ديمة ونوسصفحات الثقافة

رشّ عليّ كيماوي/ ديمة ونوس

 “اجرح لي قلبي ولا تداويه. ورشّ عليّ كيماوي. بس لا تقلي يا حبيبي، إنك على هجري ناوي”.

بالتاكيد، وقع هذه الأغنية قبل ثلاث سنوات، كان مختلفاً. في ذلك الحين، كان الكيماوي الحاضر في أذهاننا هو علاج مرضى السرطان.

 أغنية “اجرحلي قلبي” صدرت حديثاً وصاحبها هو مغنّ سوري معروف شعبياً إسمه وفيق حبيب. أصدرها بعد قصف الغوطتين في دمشق ومناطق أخرى بالكيماوي. وبغض النظر عن العقد النفسية التي يعانيها المغني وهو يرجو حبيبته أن تجرحه وتبقيه جريحاً من دون علاج وأن تذبحه بكل أنواع الأسلحة، تختصر الأغنية لامبالاة شريحة سورية معينة بما يجري من قتل ضد الشعب الذي تنتمي إليه وعلى الأرض التي تعيش عليها. ومثلما غنّى اللبناني فارس كرم قبل سنوات: “ريتني تنباك معسّل وتحرقيني بأرجيلة. ومهما عندك أتوسل، عنّي الجمرة ما تشيلي”، يغني اليوم وفيق حبيب عن الكيماوي.

عند شريحة معينة من السوريين، جمرة الأرجيلة توازي الكيماوي. ببساطة. ومن دون تردّد أو مواربة أو خجل. أغنية الكيماوي تعطي فكرة عن كيفية اطلاع تلك الشريحة على ما يجري على أرض بلدها. وكأن الناس الذين ماتوا بغازات سامّة في مناطق مختلفة ليسوا سوريين، أو أنهم ينتمون إلى كوكب آخر. أي أن الكيماوي تحول إلى ظاهرة طبيعية تستخدم لاحقاً في الأغاني وفي التعبير عن الحب. في الوقت ذاته، يستخدمها المغني السوري كحدّ أقصى للعذاب. ثلاث سنوات، أوحت للمغني بوسائل تعذيب أكثر فعالية من الذبح وإطلاق النار والضرب. إنه الكيماوي!

 إذن، المغني أو كاتب الأغنية يعرف أن ما استخدم في غوطتي دمشق هو الحدّ الأقصى من الشرّ. مع ذلك لا تزال الشريحة هذه، غير مبالية، تتفرّج على معاناة الناس بعين لا ترفّ.

 ليست “رشّ عليّ كيماوي” مجرد أغنية يبثها الكثير من الملاهي الليلية في لبنان بعد منتصف الليل. إنها تنتمي إلى سياسة تحويل الجريمة إلى فعل عادي وفي تطويع المفردات وإعطائها أبعاداً أخرى. فيصبح الكيماوي مجرّد مفردة في أغنية يرقص على إيقاعها الناس. إلا أن الطقس الاحتفالي الذي يرافقها يشبه إلى حدّ بعيد ممارسات المجرم. يشبه الفيديوهات المسرّبة التي يظهر فيها شبيحة النظام يعذبون أحد السوريين وهم يغنّون ويرقصون. تشبه طقس توزيع حلوى البقلاوة بعد “سقوط” القصير وتوزيع الحلوى في مكان آخر لدى حصول تفجير وسقوط مدنيين أبرياء.

 إنها فكرة الاحتفاء بالموت وتطويع المشاهد ليعتاد العنف. العنف الذي لا حدود له، يتم تسريبه على دفعات. عنف يكبر وينمو داخلنا من دون أن نشعر. أذكر أن مشهد جثة في نشرة الأخبار كان كافياً لإغلاق التلفزيون وتجنّب مواجهة العنف.  بعد أسابيع على بدء الثورة السورية، صار مشهد الجثة عاديا، مثله مثل أي مشهد آخر. ثم صارت مشاهد الضرب المبرّح الذي يمارسه الشبيحة على المتظاهرين والمعارضين، هو ذروة العنف. بعد أشهر، لم يعد ذلك الضرب هو الذروة. لأننا شاهدنا أطفالاً ذبحوا وعذبوا حتى الموت. ثم صارت الرؤوس المقطوعة تتدحرج على الأرض وتعلق على الجدران. ثم كانت البراميل وصواريخ السكود، وبعدها الكيماوي. ولا نعرف إلى أين قد يصل العنف ولا كيف ستروّض ذاكرتنا على تقبّل أشكاله.

 أذكر كيف كان خطاب السيد حسن نصرالله يمزج بالأغاني الأجنبية صاخبة الإيقاع بعد منتصف الليل. وكان صوت السيّد هو الذروة التي يصل إليها طقس السهر والرقص في دمشق بعد حرب تموز 2006. صوته كان كفيلاً بتفجير طاقة الشباب وهم يرقصون ويشربون. ما أن يتسرّب صوت السيّد قائلاً: “أنتم أردتم حرباً مفتوحة فلتكن حرباً مفتوحة. مستعدون لها. حرب على كل صعيد. لن تدمّر بيوتنا وحدنا. لن يقتل أطفالنا وحدنا. لن يشرّد شعبنا وحدنا. هذا الزمن انتهى”، حتى يجنّ جنون الناس وتتأجج الحماسة في عروقهم.

مع فارق بسيط، أن المعني حينها كان العدو الإسرائيلي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى