صفحات سوريةعبدالله تركماني

رسالة مفتوحة إلى المؤتمر القومي العربي (*)

 


الدكتور عبدالله تركماني

بعد واحد وعشرين عاماً على تأسيسه، وعشية انعقاد مؤتمره الثاني والعشرين في بيروت، يحق لنا أن نتساءل، من موقع الحرص على دور المؤتمر ومن موقع العضوية فيه منذ سنة 1997 (لعل الأخوة أعضاء المؤتمر يتذكرون أني في كل دورات انعقاد المؤتمر التي حضرتها لم أكن أنشط إلا في لجنة ” الدولة والمجتمع ” حيث تناقش قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان)، عن مدى نجاحه في مسعاه ليكون مرجعية شعبية عربية، وعن مدى التزامه بتكامل أهدافه الستة التي أعلنها للمشروع الحضاري العربي. فهل تمكّن من الربط الجدلي بين هدفي الاستقلال الوطني/القومي والديمقراطية ؟ وهل أمسك بالخيط الرفيع بين الاستعباد الخارجي والاستبداد الداخلي ؟

إذ يبدو، على ضوء الربيع الديمقراطي العربي الذي دشنته ثورة الحرية والكرامة في تونس وأكسبته الثورة المصرية بعده الاستراتيجي وصبغته ثورات اليمن وليبيا والبحرين وسورية بدماء شعوب هذه البلدان، أنّ ثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة وتبجيل الذات والثبات على الخطأ والتستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلاً عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات والتعاطي مع المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسات.

فهل نقلع عن حديث المؤامرة التي تدبر من الخارج لتغطية العجز عن التدبير في الداخل العربي ؟ وهل نقلع أيضاً عن التستر على الأنظمة ” الممانعة ” التي أنتجت الفقر والقهر والعبودية والفساد لشعوبها (السودان، اليمن، سورية …) ؟ وهل نتعلم من الأخطاء ونستفيد من التجارب والشواهد ؟

إذ لا مفر من تفكيك كثير من مقولات خطاب المؤتمر القومي العربي، من أجل إجراء تغيير جذري لأغلب الأسس التي تقوم عليها، تغيير تكون نتيجته التحول إلى خطاب ديمقراطي مع الذات ومع الآخر ومع المجتمع ومع الواقع ومع التاريخ: ديمقراطي مع الذات العربية بصفتها مالكة قرارها ومصيرها ورهاناتها وحقها في التحدي والرفض والمساءلة، وديمقراطي مع مواطني الأقليات القومية باعترافنا بهم كمختلفين، لا من باب التسامح والتعايش وإنما من باب الإيمان بالعيش المشترك وبالتعددية، وفي التعاطي المشترك المجدي مع الأسئلة والتحديات التي يطرحها الواقع بكل ما فيه من غنى وتعقيد. وديمقراطي مع المجتمع في تعاملنا معه باعتباره الصورة الحية لنضالات الأفراد وتوقهم ومخاوفهم ورغباتهم ودأبهم اليومي، وليس كحقل تجارب للأيديولوجيا القومية وأوهامها ومشروعاتها. وديمقراطي مع التاريخ في النظر إليه بصفته حركةً وتحولاً وصراعاً، وليس باعتباره مرآة لأفكار ومبادئ وأحكام الخطاب القومي وبرهاناً على صحتها وتكراراً أبدياً لها.

فلا يظنن أحد أنّ هناك لحظة عربية حاسمة تحتاج منا درجة عالية من الصدق مع النفس والوضوح في الرؤية مثل تلك التي تمر بها أمتنا العربية حالياً مع الربيع الديمقراطي العربي. خاصة أننا ما زلنا نلاحظ شمول تعميمات المؤتمر القومي العربي على لغة إنشائية خطابية لا تقدم حلولاً ملموسة ولا تتعامل مع الواقع المتحول، خطاباً هائماً يسبح في فضاء واسع وفضفاض ولا يتعامل مع قضايا محددة وفق رؤى نابعة من قضايا الواقع ومشكلات وطموحات شعوبنا (الموقف المعلن من ثورتي ليبيا وسورية). كما كنا نلاحظ سابقاً عدم متابعة اعتقال وسجن أعضاء من المؤتمر أمثال الأستاذين ميشيل كيلو وعارف دليلة، بل أعضاء في الأمانة العامة كما هو حال الدكتورة فداء الحوراني، من قبل الأجهزة الأمنية للنظام السوري.

ثم هل انتبهتم إلى أنّ رموز المؤتمر لم تكن حاضرة بقوة لدى أي من حركات الاحتجاج في أي من البلدان العربية الثائرة، بل أنها إذا ما حضرت تكون خارج السياق كما هو حال أعضاء من الأمانة العامة للمؤتمر حضروا اعتصامات للتضامن مع الشعب السوري فإذا بهم لا يرون معاناته من قناصي شبيحة النظام السوري وإنما ” ممانعته ” فقط. فلم يدرك هؤلاء أنّ نجاح الربيع الديمقراطي العربي سوف يعيد للفكرة القومية بريقها مع إعادة اكتشاف الشعوب العربية لنفسها وطنياً. كما لم يدركوا أنّ الدولة العربية الوطنية الجديدة، ستجعل الفكرة القومية العربية  المنبعثة متجددة أيضاً. إذ أنّ نجاح هذه الدولة الوطنية العربية الجديدة في تحقيق خلاصها من قبضة أنظمتها الاستبدادية، سيفتح الأفق أمام بناء الحقيقة العربية المتجددة على أسس أشد رسوخاً.

ومن المؤكد أنّ الحديث عن استعادة الربيع الديمقراطي العربي للخيار القومي لا يعنى العودة من جديد لصورة القومية العربية التقليدية، وإلى لغة الشعارات التي لم يعد لها وجود، بل يقصد بها القدرة على التكيّف والاستجابة للتحديات التي تفرضها الثورة العربية الجديدة، من خلال ترجمة عناصر القوة العربية في إطار  المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة التي يلمس منافعها المواطن العربي نفسه.

إنّ إدراكنا لمسارات التحول العربي الجديد هو الذي يكسبنا ديناميات التقدم والتجدد، على النحو الذي يؤهلنا للالتحاق بثورة العصر، شريطة أن نتحرر من الخطاب الخشبي وبناه الثقافية والاجتماعية اللذين أدمناهما طوال أكثر من أربعة عقود، بما يعنيه ذلك من تخطّي الجمود الفكري والتكلس العقلي وسيطرة الثقافة النصية، وهيمنة القيم القبلية والعشائرية، والطائفية والمذهبية، على حساب القيم الوطنية والقومية.

وطالما أنّ لكل مرحلة قراءتها الخاصة، لذلك يبدو منطقياً أن يهتم المؤتمر القومي العربي بصياغة استراتيجية عملية وواقعية تخرجه من منزلقات عدم الترابط الجدلي بين أهدافه، وبالتالي استيعاب حقائق الربيع الديمقراطي العربي والعصر الكوني الذي نعيش فيه.

ففي حقبة هذا الربيع العربي يبدو أننا أمام لحظة تجدد ملهمة، عنوانها الأساسي تفكيك قبضة الدولة الأمنية العربية الخانقة، وتحرير الشعوب العربية من أسر حكامها، مما يجعل العروبة أكثر صدقاً من تلك التي رُوّج لها في الماضي، لأنها عبارة عن اتحاد المشاعر والمطامح بين الشعوب العربية.

 

تونس في 21/5/2008                 الدكتور عبدالله تركماني

كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

(*) – نُشرت في صحيفة ” القدس العربي ” – لندن 27/5/2011.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى