصبح في وضع يمكنها من حسم خياراتها وفق مصالحها.

لذلك كانت سورية دائماً تنظر إلى تركيا نظرة يشوبها الغموض وقد تأسس التوتر في العلاقات السورية التركية على مسار طويل من التراكمات السياسية التي كان يطبعها عوامل تنافرية كبيرة. ابتداءً من قضية المياه (دجلة والفرات) باعتبار أن تركيا هي دولة المنبع وسورية والعراق هما دولتا المصب، إلى الأكراد، والنزاع على الجغرافية (لواء الاسكندرونة والحدود الحالية)، والسياسة الإقليمية عموماً.

وقد تَرَكَّزَ اهتمامُ سورية وتركيا في الشؤون الإقليمية والدولية على دائرتي نشاط رئيسيتين، بالنسبة لسورية الاهتمام بدائرة الصراع مع إسرائيل وكسب مزيد من الأصدقاء لها، أما تركيا فتركز نشاطها على كسب أسواق جديدة لصناعتها الناشئة ومزيد من مناطق النفوذ لأسباب ذاتية أولاً ولتحالفات دولية وإقليمية ثانياً.

فقد رأت كلاً من سورية وتركيا نفسيهما في دائرة ضيقة من الصراع في الشرق الأوسط على الرغم من التقارب المعلن عنه بين الدولتين. لقد كانت الحدود السورية التركية طيلة الحرب الباردة نقطة حدود ساخنة بين الشرق والغرب. إلى أن جاء اتفاق آضنة عام 1998 ليشكل محطة تبريد مؤقتة لسخونة العلاقة التركية، السورية. فقد تمَّ عقد عدة اتفاقيات سياسية، اقتصادية، ثقافية، ولكن العلاقات والتحالف التركي السوري هناك من أطلق عليه ((تحالفاً استراتيجياً))، إلى أن الحيطة والحذر كانت نقطة التقت حولها قيادة البلدين.

وهذا ما تبين اعتباراً من بداية انطلاق الاحتجاجات في سورية (15/3/2011) ونشوب أكثر من أزمة دبلوماسية بين البلدين، وقد أرادت كل دولة الإيحاء للأخرى بنواياه الطيبة مقابل إصدار بيانات تتضمن تهديدات ((مبطنة)) بامتلاك كلِ منهما أوراق ضد الأخرى.

ونتيجة احتضان تركيا للمعارضة السورية على أراضيها(السياسية والعسكرية) فقد وصلت العلاقة بينهما إلى نقطة اللاعودة. فقد طبع العلاقات السورية التركية على الصعيد الخارجي افتراق بنيوي على صعيد اتجاه صانع القرار التركي وذهنية القرار والمأمول السياسي، فأسباب التنافر باتت هي المسيطرة على علاقات دمشق أنقرة، فهناك تداخل ديموغرافي بين البلدين ويشمل العراق إيران ربما يشكل ورقة ضاغطة تجاه تركيا وقلقاً (حدودياً، إثنياً، وحتى الوصول إلى’ حق تقرير المصير’ وذلك لهشاشة النسيج الإثني في تركيا وحتى قابليته للتفكّك، سواءً على أسس عرقية أو ثقافية أو مذهبية أو على أساس عدم استقرار العلاقة بين الدولة والمجتمع(الأكراد 20-30’، العرب2’، الشركس0،5′ ،الجورجيون0،5’، أرمن، الكلدان، بوسنيون، ألبان، شيشان، بلغار، لازيون..الخ، كل ذلك يمنع تركيا حتى الآن من اتخاذ موقفاً نهائياً تجاه سورية.

إنَّ البعد الاقتصادي وحده لم يكن هدفاً للتقارب السوري التركي، ولن يستطيع الاقتصاد حسم ودفن خلافات عمرها أكثر من قرن من الزمن فقد دخل البلدان اعتباراً من عام 1923 في قضايا خلافية وسباق نحو احتواء كل طرف للأخر، وقد ساهمت السياسات الغربية في خلق نوع من عدم الثقة بين البلدين وصلت إلى حد التهديد باستخدام القوة بين البلدين في تشرين الأول 1998.

يبدو أن القضايا الخلافية بين كلاً من سورية وتركيا قد أعاد الحديث عن حزب العمال الكردستاني بقوة الآن وكانت وما تزال قضية المياه والحدود كلها تشكل تفاعلات متزايدة بين الجانبين، لم تحل على أساس جدي وعملي، فتلك أوراق لا يحبذ أي جانب إنهائها لأن التنافر في العلاقات على المستويات الإقليمية وحتى المحلية أصبح مؤشرا على بداية حرب ‘باردة جديدة’ تتخللها تجاذبات براغماتية تحدّ من اتخاذها شكلاً متطرفاً ولكن على أية حال شهر العسل بين الجانبين قد انتهى.

‘ صحافي وكاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى