صفحات العالم

رحلة مع المهربين إلى درعا

 


أمجد ناصر

(إلى درعا وهي تفتح للحرية باباً بوسع السماء)

بحطة بيضاء على رأسه وكنزة وبنطال صوفيين، بفم كبير وعينين تحدّقان، في دهشة، بأحجار المحطة العثمانية، بمدير المحطة، بالمسافرين الذين يصعدون إلى ‘الفرقونات’، صعد، مع جدته، إلى احدى مقطورات الدرجة الثالثة في قطار يتأهب للانطلاق من محطة الزرقاء. تلك هي أول ذكرى سفر له مع جدته. كان أبوه وأمه يقفان على رصيف المحطة. هناك مودعون آخرون لغيرهم من المسافرين يقفون على رصيف المحطة في ذلك الصباح الربيعي البارد. كان مدير المحطة، بحلته الكاكية وقبعته التي تشبه قبعات الجنود المكسيكيين في أفلام ‘الويسترن’ يتوسطها شعار لامع، يعطي الأمر بمغادرة القطار. كان القطار الكهل قد بدأ الاستعداد للانطلاق بمناورة ضيّقة على سكة الحديد. كان يسمع أصواتا تشبه صرير مكابح حديدية مصحوبة بأنفاس ديناصورات محتضرة. كانت صُررهم، التي رفعها رجل أطول قامة من جدته، قد استقرت على الرفِّ الخشبي. كانت نسوة موشومات، مثل جدته، يتلفعن بالسواد، مثلها أيضاً، ورجال يتدثرون بالمعاطف ورؤوسهم مغطاة بالشماغات ذات اللونين الأبيض والأسود أو الأحمر والأبيض، قد استقروا على المقاعد الخشبية إلى جانبهم. كان يلصق وجهه بنافذة القطار ويرى أمه وأباه يلوِّح كل واحد منهما بيده اليمنى. كان بخارٌ قد بدأ يغطي النافذة حيث ألصق وجهه وغبَّش الرؤية. ثم بدأ القطار يتحرك ببطء، تاركا أباه وأمه يلوّحان، والمودّعين الآخرين يلوِّحون، ورصيف المحطة ينأى وتنأى المحطة بسقفها القرميدي الأحمر حتى اختفت تماماً. ثم اختفت بيوت أحياء الزرقاء الغربية، وانفتح خلاء شاسع. لعله كان مريضاَ، أو موشكاَ على مرض، لذلك لفَّت أمه رأسه بالحطة البيضاء التي جعلته يبدو رجلاَ قزماً في الرابعة والنصف أو الخامسة من عمره. كان مريضاَ، أو موشكاَ على مرض، ولم تستطع أمه، كما تفيد بقايا الأصوات والصور التي احتفظت بها ذاكرته، رفض طلب جدته اصطحابه معها، فنزلت عند رغبتها الآمرة، لكنها احتاطت، للمرض الذي رأته يدبُّ في جسد ابنها الصغير، بالحطة ودرَّعته بثياب صوفية.

كانت جدته تستطيب الحديث معه. قد تكون الوحيدة بين أفراد عائلته التي خاطبت، مبكراً، مكامن الخيال عنده. وهي نفسها التي أعلنت، مبكراً أيضاً، انتماءه إلى خصالها النادرة في حفظ الأمثال، القصائد، الحكايات وترديدها.

بعد أن ابتعد القطار عن الزرقاء قالت له:

مبسوط؟

فقال: مبسوط.

فقالت: ما تقولي بعدين ودي أرجع؟

فقال: ما رايح أقول.

فقالت: بس ما عندي أكل مثل أهلك؟

فقال: ايش عندك؟

فقالت: خبز وبصل!

فقال لها: نعمة كريم!

ضحكت جدته عندما نطق هاتين الكلمتين الكبيرتين اللتين تليقان برجل عائد من مناسك الحج. ضحكت بعمق وضمَّته إليها فشمَّ رائحة تشبه دخان الحطب أو التبغ في عُبّها. كانت جدته، آنذاك، تُدخّن. لم تكن تُدخِّن سجائر ‘لف’ مثل جده بل غليوناً طويلاً. كان لغليونها ‘حق’حجري أسود اللون تضع فيه التبغ وله قصبة خشبية رفيعة وطويلة، بحيث أنها كانت تفرد يدها القصيرة على امتدادها لتمسك بالحق الحجري الأسود. غليون على امتداد الذراع ظلت تحتفظ به إلى أن قامت، بعد نحو خمس سنين من تلك الرحلة، بتحطيمه على حجر أمامهم، عشية ذهابها إلى الحج، باعتبار التدخين عملاً ‘مكروهاً’، حسب فتوى سمعتها من رجل دين في الراديو.

بقي في ذاكرته من رحلته الربيعية مع جدته في قطار يترنح، تحت وطء الزمن والحمولة البشرية والقفف والصرر وبضائع المهربين الصغار، ذلك الخلاء الواسع الموشى بشيء من الخضرة الخفيفة المتناثرة على جانبي السكة مبقَّعاً بصفرة زهور البادية وحمرتها على شكل بساط بدوي متقشف، والمحطات الثلاث المتوجة بالعزلة والصمت الأبديين التي مروا بها حتى وصلوا إلى مدينة ‘درعا’ السورية. كان للمحطات الصغيرة التي توقف فيها القطار حيث نزل ركاب وصعد آخرون، معظمهم من البدو، حجارة حوران البركانية السوداء، باستثناء محطة ‘المفرق’. تلك حجارة طفولته التي تبعث في نفسه، أينما رآها، صوراً غائمة وأخرى واضحة لرحلات بالقطار أو الحافلات مع جدته، وروائح لبن وحيوانات أليفة وتبغ وحلقوم تفحُّ من ثياب نساء موشومات ومتلفعات بالسواد ورجال يتدثرون، دائماً، بثياب ثقيلة لهم لحى نامية ووجوه منحوتة بقسوة.

في محطة ‘المفرق’ توقف القطار أطول مما فعل في ‘الخربة السمرا’ وأطول مما سيفعل في ‘جابر ونصيب’. كانت جدته تسلم على بعض الصاعدين إلى القطار أو النازلين منه، وتقول عندما يسألها بعض اولئك الغرباء عنه: هذا ‘يحيى’ ابن ‘محمد’. فيرد السائلون: ما شاء الله. صار زلمة! كانت، أحياناً، تسأله أمامهم ليجيب بكلمات تشبه تينك الكلمتين الكبيرتين اللتين أدخلتا السرور إلى قلبها. كلمات الرجال الكبار القنوعين.

لا يعرف لِمَ فضلت جدته الذهاب بالقطار إلى محطة ‘درعا’ السورية بدلاً من الذهاب إلى ‘الطرَّة’ التي سجل جده، حفيده الأول في سجلات ولادتها باسم ‘يحيى’. يظن أن الأمر يتعلق به. فالذهاب إلى ‘الطرة’، ومن ثم المشي ثلاثة أو أربعة كيلومترات إلى بيتها، كان صعباً بوجود طفل صغير مثله وبتلك الصُرر الكثيرة التي حملاها معهما. فلم تكن هناك وسيلة مواصلات مباشرة إلى حيث يقطن جده وجدته على الحدود الأردنية السورية. كان عليها، لو أنها سلكت طريق الحافلات، أن تذهب الى ‘إربد’ أولا، ثم من ‘إربد’ الى ‘الرمثا’ حيث يمكن أن يستقلا الحافلة المكتوب عليها أسماء أربع قرى سيقرأها، عندما يتعلم القراءة والكتابة، كاسم واحد: الطُرة، الشجرة، عمراوة، الذنيبة.

استغرقت الرحلة زمنا طويلا حتى وصلا إلى محطة ‘درعا’ راوغا خلالها رجال شرطة وجمارك ضجرين كانوا يصعدون، بين حين وآخر، للتدقيق في هويات الركاب، فلم يكن يحمل، هو وجدته، أوراقاً ثبوتية. هربته جدته مثلما فعل المهربون الذين استقلوا القطار معهما ببضائعهم المثيرة للشفقة. بدت له ‘درعا’ مدينة كبيرة صاخبة مثل ‘الزرقاء’ لكنها تتميز عنها بلون الحجر البركاني الأسود الذي يطبع حوانيتها وبيوتها ورائحة الوقود الثقيلة التي تنبعث من سيارتها وحافلاتها، مخلوطة برائحة تشبه رائحة الحلقوم والهريسة، والأبقار والعجول التي يمكن رؤيتها تتمشى في الشوارع، والشماغات ذات اللونين الأبيض والأسود التي يضعها الرجال على رؤوسهم من دون عقال أو يلفّونها على رقابهم.

ثمة، أيضاً، سيارة ‘اللاندروفر’ الطويلة الرمادية اللون التي استقلاها، هو وجدته بمعيّة ركاب آخرين، صعد بعضهم الى سقفها مع أغراضهم، وهي تعبر بهم حقولاً خضراء على مدّ النظر وبيوتاً متناثرة على جانبي الطريق مشيدة بالحجر البركاني الأسود و’الطفخات’ الملوَّنة التي تضعها نساء شابات عفيِّات، ممشوقات القوام، على رؤوسهن، وبحيرة كبيرة يسطع لونها الأزرق تحت شمس دافئة تحيط بها ‘خُشش’ من الطين والقصب وتسرح بالقرب منها أبقار تقضم عشباً وفيراً.

الأحجار البركانية السوداء، الخضرة القوية، البحيرة الكبيرة، سواقي المياه، الأبقار التي تقضم عشباً وفيراً، النسوة الشابات بـ ‘الطفخات’ الملونة على رؤوسهن ووجوههن المشربة بالحمرة، الرجال بالشماغات ذات اللونين الأبيض والأسود، ستنطبع في ذاكرته الى الأبد. إنه المشهد الذي سيتكرر في العطل الصيفية العشر اللاحقة التي سيقضيها مع جدته وجده في بيت طيني على حافة رافد من روافد نهر ‘اليرموك’.

تحسّب أمه للمرض وقع. يتذكر حمَّى وعرقاً وصداعاً راحت تتناوب على جسده، وجدته تسقيه منقوع أعشاب لها رائحة قوية وطعم مرٌّ، وتضرب كفَّا بكفٍّ مدمدمة: يا ويلي يا ويلي.

لكن المرض الذي ألمَّ به (نزلة برد على الأغلب) لم يمكث طويلاً، إذ سينهض، مثل ‘القرد’ (حسب تعبير جدته الأثير) ويطارد الحراثين والسحالي والدجاج والعجول الصغيرة والضفادع ويركض، كالسهم، في سهل فسيح ليس أمامه لبنة اسمنت واحدة.

هناك في ‘بيت شَّعر’ مشرعٍ على مشرق الشمس ولدَ في وقت حصاد الشعير و’القيطاني’ عندما جاء أمه المخاض وبيدها منجل.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى