صفحات الثقافةعلي جازو

رسالة صعبة إلى سوريا الحزينة


علي جازو

كانت بلادنا بلاد الفقر المتكاثر، الخوف المتكتم، والقتل الخفيّ. فشلت دولة البعث التي لم تكن سوى سلطة عصبوية جعلت إدارة المجتمع مزيجاً من الإخضاع المهين والنهب المدمر. قبلت أجيال واقع الحال الصعب، سعت إلى توازن مستحيل مع الرعب، وحاولت بشتى الطرق تدبر أحوالها، لكن الطرق فسدت والأحوال نفدت واصطدمت الآمال الزائفة بوقائع كابوسية. بلادنا الآن بلاد الذعر اليومي والقتل العلني والتعامل المتوحش البغيض والقذارة الاجتماعية والإفلاس التربوي والخراب التعليمي. هي الآن بلاد تغرق يوماً بعد آخر في الكذب السهل والقتل البشع الذي ما إن يكثر حتى يتحول ماكينة قتل، آلة مدمرة، ومع الآلة يصبح العقل نفسه آلة محو تخلط الجثة برماد الكلمة والحقيقة باللا جدوى.

¶¶¶

يمكننا توقع ساعة بداية الحرب الأكثر خطراً، نكاد نستعجل قدوم هذه الساعة اللعينة، لكننا في الساعة نفسها التي ستحل فيها، سنعجز عن توقع نتائجها. ربما لأن النتائج الكارثية المؤكدة فوق مقدرتنا على تخيلها، بل ربما لأنها ستتجاوز الضيق الذي دفعنا إلى طلب الحرب التي ستكون استعادة جديدة أكثر هولاً لكراهية ينبغي تجاوزها بأي ثمن، أي ثمن. لن يكون الاستسلام المتبادل خذلاناً مهيناً حينها، ولن يكون الغفران المرير خطأ الجبناء الضروري.

على كل حال، ليست الحرب سوى تصعيد لوهم لن ينقذ أحداً، مثلما كان الخلود البعثي وكانت الأبدية الرئاسية قناعين للجرائم. الناس الذين لم يلوثوا بعد بفقدان حس البراءة النبيلة، لم يولدوا ليحاربوا بعضهم. ولد الناس ليعيشوا معاً، لا ليدفع بعضهم البعض إلى القتل. اجعلوا من سوريا أرض حياة، لا تحوّلوها دخان مقبرة. ولا تنسوا أن الحرب ابنة الكراهية، أن الكراهية هي انعدام الاحساس برعب الكراهية، أن الكراهية ليست سوى اختناق العقل، وأن كراهية مختنقة لا تصلح بيتاً لقلب اي إنسان.

الكراهية هي المكان الذي لا يمكن لأحد أن يلتقي فيه مع أحد، هي العطالة التي تخلّف الندم لا غير، الندم الذي إن حل بينكم فسيكون علامة على فوات وقت الندم، لأنه سيكون بلا وقت وبلا حيّز وبلا نفع. الحرية التي ستأتي من طريق الحرب هي وجه آخر للعبودية، ولهذه الحرية طعم الدم وبشاعة الجثث وأنين المعذّبين وليل المفقودين.

نحن أمام مصير قاتم إن لم نتدارك الميول الغرائزية في تفكيرنا وسلوكنا. ما الحرب سوى انحطاط الغريزة، كما هي الأنانية انحطاط الشعور والفكر.

لقد نسي الجميع أن الناس يولدون من دون أن يعرفوا اللغة التي سيتحدثون بها عندما يكبرون. إنهم يأتون إلى الحياة دونما علم إن كانوا من قومية ما أو ديانة ما أو طائفة ما. أنتم من تجبرون أطفالكم على الانتماء إلى ماض شنيع لم يختره أحد منهم.

 ¶¶¶

لا يكفي أن نعرف حوادث التاريخ حتى ننجو من أقفاصه. ربما يجب أن ننسى أننا سلالة تاريخية أصلاً. يجمعنا فضاء الهواء الذي نتنفسه قبل أن يفرّقنا قفص الحقد الذي سيدمرنا. يجمعنا الخبز الذي ليس ديناً ولا قومية قدر ما هو ثمرة عمل الإنسان “الجاهل” وكدّ يديه. القمح أهمّ من الدين، والهواء النظيف أهمّ من جيوش منتصرة، من مجد ليس سوى شكل خيالي مصطنع يبرر احتقار البشر لبشر أمثالهم ويسوّغ تبادل العار والغرق في الخزي.

¶¶¶

لكن الفقر يدفعنا إلى الغضب، والغضب يُفقدنا العقل. ساعدوا الفقراء لكي يساعدكم أبناؤهم غداً، فالذين يخافون إنجاب أولاد بسبب الفقر سينجبون كراهية ضد من لم يعلّم أولاده ضرورة مساعدة المحتاجين. خلال عشر سنين مضت، أكثر من ستة ملايين سوري زادوا على فقراء سوريا.  يا لرعب هذا الرقم! الأكثر رعباً أننا نوهم أنفسنا بأن الفقر أمر عارض، بأن المساكين موجودون في كل مكان، لكننا لم نكلّف أنفسنا عناء الإحساس بسؤال غبي بسيط وساذج: من أين اتى كل هؤلاء. من أين أتى هؤلاء الذين فقدوا الأمل، الذين لم يعد في مقدورهم التفكير في اقتناء غرفة للزواج، الذين يخشون فواتير المشافي، ولا يجد أبناؤهم مكاناً للدراسة ولا فرصاً للعمل، وتبصقهم شاشات الإعلانات الضخمة ويكويهم صقيع عتبات البنوك اللامعة. لقد أتوا من فقداننا الإحساس بهم، أتوا من المجهولية والإنكار اللذين وضعنا آباؤهم وأمهاتم في ظلامهما القاسي. أتوا من الشوارع التي تبادلت عفونة الضحك الذي يرادف إثم النسيان ولم تتبادل حمل أسباب الدموع وأسباب الاسى.

¶¶¶

لم نوجد لندافع عن دين لا يدافع عن حق “أعدائنا” في دين آخر، لم نوجد لنتكلم باسم الآلاف والملايين الذين لا نعرف عنهم شيئاً، لم نوجد لنعبد قومية لا تبادل قومية أخرى سوى الشك والخوف.

كل أفكار العالم موهوبة لنا، لكننا لم نوجد لنعبد فكرة، ما وجدنا لنحول الحياة سوى إلى فكرة حرة تنسجم مع حاجتنا إلى إكمال حياتنا من دون خوف وكراهية. إن لم نوقف المذبحة التي نُدفع إليها يوما أثر آخر فلن نكون قادرين على وقف الثأر الذي سيخلف المذبحة بسنوات من الدمار. إن لم ننقذ هذه اللحظة المصيرية الصعبة من الفوضى فلن نجد غدا نتكلم فيه عن أي شيء. فكروا في سوريا الجميع، لا تشعلوا النار التي ستتحول فيها سوريا بلاد اللا أحد.

الامم المتحدة لم تنقذ بلداً واحداً. الأمم المتحدة ليست سوى سراب الأمم التي تقايض الحقوق بالمنافع والأخلاق بالمساومة. أنتم وحدكم أصحاب هذه الارض، فلا تساوموا عليها أحداً. وحدكم القادرون والمسؤولون عن الحفاظ عليها، لكن أيضاً أنتم من سيدفعونها إلى الهاوية التي ستكون عميقة الى درجة أن أحداً حينها لن يسمع لا أصوات شجاعتكم ولا نداء استغاثتكم.

¶¶¶

ستلفّ العزلة القاسية نظراتكم الباردة التي لن تتجاوز حدود المقبرة التي تهيّئونها ساعة بعد ساعة لتكون حدود بلدكم اليتيم.

آه سوريا الجميلة،

يا سيدة الزهور الضعيفة،

وحيدةً، متروكة، ترتعشين،

بين يدَي الخريف ترتعشين.

الذي لم يبك عليك اليوم،

لن يرى الغد الذي يبكي فيه أيّ أحد.

النهار

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كانت بلادنا بلاد الفقر المتكاثر، الخوف المتكتم، والقتل الخفيّ. فشلت دولة البعث التي لم تكن سوى سلطة عصبوية جعلت إدارة المجتمع مزيجاً من الإخضاع المهين والنهب المدمر. قبلت أجيال واقع الحال الصعب، سعت إلى توازن مستحيل مع الرعب، وحاولت بشتى الطرق تدبر أحوالها، لكن الطرق فسدت والأحوال نفدت واصطدمت الآمال الزائفة بوقائع كابوسية. بلادنا الآن بلاد الذعر اليومي والقتل العلني والتعامل المتوحش البغيض والقذارة الاجتماعية والإفلاس التربوي والخراب التعليمي. هي الآن بلاد تغرق يوماً بعد آخر في الكذب السهل والقتل البشع الذي ما إن يكثر حتى يتحول ماكينة قتل، آلة مدمرة، ومع الآلة يصبح العقل نفسه آلة محو تخلط الجثة برماد الكلمة والحقيقة باللا جدوى.
    ¶¶¶

    يمكننا توقع ساعة بداية الحرب الأكثر خطراً، نكاد نستعجل قدوم هذه الساعة اللعينة، لكننا في الساعة نفسها التي ستحل فيها، سنعجز عن توقع نتائجها. ربما لأن النتائج الكارثية المؤكدة فوق مقدرتنا على تخيلها، بل ربما لأنها ستتجاوز الضيق الذي دفعنا إلى طلب الحرب التي ستكون استعادة جديدة أكثر هولاً لكراهية ينبغي تجاوزها بأي ثمن، أي ثمن. لن يكون الاستسلام المتبادل خذلاناً مهيناً حينها، ولن يكون الغفران المرير خطأ الجبناء الضروري.

    على كل حال، ليست الحرب سوى تصعيد لوهم لن ينقذ أحداً، مثلما كان الخلود البعثي وكانت الأبدية الرئاسية قناعين للجرائم. الناس الذين لم يلوثوا بعد بفقدان حس البراءة النبيلة، لم يولدوا ليحاربوا بعضهم. ولد الناس ليعيشوا معاً، لا ليدفع بعضهم البعض إلى القتل. اجعلوا من سوريا أرض حياة، لا تحوّلوها دخان مقبرة. ولا تنسوا أن الحرب ابنة الكراهية، أن الكراهية هي انعدام الاحساس برعب الكراهية، أن الكراهية ليست سوى اختناق العقل، وأن كراهية مختنقة لا تصلح بيتاً لقلب اي إنسان.

    الكراهية هي المكان الذي لا يمكن لأحد أن يلتقي فيه مع أحد، هي العطالة التي تخلّف الندم لا غير، الندم الذي إن حل بينكم فسيكون علامة على فوات وقت الندم، لأنه سيكون بلا وقت وبلا حيّز وبلا نفع. الحرية التي ستأتي من طريق الحرب هي وجه آخر للعبودية، ولهذه الحرية طعم الدم وبشاعة الجثث وأنين المعذّبين وليل المفقودين.

    نحن أمام مصير قاتم إن لم نتدارك الميول الغرائزية في تفكيرنا وسلوكنا. ما الحرب سوى انحطاط الغريزة، كما هي الأنانية انحطاط الشعور والفكر.

    لقد نسي الجميع أن الناس يولدون من دون أن يعرفوا اللغة التي سيتحدثون بها عندما يكبرون. إنهم يأتون إلى الحياة دونما علم إن كانوا من قومية ما أو ديانة ما أو طائفة ما. أنتم من تجبرون أطفالكم على الانتماء إلى ماض شنيع لم يختره أحد منهم.

    ¶¶¶

    لا يكفي أن نعرف حوادث التاريخ حتى ننجو من أقفاصه. ربما يجب أن ننسى أننا سلالة تاريخية أصلاً. يجمعنا فضاء الهواء الذي نتنفسه قبل أن يفرّقنا قفص الحقد الذي سيدمرنا. يجمعنا الخبز الذي ليس ديناً ولا قومية قدر ما هو ثمرة عمل الإنسان “الجاهل” وكدّ يديه. القمح أهمّ من الدين، والهواء النظيف أهمّ من جيوش منتصرة، من مجد ليس سوى شكل خيالي مصطنع يبرر احتقار البشر لبشر أمثالهم ويسوّغ تبادل العار والغرق في الخزي.

    ¶¶¶

    لكن الفقر يدفعنا إلى الغضب، والغضب يُفقدنا العقل. ساعدوا الفقراء لكي يساعدكم أبناؤهم غداً، فالذين يخافون إنجاب أولاد بسبب الفقر سينجبون كراهية ضد من لم يعلّم أولاده ضرورة مساعدة المحتاجين. خلال عشر سنين مضت، أكثر من ستة ملايين سوري زادوا على فقراء سوريا. يا لرعب هذا الرقم! الأكثر رعباً أننا نوهم أنفسنا بأن الفقر أمر عارض، بأن المساكين موجودون في كل مكان، لكننا لم نكلّف أنفسنا عناء الإحساس بسؤال غبي بسيط وساذج: من أين اتى كل هؤلاء. من أين أتى هؤلاء الذين فقدوا الأمل، الذين لم يعد في مقدورهم التفكير في اقتناء غرفة للزواج، الذين يخشون فواتير المشافي، ولا يجد أبناؤهم مكاناً للدراسة ولا فرصاً للعمل، وتبصقهم شاشات الإعلانات الضخمة ويكويهم صقيع عتبات البنوك اللامعة. لقد أتوا من فقداننا الإحساس بهم، أتوا من المجهولية والإنكار اللذين وضعنا آباؤهم وأمهاتم في ظلامهما القاسي. أتوا من الشوارع التي تبادلت عفونة الضحك الذي يرادف إثم النسيان ولم تتبادل حمل أسباب الدموع وأسباب الاسى.

    ¶¶¶

    لم نوجد لندافع عن دين لا يدافع عن حق “أعدائنا” في دين آخر، لم نوجد لنتكلم باسم الآلاف والملايين الذين لا نعرف عنهم شيئاً، لم نوجد لنعبد قومية لا تبادل قومية أخرى سوى الشك والخوف.

    كل أفكار العالم موهوبة لنا، لكننا لم نوجد لنعبد فكرة، ما وجدنا لنحول الحياة سوى إلى فكرة حرة تنسجم مع حاجتنا إلى إكمال حياتنا من دون خوف وكراهية. إن لم نوقف المذبحة التي نُدفع إليها يوما أثر آخر فلن نكون قادرين على وقف الثأر الذي سيخلف المذبحة بسنوات من الدمار. إن لم ننقذ هذه اللحظة المصيرية الصعبة من الفوضى فلن نجد غدا نتكلم فيه عن أي شيء. فكروا في سوريا الجميع، لا تشعلوا النار التي ستتحول فيها سوريا بلاد اللا أحد.

    الامم المتحدة لم تنقذ بلداً واحداً. الأمم المتحدة ليست سوى سراب الأمم التي تقايض الحقوق بالمنافع والأخلاق بالمساومة. أنتم وحدكم أصحاب هذه الارض، فلا تساوموا عليها أحداً. وحدكم القادرون والمسؤولون عن الحفاظ عليها، لكن أيضاً أنتم من سيدفعونها إلى الهاوية التي ستكون عميقة الى درجة أن أحداً حينها لن يسمع لا أصوات شجاعتكم ولا نداء استغاثتكم.

    ¶¶¶

    ستلفّ العزلة القاسية نظراتكم الباردة التي لن تتجاوز حدود المقبرة التي تهيّئونها ساعة بعد ساعة لتكون حدود بلدكم اليتيم.

    آه سوريا الجميلة،

    يا سيدة الزهور الضعيفة،

    وحيدةً، متروكة، ترتعشين،

    بين يدَي الخريف ترتعشين.

    الذي لم يبك عليك اليوم،

    لن يرى الغد الذي يبكي فيه أيّ أحد.

    النهار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى