روزا ياسين حسنصفحات الناس

راقصون تحت المراقبة… من يومياتي في بلاد الأب القائد/ روزا ياسين حسن

 

 

ذات يوم عثرت على صورة فوتوغرافية غريبة مدسوسة لسبب ما بين صوري الشخصية: مجموعة من طلاب مدرستي، وأنا معهم، ندبك في حلقة كبيرة بحماسة مثيرة للاستغراب! فوقنا هناك لافتة كبيرة بيضاء مكتوب عليها بالأحمر: “عيد الحركة التصحيحية المجيدة بقيادة الرفيق المناضل حافظ الأسد”.

ما الشيء الذي حدا بي للرقص في حلقة الدبكة في ذكرى الحركة التصحيحة؟! هذا الأمر الذي لم أجد له جواباً! فلم يكن قد مرّ وقت طويل على العقوبة الصارمة التي كتبها معلّم: “التربية القومية” بحقّي حين قلت له بخجل خائف: لا أريد الانتساب لحزب البعث!

معلّم “التربية القومية” هو في الحقيقة رجل الأمن الأول في المدرسة، رئيس الفرقة الحزبية والمسؤول عن شعبة الحزب في المنطقة، جحظت عيناه في وجهي وهو ما يزال يحمل طلب الانتساب إلى الحزب بيده: ماذا قلت؟! أعيدي مرة ثانية!

ذهب صوتي فجأة! لم يعد ثمة طاقة داخلي لتخرج الصوت. همست: لا أريد الانتساب إلى الحزب!

– لماذا؟ كل رفاقك كتبوا طلبات الانتساب!

كان يحمل عشرات الطلبات التي أجبر الكثير من الطلاب في صفّي على توقيعها، والتي سيصبحون بموجبها مشاريع أعضاء في حزب البعث: الحزب الحاكم.

لم أعرف ماذا أقول! كان صوت أبي يتردد في أذني: لا توقّعي مهما فعل، مهما هدّدك أو أخافك.. لا توقعي.

– لا أحب السياسة.

أجبته بسرعة.

– ليس مطلوباً منك أن تحبّي السياسة، ولا أن تعملي بها.. هذا مجرّد طلب للانتساب إلى الحزب!

– أرجوك أستاذ افهمني.

– هل أنت منتسبة إلى أي حزب آخر؟!

– لا، أعوذ بالله أبداً أبداً!!

– هل تفكّرين بالانتساب إلى أي حزب آخر؟!

– لا، أعوذ بالله أبداً أبداً.

كنت أسمع طرقات قلبي، ومعلم “التربية القومية” يهدر بأنني سأندم. بعد لحظات من خروجه أدركت بأن الصمت كان طاغياً في الصف، وأن جميع رفاقي كانوا واجمين ينصتون لحديثنا. في لحظة واجهت أكثر من خمسة وثلاثين زوجاً من العيون: عيون مذهولة، عيون متعاطفة، وعيون كارهة. كان رفيقاً لي بعينين معجبتين ذاك الذي قال: برافو، ولكنه لن يمرّر الأمر على خير!!

رفيقة أخرى أتت إليّ وهمست مطوّحة بجديلتها الطويلة:

– “أنت غبية! لم كل هذا؟! وقّعي طلب الانتساب ولا تحضري الاجتماعات الحزبية، ولا تفعلي شيئاً! على العكس استفيدي منهم، لأنك سـتأخذين في الباكالوريا علامات إضافية. هم يريدون منّا أن نكون كلّنا في الحزب. أوكي، لنعطهم ما يريدون ونأخذ ما نريد. غبية أنت!!”.

عندئذ كان علينا أن نسرع إلى درس “التربية العسكرية” فالمعلمة “سلوى” تنتظرنا غاضبة كالعادة. راح الهباب الساخن يخرج من أفواهنا، ونحن نرقص من البرد في الساحة المفتوحة أمام المدرسة، ذلك أنه كان علينا أن نخلع سترنا ونبقى بالزي العسكري الموحدّ، زيّنا المدرسي الدائم. كانت المعلمة “سلوى” قد انتهت للتو من موجة جنون تلبّستها حالما لمحت شعر إحدى الطالبات حراً طويلاً ويلتمع. أمسكت بخصلها الطرية وهي تزعق: رائحة الكريمات واصلة لعندي.. مفكرة حالك رايحة ع عرس.. حيوانة..

وشحطت الطالبة من شعرها عبر الساحة باتجاه صنابير المياه، وهناك أقحمت رأسها تحت إحدى الصنابير وفتحت دفق الماء البارد لينهال على رأس الطالبة التي لم تجرؤ حتى على الصراخ. بعد أن ابتل شعرها كله دفعتها المعلمة باتجاه الحائط وزعقت: سوف تبقين هنا حتى نهاية الدوام.

فيما كانت الطالبة سيئة الحظ لاتزال ترتجف وشفتاها ازرقتا، راحت المعلمة “سلوى” تدور بين صفوفنا المرتّبة كجيش ذاهب للتو إلى المعركة. ليست صفوفنا وحدها التي كان عليها أن تكون كصفوف الجنود ولكن أشكالنا أيضاً، أي ملمح أنثوي قد يبدو على إحدانا سيكون كفيلاً بجعلها تدفع الثمن غالياً: ظفر خرج قليلاً عن الأصبع ستحفّه المعلمة بالحائط حتى ينزل الدم من السلاميات! جوارب ملوّنة مخفيّة تحت البنطال العسكري الطويل ستجبر مرتديتها على أن تقطع الساحة المكشوفة أربع مرات زحفاً على أكواعها وركبها!

لكن الوحش الذي كان داخل المعلمة “سلوى” لم يبد واضحاً للغاية كما تبدّى يوم أخذونا إلى “تدريب الرمي”! في ذاك الصباح الربيعي وضعونا كلنا في شاحنة عسكرية مفتوحة، يمكنهم نقل الخراف فيها ببساطة، وإلى حقل عارٍ إلا من الدرايا أخذونا جميعاً. أنصتنا إلى طريقة فكّ الكلاشنكوف وتركيبه والتصويب به، نحن اللواتي لم تتجاوز أكبرنا سنواتها الست عشرة. كان الصمت يعمّ الفضاء، وكنت أسمع طرقات قلبي المذعور، كذلك عشرات القلوب الأخرى التي تختبئ تحت بذاتنا العسكرية. حين أتى وقت الإطلاق راحت رفيقتي تنتحب بصوت عالٍ، ووجدتني أنتحب معها! رفيقة أخرى راحت تترجّى المدرب أن يرحمها ويعفيها من هذه الكارثة. ثمة رفيقة تمددت قبلنا على الأرض، وضعت الكلاشنكوف أمامها وهمّت بإطلاق النار على الدريئة (حَلْقَة أَو دائرة يُتعلَّم عليها الطعن والرَّمي) فأغمي عليها. الرفيقة التي كانت بجانبها راحت تولول، وقد اعتقدت بأن رصاصة طائشة ما أصابتها. هنا في هذه اللحظة بالذات هجمت المعلمة “سلوى” على الطالبة المغمى عليها، صفعتها عدة صفعات رنّ صوتها في الجو قبل أن تهزّها بجنون وهي تزعق عليها أن تستيقظ! حين شقّت الطالبة عينيها محاولة أن تستوعب ما حصل، كانت صفعة أكثر هولاً من سابقاتها تنتظرها. تدريب الرمي ذاك، كان يلخّص شكل حياتنا كمراهقات في المدرسة.

لكن ليس هذا ما كان يجعلنا نتعامل مع مدارسنا باعتبارها ملكاً للآخرين. كنا نحفر على خشب المقاعد بأية أداة حادة نمتلكها. كنّا نكتب أسماءنا، نرسم قلوباً، وأحيانا يكتب بعضنا كلمات بذيئة، وحتى حيطان حمامات المدرسة وأبواب المراحيض كانت تمتلئ بالرسوم الجنسية. لكننا لم نكن نشعر بأن ما نفعله خاطئ. حتى حين كنا نأتي صباحاً لنرى بعض المقاعد مكسّرة، وعلى الجدران واللوح رسومات بشعة وشتائم، كان الأمر يثير ضحكنا المكبوت. لم يكن الأمر يجعلنا نشعر بالذنب! فالمقاعد ليست مقاعدنا، والمدرسة ليست لنا، تماماً كما كانت الشوارع ليست لنا، فلا ضير من إلقاء الأوساخ فيها، وكما كانت المرافق العامة، الأرصفة، الحدائق، وحتى الأشجار ليست لنا! كان لدينا إحساس مقيم، لكنّه غير واعٍ، بأن مدينتنا ليست لنا، ولا نملك منها شيئاً! ولسنا سوى ضيوف في بلاد يملكها “الأب القائد” وحزبه.

أما لماذا كنت أدبك مع رفاقي في ذكرى “الحركة التصحيحية المجيدة”؟! فهذا ما لم أجد له أجوبة وافية! هل هي حالة القطيع التي تسحبنا إليها كهاوية؟ هل كانت بسبب الخوف، لأن كل من لم يشارك في الاحتفال كان معرّضاً للمساءلة، فعيون معلم “التربية القومية” تحفظ كل وجه وحركة للحاضرين، كما كاميرا المصوّر الفوتوغرافي الفورية التي تحفظ كل شيء! لكن لماذا كان هناك مصور فوتوغرافي في احتفال مدرسة؟!

حين عدت مساء إلى البيت ومعي الصورة تأملها أبي بوجه مجعلك، ثم زفر: ولماذا كل هذا الحماس لتدبكوا في ذكرى الحركة التصحيحية؟! تبدون كالقرود..

هذه الجملة لن تفارق ذاكرتي يوماً، وستجعلني أحرص ألا أكون كالقرود يوماً، تلك التي ترقص قطعاناً في ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة!

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى