صفحات الثقافة

رحلة في سهول حوران: لم ينج أحد من قبل فهل يحق لنا أن نقول: لقد نجونا؟

 


فاروق يوسف

‘ أتحبون الموتى حقا؟’ الميت يرحمه الله الذي كتب على نفسه الرحمة. المحظوظ تتأهب أصابعه ولا تقوى على أن تطوي صفحة من كتاب.

رأيت الجنود على طريق حوران وقد طحن وجوههم شعور عميق بالعدم. فجأة يصير الاعدام نوعا من الواجب. الجزء المكتظ بالغبار الانيق مثل دمية الناشف بحنجرة خاوية. أحدهم حاول التنفس فخنقته الصيحة. صرخ بثيابه. لبندقيته فم غراب. في تلك البرية كنت الاعزل الخالد. فتى كافكا المستعد للموت برهافة بلبل. ‘ الموت أخيرا’ لا يهم إن جاء على هيئة كلب أو مثل ناقة. كان السائق يردد كلما أوقفنا قاطع: ‘ تذهبون إلى الحرب إذن؟’ ما من أحد منهم جرؤ على النظر إليه. الحكاية لن تكتمل إلا بقتلي أو قتله. أقصد السائق الذي صارت السهام تلمع في عينيه. ظننت أن في الدمع حلا من نوع متأخر.

‘ سنشبع موتا’ قال وبكى. شعرت بالذنب. لن يأكلنا الذئب هذه المرة على الأقل. قال الجندي من غير أن ينظر إلينا: ‘ ستنتظرون طويلا أو تأخذون الجهة اليمنى من الشارع لتعودوا إلى الشام’. كان مذعورا بنبل، زوجته تناديه من المطبخ. مثلنا هو يود العودة إلى البيت. ‘ كانوا قصار القامة. هل لاحظت ذلك؟’ ثم أضاف: ‘ قبل القتل يصغر جسم القاتل الذي لم ير قتيله بعد. أللقتيل وجه؟’ كان السائق يهذي. كانت أشجار الزيتون في الحقول البعيدة هي الأخرى تهذي. هؤلاء الجنود لن يعودوا إلى بيوتهم. آخرون يشبهونهم سيجلسون قريبا من أسرة أطفالهم. آخرون سيغازلون زوجاتهم بندم مفزع. آخرون سيأكلون أصابعهم فيما ‘ الشيف رمزي’ يضع صينية البطاطا في الفرن. جيراننا من القتلة كانوا مذعورين أكثر منا. أمس تساءلت وأنا أنظر ببلاهة إلى شاشة التلفزيون: ‘ مَن يقتل مَن؟’ بعد كل هذه الفوضى يعود المرء إلى بيته فارغا. كانت وسام الحداد قد سبقتني في إحدى جادات باب توما. من أجل أن نصل إلى البيت سالمين علينا أن نمشي فرادى. المفرد هو الحل. لم تسمعني وسام. الجنود كانوا افرادا. حركتهم لم تكن منتظمة. القتل لن يكون نظاميا إذن. الظهيرة لهم ولنا الفجر المقبل. ‘ حينها ستكون في عمان وأنا في بيتي الدمشقي’ يقول، فأقول له: ‘ الحياة ممكنة إذن؟’ يضرب بيديه على مقود السيارة ويهتف: ‘ اللعنة. اللعنة على الأحياء’ كان لا يزال يبكي. تذكرت الجميلة في الفاصلة بين قداسين. هللوا يا. عثرت على باب الكنيسة بعد أن مشيت وراءها متعثرا بين الأزمنة. هللوا يا. طفلك الضائع، خاتمك الذهبي وعصارة نشوتك ونبي ضلالتك. ‘ هل كنت تمشين؟ الدمشقيات لا يمشين. كان ديك الجن من حمص، لكن حبيبته التي أقسم بنعليها ألم تكن شامية؟ ( فوحقّ نعليها وما وطىء الثرى / شيء أعز علي من نعليها). أنظر إلى حجارة الشارع باحثا عن أثر للحمامة. لقدمي خفة الطفل الذي كنته، للفراغ فم البندقية.

في براري حوران يمشي الرهبان العزل مثل جملة طويلة.

ما إن ارتدى الجندي بدلته فجرا حتى قرر أنه ذاهب إلى القتل. لا عوائل للمتحاربين. لا زوجة في المرآة. لا أم في المنديل. لا أخت في الدعاء ولا أب في الصومعة. لقد بلينا ولن نتجدد إلا بالقتل. الأبناء نائمون في المدرسة والمؤذن يطرد الذباب عن صينية البقلاوة. سنتآخى يوما ما. بمعنى أننا سنكون أخوة بعد كل عناق. خُيل إلي أن الجندي الذي يقف أمامي في لحظة ذعر مشتركة قد نزع نفسه من فراشه فجرا ليكون الوحش الذي تخيلته الحكاية. ولكن الجميلة نزعت أنيابه فبدا أدرد. لن يشاركني أحد الضحك في هذه اللحظة التي صارت نوعا من الاسلوب التمثيلي المستعاد. ولكننا نعين القتلة على الاستبداد من خلال تماهينا مع الالم. نفرحهم. ليت المسرة تمر من جوارهم ولا تخترقهم. ليتها تقف مثل تمثال شمع فلا تدلهم إلى مغزى بعينه. كونوا قردة. كونوا خنافس. كونوا حجارة الطريق التي لن تقع عليها خطوات حلوتي. العذاب لكم لأننا نضحك. البؤس لكم لأننا نتسلى بتقشير الفول الأخضر. الوحوش تأكل الكلام وحده. ‘ منحبك’ السجادة رطبة والقدمان مبلولتان وفمي يابس. أقترح على سائقي أن نكون صديقين. له مقود السيارة ولي النافذة. يضحك. قلت: تحقق غرضي. سيجعلنا منطق الفراشة قادرين على أن نلعب مع الموت مثلما يلعبون. الضرورة تحكم. فتيات مثل حبات البسمتي يمكنهن أن يرتوين في لحظة النضج الغامضة.

من امتزاج الأخضر باليابس تُشتق حالة ثالثة.

كان الجنود الذين غادروا أسرتهم فجرا منهمكين في تقشير الرغوة. تمثيل دور القاتل في مسلسل تركي لن يكون مضرا. بالنسبة للفاتنات اللواتي يظهرن شغفا مفرطا في القتلة لن يكون القاتل جبانا ولا مهزوما. ‘ أقتل من أجلك’ لم يقلها أحد. تلك كذبة. فالقتل حكاية أخرى. لا يهم في الحقيقة إن جاء القتل على هيئة مبتدأ أو كان عشاء أخيرا. القتل هو القتل مجردا وبعده تأتي نقطة طويلة. مَن قتل فجزاؤه النار خالدا فيها. هناك لا يعثر المرء على حوريات ولا على خمر ولا على لبن ولا على حقول خضراء للنزهة ولا على بحيرات ولا على سيجار هافانا. كانوا صغارا وكانت أشجار الزيتون قصيرة. الفضيحة كاملة. فكرت في مصير القاتل. طبيعي ان لا يفضل المرء أن يكون قتيلا، ولكن هل القاتل بديل مناسب؟ قال أخيرا بحنق: ‘ اذهبوا إلى عمان’ كما لو أنه يفتح أمامنا بابا تؤدي إلى الجحيم. قال السائق بتهذيب لافت: ‘ شكرا’ لقد انتصرنا.

عودوا إلى ثكناتكم. عودوا إلى جوامعكم. عودوا إلى حاناتكم. لدي نداء أخير.

الأرض التي تسقط عليها القدم هي الأم المثالية. سيدة المسرات ونبوءة الخالق وحصان المعجزة. ولهذا نكون هناك مثلما نكون هنا. الإبرة في النسيج والعين على المطحنة والهلاك يدفعنا إلى التفاؤل. دائما كان القاتل يتخذ هيئة شبحية، نوعا من خيال الظل. لا يجرؤ أحد ما على توقع انبعاث قاتل. القاتل لا يصنع ذاته المضادة. ولن يكون القتل أسلوب حياة. ‘ لكنهم قتلة. أقصد سيكونون كذلك بعد دقائق، في العمر الذي لم يعشه أحد’ يقول السائق. لهذا ستكون الجميلة مريضة اليد التي تطعمها. سيكون القداس ناقصا ولن تنفع ‘ هللوا يا’. أبدأ من لحظة التشفي لأتخيل القتل النهاري. صمت حوران كذبة. أشجار الزيتون تكذب. ذلك الجندي الذي لم تعد ثيابه تكفيه هو الآخر يكذب.

لقد سقطنا في العدم.

‘ يائسا من يديك أذهب مباشرة إلى فمي’ قلت للجميلة ونحن نقف في باب الكنيسة. حدث ذلك يوم قيامته. ‘ ألا يزال لديك شك في أنه لم يقم؟’ تسألني. ثدياها يتنفسان وفمها يرتجل هواء يشبهه. دمشق العتيقة صامتة ودروب الهوى موحشة. رويت لها أني التقيت امرأة في زقاق قصير ضيق. حين سألت المرأة عن اسم ذلك الزقاق ابتسمت بحياء. رفعت رأسها إلى سلة ورد تتدلى من إحدى الشرفات وقالت: ‘ شارع العشاق’ لم تنتظر ردة فعلي بل سبقتني إلى الخروج من ذلك الزقاق. رويت لها اني صرت ألاحظ بعدها مشاهد العشق التي لم أكن منتبها لها من قبل. حينها أمسكت بيدي وصارت تمشي بي وهي تقول: ‘ لنمض إليه’. تكفي تلك اللحظة يا عمري لنقول ان القطار قد وصل بنا إلى محطة ما. ‘ لا تنظر من النافذة’ قال لي السائق وأضاف’ ‘ كلها حوران’. كلها أرض مالك إذن. أيا شجر الخابور مالك مورق / كأنك لم تحزن على ابن طريف. أفلت العشاق من الخطيئة. لم تعد عيون القتلى المتوقعين تقوى على السؤال. حوران ليست برية. ليست قطة متوحشة. ليست فاصلة عيش. حدثتها عن مغامراتي مع اليالنجي والفول المقلي وورق العنب والكبة النية وفتة الحمص. دمعت عيناها من الضحك. ‘ أقرصك لكي تستيقظ من الوهم. خرافتك تكاد تقع على الارض. أيعقل أن تكون رجلا فولكلوريا إلى هذه الدرجة؟’ صارت تدبك. ميجا يا ميجنا. ميجنا يا ميجنا ميج… صرخ الجندي. لم يصلني صوته. كانت النوافذ مغلقة. ولكن القتلة قد ذهبوا واختفت عرباتهم المدرعة. كان ذلك الجندي وحيدا. كان قاتلا مرجئا تعذبه الرغبة في قتل لا يعرف أسبابه. تركوه وحيدا إذاً، لذلك صار يدبك لينتصر على ضعفه. ميجنا يا ميجنا. لقد هربنا من القداس وكنا نعرف أن قيامته قد حلت ولكنا كنا نجهل ما يخبئه لنا القدر. لم ير أحد من الأخباريين ذلك الجندي. عيناي تكذبان. لمَ لا؟

( يا حلو، شو بخاف إني ضيعك) يا لخسارتي وأنا أغادر الشام. يا حسرتي على العباد. شعب يتنفس فيروز كل صباح. بسم الله واستعنا به ليبدأ الانتظار على الجسر العتيق. قلت له: ‘ فريد الأطرش سوري’. ‘صحيح؟ ولكنه يغني مصري’ كان الشوام قد ذهبوا إلى المعجزة قبل بلادهم. سبقوها مثل عجقة سير. ‘ درعا صارت وراءنا. لقد نجونا’ قالها السائق بأسى. ‘ سنرجع يوما’ ياه كم سنرجع سمعنا. كم تأوهنا على الباب عينه. كم قرأنا الموشح الذي اختفت كلماته بسبب اللمس المتكرر. لم ينج أحد من قبل فهل يحق لنا أن نقول: لقد نجونا؟

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى