صفحات سوريةعمر قدور

الجسد العمومي للاستبداد/ عمر قدور

 

ممثلات سوريات، اشتهرن بجمالهن، وجدن الوسيلة الأفضل للتعبير عن موالاتهن للنظام بزيارة قواته، والتقاط الصور التذكارية مع مقاتليه وهن يشاركنهم ارتداء الملابس المرقّطة. ولأن الثياب المرقّطة تحجب الأناقة الخاصة، التي هي شرط أساسي للنجومية، فإنهنّ يعوّضنها بإبراز مساحيق التجميل على الوجه، بخاصة حمرة الشفاه الصارخة. هذه الزيارات ليست بذاتها سلوكاً جديداً، ففي حروب سابقة بادر فنانون وفنانات إلى زيارات دعم لقواتهم على الجبهة، والتعبير عن دعمهم للحرب، لكنهم غالباً تخلوا عن المظاهر الخارجية للنجومية كلفتة إضافية للتعبير عن إحساسهم بالشظف الذي يعيشه المقاتلون، ربما باستثناء زيارات النجوم الأميركيين المساندين لحرب فيتنام، في ظل الرفض الشعبي المتنامي إزاءها، وقد رصدت السينما الأميركية الرافضة للحرب تلك الزيارات، وكانت مشاهد الحفلات التي يقيمونها على متن حاملات الطائرات تعج بصور الأنوثة المستخدمة للترفيه عن الجنود.

أيضاً، في حملة الأسد «الانتخابية» رُوّجت على غير المعتاد صور لفتيات يرقصن ابتهاجاً، أو يتجولن وهن يحملن صور رئيسهن، بثياب أجرأ مما هو سائد محلياً. حيث من المتوقع أن تكون هذه الفتيات قد تطوعن، بقناعة وحماسة ذاتيتين، كي تُستخدم أجسادهن قماش دعاية لإعلام النظام الذي يتهم الثائرين عليه بالأصولية والإرهاب. ولا يغيب هنا التناقض الصارخ بين تعبير النساء عن ولائهن الأعمى، وأحياناً باستخدامهن مفردات تعبّر عن العبودية، والرسالة التي يردن إيصالها حول حرية أجسادهن. أي أن حرية الجسد، وفْقهن، منفصلة تماماً عن سياق الحريات العامة، بل حدث بالمعنى الحرفي أن خرجت فتيات من هذا القبيل في مسيرات مؤيدة للنظام وهن يشتمن الحرية!

غير بعيد من ذلك، في مصر شهد ميدان التحرير أثناء الاحتفال بتنصيب السيسي حادثة تحرش جماعي، ليست الأولى من نوعها، لكنها تأتي بعد ثورتين كما يقول قسم كبير من محتشدي الميدان. أي أن ثورتين، ثانيتهما كانت موجهة ضد الأصولية، لم تنجحا في منح المرأة حق الحضور العادي ضمن الحشود السياسية. ولئلا توضع الحادثة في سياق التصرفات الفردية الشاذة، واجه عديد النساء الأذى النفسي والجسدي في أقسام الشرطة، ضمن ما يُعرف بفحوص الكشف عن العذرية، وهو إجراء معمول به منذ ما قبل ثورة يناير، ولم يتم إبطاله بعدها.

ظاهرياً، قد لا يبدو المشهد ذاته بين ساحات المؤيدين في سورية وساحة التحرير، أما في العمق فلا يمكن إهمال مركزية جــسد الأنثى في الحالتين، ولا يمكن عزل النظرة العامة للجسد عن تعريته طوعاً أو قسراً، ما دام ذلك لا يحدث خارج الوظيفة العامة له. الجسد، في الحالتين، لا يعود ملكاً لصاحبته، بل يكتسب صفة العمومية عبر اختزاله بمهمة الإغواء المجرد في الحالة الثانية، وعبر دمج الأنوثة بمنظومة الاستبداد في الحالة الأولى. يجوز لنا أيضاً في حالة التحرش ألا نســـتبعد المـــشاعر السلبية الناجمة عن الشـــعور بالانتـــصار. فزخــم الزهو هذا قد يتــطلب تجســـيداً مباشراً لا يجد له العقل الذكوري أفضل من اغتصاب امرأة.

في المعتقلات السورية يحدث أن تُغتصب نساء طالبن بالحرية، وفق الكم الهائل من الشـــهادات التي وثقتها منظمات حقوقية دولية، بينما تستعرض نساء أخريات ما يُصوّر على أنه حريتهن، ولا ترى النساء المواليات المحتفلات بالنظام أن ذلك الجسد المغتصب في السجون كناية عن أجسادهن أيضاً، مثلما الجسد الذي تعرض للتحرش في ميدان التـــحرير كناية عن جســـد أية امرأة مصرية. فعل الاغتصاب في كل الحالات المشابهة فعل استباحة وتعميم، لأن الجـــسد الذي يُنتهك لا يعود ملكاً لصاحبته، فالمشاركة الجماعية في التحرش تستلهم أسّ الاستبداد والاغتصاب الجماعي الذي يحدث في السجون، سواء بلغ الاغتصاب الفعلي أو توقف عند الاغتصاب المعنوي كما في فحوص الكشف عن العذرية.

الجسد يصبح عمومياً من حيث ملكيته المباشرة للاستبداد، أو من حيث تملكه رمزياً عبر تصورات اجتماعية يزرعها الاستبداد ويرعاها بمختلف أشكاله. لا يخرج عن هذا استخدام الاستبداد للجسد على النحو المزدوج كما يفعل النظام السوري، فهو يغتصب أجساداً «معارِضة»، أو أحياناً يكون الاغتصاب فقط لأن الأنثى المعنية تمتّ بصلة قرابة الى رجل معارض، بينما يستخدم أجساد المواليات كـ «شيء» لتمرير رسالة القمع العام عبرها؛ في الحالتين لا يعدو الجسد كونه أداة، فلا هو يعبّر عن نفسه، ولا هو يعبّر عن خصوصية صاحبته.

لا يخرج عن السياق البطريركي للاستبداد أن ينبري ناشطون سوريون إلى اتهام النساء المواليات بالعهر بسبب مغالاتهن بإظهار أجسادهن، فتتغلب النظرة التقليدية إلى الجسد على الرسالة السياسية التي يحملها وينبغي التركيز عليها أساساً. وقد يكون المكسب مضاعفاً من جهة النظام، إذ استدرج معارضيه إلى حلبته من جهة، واستكمل تالياً «تعهير» المرأة السورية من خلال شتائمهم، بعد بدئه ذلك بالشتائم التي تعهّر نساء المعارضة وبالسجون التي استخدمت لاغتصابهن. وقد ثار جدال أخيراً بسبب اتهام عصبة من المتدينات المحجبات، يدعين «القبيسيات»، بـ «الانحراف» الجنسي من جانب البعض الذي لم يجد تبريراً لموالاتهن النظام سوى أجسادهن. كأن المنطوق هنا ينص حرفياً على تجريد المرأة من ملكة العقل، وإذ لا تتبنى الموقف المتوخى منها، فلا بد من أن ترجع العلة إلى جسدها. هذا منطوق يذهب أيضاً إلى تعميم الجسد واستباحته، إذ يجعل «عيوبه» المتخيَّلة شأناً عاماً، ويسبغ على مجموعة صفات جسدية وجنسانية مشتركة بخلاف الناظم الفكري الذي ارتضته لنفسها.

المؤسف أن دفع الجسد إلى الصدارة لا يحدث ضمن معركة تخص الجسد ذاته، فلا نشهد اشتباكات فكرية حقيقية تنضم إلى أنطولوجيا الجسد، ومن المعلوم أن الجسد في الغرب الديموقراطي لم يتقدم ليصبح مدماكاً أساسياً في المعركة ضد الثقافة الذكورية إلا بدءاً من سبعينات القرن العشرين. فحيث لا تتحقق حريات فردية شاملة يصعب الحديث عن حرية جسدية، حرية تضمن التمتع به أو عدم التمتع به، وتضمن أيضاً حرية التصرف به أو بأجزاء منه. بعبارة أخرى، بدءاً من العبودية وانتهاءً بأحدث نظم الاستبداد، لا يمكن الحديث عن حرية أو خصوصية للجسد، لأن الآلية التي تعمم عقلاً سائداً هي نفسها التي تخلق جسداً عمومياً لا شخصياً.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى