صفحات الرأي

رفاه ناشد ومعتقلات الخوف


جـوزيـان سافينو

رفاه ناشد، رائدة التحليل النفسي في سورية، خلقت فضاء للكلام بالنسبة للخائفين. استهدف اعتقالها التحليل النفسي في حد ذاته، مما أثار سخط زملائها.

بدأنا نسمع عن مؤاخذات بخصوص تبني قضية رفاه ناشد، المحللة النفسانية السورية، المعتقلة منذ 10 أيلول/سبتمبر الماضي. بينما، تجري اعتقالات يومية في سورية، ربما بلغت حاليا رقم 70.000 سجين. إذن، لماذا هذه السيدة بالضبط ؟ ثم، تبرز التهمة، فورا: رفاه ناشد، تنتمي إلى فئة من المثقفين، وأوروبا تهتم بها على حساب الآخرين.

لكن أن تكون طبيبة نفسانية، بل أول من مارس هذا الاختصاص في سورية، سنوات 1980، بعد دراساتها بفرنسا. أيضا، لا نعلم عنها أي نشاط سياسي نضالي. معطيات، يستحيل أن تجعلنا ‘غير مكترثين’. هكذا، يقول المحلل النفساني اللبناني ‘شوقي عازوري’ على هامش لقاء، نظم في بيروت من 28 إلى 30 تشرين الاول/أكتوبر حول موضوع: [حرب بلغت مداها، حرب لا نهائية]. ويتابع قوله: ‘بالنسبة للعالم العربي، كان صعبا موضعة التحليل النفسي. لقد مثلت رفاه ناشد في هذا الإطار قامة، بحيث أرست دعائم المدرسة السيكولوجية السورية، لا تعرف للسياسة طريقا، بل تمارس فقط مهنتها. كرست مشروعها لقضية التحليل النفسي وكذا مرضاها’. إنه نفس شعور، ‘إليزابيت رودينسكو’، المحللة النفسانية، ومؤرخة التحليل النفسي، التي التقت ناشد في منتديات علمية، لاسيما في بيروت، وتعتبرها ‘قبل كل شيء، طبيبة سريرية ممتازة’.

بماذا إذن مذنبة، رفاه ناشد، البالغة 66 سنة، التي تم اعتقالها يوم 10 ايلول/سبتمبر في مطار دمشق وهي على أهبة المغادرة نحو فرنسا لزيارة ابنتها التي تستعد لوضع مولودها؟ لقد كانت تريد، في نفس الوقت، استشارة أطباءها، هناك، لأنها تعاني مرض السرطان، وكذا مشاكل قلبية. لقد وجهت إليها السلطة السورية، يوم 14 أيلول/سبتمبر تهمة: ‘مزاولة أنشطة، يمكنها أن تقود إلى زعزعة الاستقرار داخل البلد’، ورفضت الإفراج عنها بكفالة.

إن ‘الجُرم’ الوحيد، الذي ارتكبته السيدة، يكمن في تهيئتها مجالا للكلام بالنسبة لمن هم حاليا في سورية، يبحثون عن وسيلة لطرد خوفهم. كتب زوجها فيصل عبد الله أستاذ التاريخ بجامعة دمشق، من خلال رسالة، وجهها إلى منابر إعلامية متعددة: ‘مع بداية الأحداث الدرامية في سورية، تبنت رفاه ناشد، مشروعا للاشتغال على معالجة جماعة من الناس، بمساعدة أب يسوعي، زميل وطبيب نفسي أيضا. العمل، الذي احتضنته أمكنة تعبد اليسوعيين في دمشق، انبنى على مبدأ العلاج بالتمثيل النفسي’.

أذاعت وكالة فرانس برس، برقية حول ما تقوم به رفاه ناشد، مع الاستشهاد بأفكار تضمنتها مقالة صدرت لها سنة 2010، في مجلة التحليل النفسي: ”Topique”، تشير إلى ضرورة، منح فضاء للكلام بالنسبة للخائفين: ‘فضاء، يصير بالإمكان داخله، أخذ مسافة عن العائلة والعمل والمجتمع، مع انتفاء لمنطق الانصهار’، من المستبعد، أن يكون أفراد المخابرات، قارئين جيدين للمجلة المذكورة، لكن في المقابل وجّه خبر الوكالة الفرنسية، اهتمامهم صوب رفاه ناشد، هكذا يعتقد أقرباؤها.

إذا كانت مجموعة التحليل النفسي، قد تجنّدت من أجل أن تستعيد حريتها، فلأن نشاط هذا الحقل المعرفي، يستهدف بدوره جراء اعتقال ناشد، يقول فتحي بن سلامة: ‘أشرف حاليا على وحدة التكوين والبحث، التي في إطارها درست رفاه ناشد بجامعة باريس7، أنجزت أطروحتها، بتأطير من ‘صوفي دوميجولا’. ولقد صوت المجلس الإداري على قرار، يدعو إلى إطلاق سراحها. إن النظام السوري، لا يعاقب معارضة برميها في السجن، بل طبيبة إكلينيكية، وامرأة تتميز بذهنية تأسيسية. إنها تجسد الحالة الوحيدة، لامرأة تمارس التحليل النفسي. وأقامت له دعائم مدرسة، داخل بلد، لم يعرف قط التحليل النفسي؟ شخصية شغوفة بالتواصل، ولم تتجاوز أبدا نطاق سلطتها. تعيش حاليا، داخل زنزانة جماعية في ظل شروط صحية، طبعا مشينة. يؤكد زوجها، بأن حالتها الصحية مستقرة، ويعكس مزاجها قدرة على مقاومة المحنة، لكنها واهية جسديا’.

كل الهيئات السيكولوجية الفرنسية، بعثت خطابا إلى البرلمان الأوروبي، كي يهتم بقضية رفاه ناشد: ‘لقد اتهمت ظلما، فأنشطتها لم تتعد نطاق ممارسة تحليلية وعلاج نفسي’.

جوليا كريستيفا، محللة نفسانية وكاتبة، لم يسبق أن التقت رفاه ناشد. لكن منذ اعتقال الأخيرة، ستهتم عن كثب بمسارها وعملها وكذا إصداراتها: ‘لقد أوضحت رفاه ناشد، في مقالاتها الصادرة بالفرنسية، لاسيما على صفحات مجلة ”Topique” (العدد110)، أنه بعد دراساتها لعلم النفس الإكلينيكي في باريس، اشتغلت بمدينة حلب، وبالضبط في ‘مأوى للعجزة’: ‘وسط يجمع شخصيات، تمثل خليطا عجيبا من الذين يعانون العصاب والصرع والهستيريا والتأخر الذهني والمعاقين جسديا، حالات تشمل كل الأعمار من السنتين إلى الشيخوخة’. ثم، واصلت هذا العمل الهائل في دمشق، داخل مراكز المتخلفين ذهنيا: ‘أعلم، بأن عيادتها الشخصية أضحت شيئا فشيئا، وحتى قبل الأحداث الجارية، مساحة للكلام والاستماع، وبالنسبة لمن اضطهدهم مناخ بلدهم الاجتماعي’. تواصل كريستيفا، حديثها: ‘في الفضاء العام، يمنع الكلام الحر، وتحتاج إلى ألف حيلة، كي تكشف عن شيء ما، ينطوي على قليل من الذاتية. هكذا، صارت عيادتها مكانا، يمكن داخله للأنا أن تتجلى، بينما تلغى خارجه’.

بالنسبة لكريستيفا، التي تناولت الكلمة في إحدى التظاهرات المساندة، المنظمة في باريس من طرف المحلل النفسي ‘جاك آلان ميلر’، جاءت القضية في ‘لحظة، ينبغي أن نقول عنها حقا تاريخية، سواء فيما يخص التحليل النفسي والسياسة أو النساء’. التحليل النفسي، تجربة حميمية بامتياز، تشدد كريستيفا. واستمر فرويد ولاكان في نشدان هذه الحقيقة، كل واحد منهما بطريقته المتفردة: ‘في المقابل، شكل الاستماع إلى الكائن المتكلم ثورة كوبرنيكية للقيم والمعايير، التي تفتح إمكانيات جديدة، للارتباط بالآخر، فتؤسس ماهية السياسة ذاتها. ما دام الاستماع إلى اللاوعي، يزيل الحجاب عن خصوصية الكائن المتكلم. حتما، يتلاقى التحليل النفسي، مع الاهتمام المركزي للألفية الثالثة: أي معنى، يعطى للتفرد الذي صار مرادفا للسعادة، من خلال الحرية؟’. إذا استدعي التحليل النفسي، قصد الإجابة عن هذا السؤال، فتطبيقاته في بعض البلدان، محفوفة حتما بالمخاطر. ‘نعم، إنه مدعو لمقاربة هذا السؤال’، تؤكد، كريستيفا. لماذا؟’لأن الاكتشاف الفرويدي للاوعي، حوّل الطموحات الدينية والفلسفية، لغرب مهووس بحقوق الإنسان، إلى قلب العقلانية العلمية ذاتها. منظور، يتعارض في نفس الوقت مع شبه النزعة الإنسانية ثم الرعب الذي تضمره الأصوليات السياسية أو الدينية وكذا مختلف المساعي الحثيثة العلموية. فرفاه ناشد، تمثل شاهدا عن هذه المقاومة، بسعيها منح الكلام للخوف في مواجهة النظام السوري’.

في بلد كسورية، يسود الخوف كل مكان. يحاول النظام سحق الثورة، لأنه خائف من ضياع سلطته. المتظاهرون بدورهم يسكنهم الهلع، رغم ذلك، يسرعون إلى الشارع بدون أسلحة. ونحصي عددا من القتلى، رسميا 3000 سوري، وحتما، أكثر من هذا.

رفاه ناشد، والأب رامي إلياس، المحلل النفساني المسؤول عن المقر اليسوعي الذي تجتمع داخله فرق الكلام، التي يشرفان عليها معا، يبتغيان خلق مجال، يمكن لكل واحد داخله، حتى من ليس لهم قدرة على زيارة طبيب نفساني، البوح بخوفه. يشرح الأب رامي إلياس: ‘لا مجال هنا أبدا لممارسة السياسة. لكن، كل واحد يصير بوسعه اقتسام الخوف الذي يتملكه، ويوجهه، كي لا يحوله إلى عنف’. تعقب كريستيفا: ‘أعتقد بأن العمل الذي يتقاسمه الأب اليسوعي ورفاه ناشد، كان قطعا ضروريا. فالمخاوف، التي تحاول هذه المحللة الكشف عنها، تتجاوز مجرد رعب نظام سياسي، إنها حبست داخل الإطار الديني. رفاه ناشد، لا تهاجم مباشرة هذه المخاوف، لأنها لا تحدد شخصا. أعتبر هذه الأعمال، بداية مسلك، يتوخى زملاؤنا السوريون تدشينه، ليس بهدف إدانة التجربة الدينية، لكن وضعها موضع تساؤل. تفحصها وتفكيكها إلى ما لانهاية. وأعتقد بأن هذه التصورات المتطورة لا يمكنها إلا أن تتعضد، بالرغم مما تعرضت له رفاه ناشد’.

كما يقع في عمليات احتجاز رهائن، يصير النقاش مفتوحا. بمعنى، هل ينبغي الالتزام بالصمت، ونلقي بالعبء على الدبلوماسية في سعيها لإطلاق سراح رفاه ناشد: ‘لكن ماذا باستطاعة الدبلوماسية الفرنسية أن تفعله اليوم في سورية؟’. يتساءل فتحي بن سلامة. أو ينبغي فعلا التكلم، وترديد صوت رفاه ناشد، بحيث نقول ونعيد القول بأن سجنها له خصوصيته وتميزه، حتى لا تهمل وتنسى؟ موقفان، لا يكفان حتما عن التصادم. لكن، بالنسبة للمحللين النفسانيين، وبما أن الكلام، يتواجد في قلب ممارستهم، فلا يبدو من الممكن إسكاتهم.

مع نشر هذا المقال أفادت الانباء الواردة ان السلطات السورية أطلقت سراح رفاه ناشد يوم أمس الاول

Le monde: Samedi 5 Novembre 2011 -1-

ترجمة: سعيــد بوخليــط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى