صبحي حديديصفحات سورية

رحيل ذئب بشري/ صبحي حديدي

هل انطوت، برحيل بول أوساريس (1918ـ2013)، الجنرال الفرنسي المتقاعد وأحد كبار جلاّدي الشعب الجزائري، واحدة من الصفحات الأشدّ قتامة، وهمجية، في تاريخ فرنسا الاستعمارية؛ وهي، كما يتوجب التذكير، جزء تكويني مؤسِّس من تاريخ ذلك السجلّ الأسود الذي دوّن أسوأ وقائع المشروع الاستعماري الغربي؟ وهل أغمض أوساريس عينيه، للمرّة الأخيرة، نادماً على ما اقترفته يداه من آثام؛ أم أنه، كما صرّح مراراً، كان سيعيد الكرّة لو أنّ عقارب الساعة عادت به ستة عقود إلى الوراء؟

قبل خمس سنوات، حين صدر كتابه الثالث “لم أبحْ بكلّ شيء: اعترافات قصوى في خدمة فرنسا”، كان أوساريس يتفاخر بمتابعة “الرسالة” ذاتها التي آمن أنها أُلقيت على عاتق أمثاله، ممّن أناطت بهم السماء أداء “المهمة التمدينية” التاريخية المقدسة، تجاه شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. هكذا كانت الحال في كتابه الأوّل “الأجهزة الخاصة، الجزائر 1955ـ1957: شهادتي حول التعذيب”، 2001؛ وكذلك كتابه الثاني “من أجل فرنسا: الأجهزة الخاصة 1942ـ1954″، الذي صدر في السنة ذاتها، وكأنّ أوساريس كان يسابق الزمن من أجل تدوين جرائمه (باعتبارها “عبء الرجل الأبيض”، في التوصيف الاستعماري القديم، المأثور).

وفي هذه الأعمال الثلاثة، كما في معظم تصريحاته ومقابلاته، استوت اعترافات أوساريس، التي تخصّ تعذيب وتصفية المناضلين الجزائريين (العقيد العربي بن مهيدي، في المثال الشهير) خلال السنوات الأخيرة من عقود الاحتلال الفرنسي للجزائر؛ مع تلك الاعترافات التي تضيف المزيد من التفاصيل البشعة، أو تكشف النقاب عن “سكوب” جديد عرفنا له سوابق عتيقة كثيرة (كأن تكون الدولة الفرنسية قد دفعت، سنة 1977، عمولة لسمسار يقيم في بوليفيا، لقاء تسهيل صفقة أسلحة فرنسية للجيش النمساوي؛ رغم أنّ هوّيته الحقيقية كانت قد افتُضحت قبل سنوات، واتضح أنه الضابط النازيّ السابق كلاوس باربي!).

وفي كلّ مرّة، إزاء كلّ اعتراف مقيت، كان العجب يأخذ الكثيرين، فيُثار التساؤل المشروع: ولكن… أليست هذه فرنسا، بلد ثورة 1789، حاضنة مبادىء الحرّية والمساواة والإخاء، مهد حقوق الإنسان، ساحة الأنوار؟ هي هذه كلّها، لا ريب؛ ولكنّ الذي تغاضى عن جرائم أمثال الجنرال أوساريس لم يكن سوى فرنسوا ميتيران: وزير العدل الفرنسي آنذاك، والزعيم الاشتراكي لاحقاً، وأوّل رئيس يساري في الجمهورية الخامسة. لا شرعة حقوق الإنسان نفعت، ولا فلسفة جان جوريس ملهم الاشتراكيين الفرنسيين لجمت، ولا بنود القانون ردعت. النصوص (فلسفة كانت أم أقانيم دستورية) كانت في واد، والساسة والجنرالات كانوا في واد آخر.

كذلك فإنّ الشطر الاستعماري ـ الاستيطانيّ من التاريخ الأوروبي يحفل بالآلاف من أمثال الجنرال أوساريس؛ الآلاف، حرفياً، وليس المئات فقط. إنهم إسبان في الأمريكتَيْن وسائر “العالم الجديد”، وفرنسيون في الجزائر، وبريطانيون في الهند، وبلجيكيون في الكونغو، وبرتغاليون في أنغولا، وهولنديون في جنوب أفريقيا… الإسبان أبادوا قرابة 70 مليون “هندي أحمر”، كما ستصبح تسمية أبناء الأقوام الأصلية؛ وفي ذمّة الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، وحده، أكثر من عشرة ملايين أفريقي كونغولي، قضوا في سخرة صيد العاج؛ ولائحة أهوال الاستعمار الغربي تنطوي على صفحات من البربرية العارية المفتوحة، تتجاوز بكثير حدود ما يمكن أن تشمله العبارة الشهيرة: “جرائم بحقّ الإنسانية”.

هو حاضر يعود القهرى إلى الماضي، ثمّ يرتدّ منه بعد أن يهتدي به، ليعيد إنتاج أخلاق الهمجية القديمة، تحت مسمّيات تمدين وتمدّن ومدنية… ومنذ القرن الثامن عشر كان الاسكتلندي آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد السياسي، هو الذي عزى تفوّق أوروبا إلى ابتكارها ثقافة العنف، وتحويلها الحرب إلى علم، وإلى استثمار. وفي القرن ذاته كان جورج واشنطن، أوّل رئيس أمريكي، هو الذي قال: “إنّ التوسيع التدريجي لمستعمراتنا كفيل بطرد الهمجيّ والذئب على حدّ سواء، فكلاهما وحش برّي وإنْ اختلفا في الهيئة”. وأمّا في أواسط القرن اللاحق، فقد كان المشرّع الهولندي هوغو غروتيوس، مؤسس القانون الدولي الحديث، هو الذي قال دون أن يرفّ له جفن: “أكثر الحروب عدالة هي تلك التي تُشنّ ضدّ الوحوش. وثمة بشر يشبهون الوحوش”.

.. أو يشبهون ذئباً بشرياً كاسراً، على شاكلة أوساريس!

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى