صفحات الحوار

رندا قسيس : الحرية غير المشروطة تشجّع مبدأ التشكيك و النقد الذي يدفع الإنسان نحو الإبداع و العمل الفكري.


جهاد صالح – واشنطن.

رندا قسيس الكاتبة والباحثة   المقيمة في باريس ، ورئيسة الهيئة العامة للأئتلاف العلماني الديمقراطي السوري ، تبحث  عن الحرية في كل مكان وزمان، وضعت أقلامها وألوانها جانبا، ولبست ثوب العلمانية ، لتكسر جليد الأنا لحساب العام والجماعة  ،وتبدأ في نسج لوحة حياتية منطلقها الانسان بأحلامه  كفرد قيمي ومقدس، والوطن كبيئة  وجودية وأيقونة تضيء أحلام الشعوب بالخلاص والحريات، ترسم كرنفالات أنثوية  وثقافية  لأجل خلق مجتمعات ديمقراطية وانسانية عادلة، بعد تطهير المجتمعات كلها من ثقافات الطغيان والظلم، لتجد نفسها مع أبناء وطنها سوريا في نشاط وعمل جميل، غايته انهاء الاستبداد وحكم العائلة  والحزب الواحد ، وتمزيق كل أقنعة العروبة والمقاومة والتصدي التي  يخفي بها النظام السوري حقيقته ، ومعاداته للانسان والحريات والقيم الشرقية  ومتاجرته بكل شيء لأجل ديمومة عرشه واستبداده على حياة السوريين، وخلقه للفوضى في الشرق الأوسط.

رندا قسيس  تحمل أفكار ومبادئ تتجاوز حدود نهايات الاستبداد وأرثه ، وتملك مشروعا حيويا لسوريا ما بعد البعث والشوفينية، وتؤسس لعوالم مدنية وديمقراطية في وعاء العلمانية الجامعة للجميع من تلوينات وأيديولوجيات وفضاءات ثقافية ، داخل البيت السوري الذي سيكون قوامه القانون والمؤسسات والتعددية في وطن تشاركي واحد.

– أنتقلت رندة قسيس من عوالم الكتابة والبحث الفلسفي والفنّ التشكيلي ، لثورة الحرية وكسر جليد الإستبداد في بلادها ، ما هذه الثورة الذاتية ؟

أعتقد أن ثورتي الذاتية بدأت منذ زمن بعيد، فهي تتجلى في ذلك التساؤل المستمر عن كل ما تلقناه و تعلمناه أثناء حياتنا مع الاستمرار في التشكيك لجميع المفاهيم و الصيغ للوصول ألى معارف جديدة و التي تمر بمراحل مختلفة و عديدة. مهد لي الفن التشكيلي طريقاً للغوص في عالم الكتابة التي هي بدورها حفزتني للخوض في عالم البحث و الاستكشاف من أجل نفض الموروث الثقافي و التاريخي لدى الإنسان، لتكون رحلتنا في ظل ظروف اعتيادية عبارة عن رحلة استكشافية في هذه الحياة. لكننا اليوم نعيش ظروفاً استثنائية في المجتمعات ، و التي تفرض علينا جميعاً القيام بعملية حسم واضحة، ليخرج بذلك المثقف من عالمه التأملي المشتعل الإحساس الباحث عن لمس التجارب الخارجية من خلال أداة يمتلكها للقيام بعملية الترجمة، لكننا نراه، في هذه الظروف، يتحول هو ذاته ألى أداة تعبيرية للجماعة مكرساً بذلك معرفته و نظرته و خبرته لخدمة القضايا الإنسانية للجماعة.

– هناك أختلاف نوعي في سبب الثورات ، رغم تشابه ثقافة القمع وآلياتها، وتقاطع الشعوب في  هدف اسقاط هذا الموروث الثقافي من الإستبداد وهياكله من آلهة تصنع الموت وقهر الانسان، لكننا نعيش نموذجا سوريا خاصا بين وجهي الجلاّد والضحية ، فما هو سرّ الفلسفة الثورية في المجتمع السوري بهذين النقيضين؟

حرم المجتمع السوري و لمدة عهود طويلة بممارسة حياته و بكل ما تحويها من معاني للحرية التي تؤهله لممارسة قدراته و كفاءاته. فقد اعتمد النظام السوري على تحويل الفرد ألى كائن تنحصر همومه و متطلباته في اشباع حاجاته الأساسية فقط. مما سبب معاناة لدى الأفراد و حالة من “عدم الاكتفاء” المزمن و ذلك لتسهيل عملية الإخضاع و الهيمنة عليه. لكننا نجد أن هذه المعاناة الطويلة سببت لدى الأفراد رفضاً لاواعياً لواقعهم، باحثين و بشكل غير واع عن وسائل و حلول لطرح الشحنات السلبية المتراكمة و الناشئة عن حالة عدم الاكتفاء، ليستغلوا أي ظرف خارجي يساعدهم للتخلص من معاناتهم. و هذا ما حصل في سوريا حيث انقلبت حالة الخضوع ألى حالة من التحدي و الاصرار لمواجهة الإستبداد.

– الحرية تبدأ من الفرد وتكون لخلق كينونة ذات فضاءات انسانية بلا حدود تحت وازع من القوانين الأخلاقية والطبيعية لرسم مسارات ممارسة هذه الحرية الفردية، وبالتالي  تكون أساسا لحرية الشعوب والآوطان، كيف نستطيع أن نخلق هذا المحيط الثقافي في الوعي الفردي للمواطن، ومجتمعاتنا الجاهلة لحقوقها، والتي تشارك في صناعة آلهة بشرية تتحول لأداة أستبداد وطوطم يرمز للشرّ واستعباد الفرد وسيلة لديمومة ثقافة الطغيان ؟

مما لا شك فيه ان المجتمعات ذات مفهوم الحقيقة الواحدة تعاني من الموروث البدائي، فنراها تفتقد لأدوات متنوعة تساعدها في تبني سلوكيات و تفكير متنوع. من هنا أجد أن الخطوة الأولى تبدأ في نشر التعاليم و المناهج لنماذج ثقافية و فكرية مختلفة من دون اتباع أي توجيه مشروط للأفراد. و ربما علينا البدء في نشر مفهوم “اللاحقيقة” الذي يعكس تنوع الحقائق المتغيرة حسب نماذج الوعي البشري المنتشرة في أنحاء الأرض و المتلائمة في منحاها مع التنوع الطبيعي بدلاً من البحث عن حقيقة ما. أعتقد أن مفهوم “اللاحقيقة” هو الذي يدفع الفرد نحو تبني مفهوم التكامل مع الأنوات الفردية المتعارضة و هو الذي يعيد له الثقة بالنفس ليحثه على البحث و الاستكشاف اللامتناهي من خلال ذاته و الذوات الأخرى من دون الوقوع في فخ “الأنا” الضيق العاكس لثقافة محدودة ألغائية حقيقية.

 كتبتِ في أحدى مقالاتك بأن الشعوب ستبقى راضخة للذل والإستبداد ما دامت لا تملك ألا الإله، فهي تعزي نفسها على أنها صاحبة الأديان السماوية ،وأن الإله خصها تحديدا واختارها كي تنام بجانبه نومة أبدية، هل سنشهد هذه الحالة بعد  نهاية ربيع الحرية في الشرق الأوسط ، في ظل الصراع بين آلهة الإسلام السياسي ، و دعاة الدولة المدنية والعلمانية؟

إذا نظرنا ألى جميع الشعوب البدائية، نجدها تكرر نفسها و ثقافاتها، فهي تؤجج مشاعر الافتخار و الاعتزاز بدياناتها، أي نستطيع القول أن الافتخار بالديانة المحلية يعبّر عن حالة من الانهزام أمام الآخر المختلف، لينتج عن هذه الحالة انعزال و عدم قدرة على التكيف و التأقلم مع التحولات و الانعطافات الصادرة عن المحيط الخارجي المتغير. أعتقد أن هذه الثورات لا تعبّر فقط عن أرادة صلبة لدى الشعوب في شرقنا المضطهد من أجل كسر قيود الاستبداد السياسي، بل تعكس لنا رغبة لا واعية لدى أفراد هذه المجتمعات من أجل تحطيم جميع القيود أن كانت اجتماعية أو فكرية … نحن الآن نعيش أنعطافه تاريخية و مفصلية لدى هذه الشعوب و يمكننا في هذه الفترة الراهنة البدء في احداث بعض التغيرات لهدف توسيع الإدراك لدى الفرد. أعتقد أن الوقت الحالي يشكل أرضية مناسبة للبدء في مشروع فكري- ثقافي- سياسي يقوم على أساس أحترام الفرد و اعادة فكره الذي تم أغتصابه لفترات طويلة.

– أنت الآن أحد أقطاب الفكر العلماني وثقافته لأجل أحداث التغيير في الواقع المتشرذم بفعل سلطة رجالات الدين من جهة ، ومنظومة الديكتاتوريات من جهة أخرى، كيف يمكن في سوريا أن تكون العلمانية ثقافة فكرية تنقل البلاد من عقود القهر والظلم ألى منتوج جديد ديمقراطي؟

أجد أننا بحاجة ألى كوادر و آراء و أفكار مختلفة كي نقاطع فيما بينها لإنشاء ثقافة جديدة متنوعة تستطيع دغدغة مشاعر أفراد المجتمعات لتمكنهم من القفز ألى مستقبل أفضل. فمن وجهة  نظر خاصة، أجد أن العلمانية لا  تتلخص بمفهوم ثابت، بل تتلخص بذلك المتغير العاكس لمبدأ التطور و الناتج من عملية فصل ما بين العقل المرتكز على أساس التجربة المعرفية و بين المشاعر الروحانية الناشئة عن التفاعلات النفسية. حيث تكون الأسس و القوانين الأخلاقية الجامعة بين الأفراد قائمة على أساس المصلحة المشتركة لإنشاء عملية توازن تصب في خانة الفرد و كتلته في آن واحد. و لا ننسى أن الحرية غير المشروطة تشجّع مبدأ التشكيك و النقد الذي يدفع الإنسان نحو الإبداع و العمل الفكري.

– الأقليات في سوريا، تعيش هواجس الخوف على مستقبلها بعد سقوط النظام البوليسي والبعثي، وخاصة أنه هناك شخوص في أقنعة الديمقراطية و تمارس في ثقافتها الاقصاء بحق المختلف قوميا ومذهبيا وأثنية؟

لا شك أن ثقافة الاقصاء و الشوفينية تختبئان خلف كلمات و عبارات تمييزية تفصل بين الأديان و الأعراق و الأثنيات… و الآتية ألينا من موروث بدائي منبعه مشاعر الخوف من الغريب، ليتحول هذا الخوف ألى مشاعر كراهية و ميل للعنف تجاهه، فمشاعر التمييز ناتجة عن ردة فعل تجاه القلق الدفين لأي نموذج ثقافي مختلف  (أقصد بالثقافة هو ذاك الوعاء السلوكي و الوعي بما يحتويه من أخلاق و أسس و قوانين جمعية). لهذا أجد أن تغيير السلوك الفردي و الجمعي تجاه النماذج المختلفة لا يمكنه أن يتسم بالمرونة إلا بعد وصولنا ألى نقطة الصفر، أي أن اسقاط  النظام التوتاليتاري السوري سيفتح لنا مجالاً أوسع لمحاربة كل أنواع التمييز و الاستبداد ذات الأوجه المختلفة.

– القضية الكردية في سوريا  ستكون  من أهم القضايا داخل الحياة السورية ، وانصاف الشعب الكردي السوري هو سبيل لتعزيز ثقافة الديمقراطية والتعددية، هل يمكن أن نشهد دولة سورية مدنية تنصف أكرادها دون تمييز وعنصرية ؟

لا يمكن أن نشهد دولة عصرية حديثة إنسانية في سوريا من دون الحديث و العمل على انصاف الشعب الكردي الذي تم اضطهاده بشكل مكثف. صحيح أن المجتمع السوري برمّته عانى من التشرد و القتل…إلا أننا لا يمكننا أن نقارن معاناته بمعاناة الفرد الكردي الذي حرم من أبسط حقوقه. أعتقد أن على جميع الأطياف في المجتمع السوري البدء بالإعتراف لإعادة الحقوق كاملة للشعب الكردي، بما فيها حقه في تقرير المصير، كي نستطيع طيّ هذه الصفحة السوداوية. أن المواطنة تبدأ عند الاقرار بتاريخ و لغة الشعب الكردي و اعطائه الحق في الاختيار كي نستطيع بناء دولة عادلة، يتساوى فيها جميع الأفراد المنتميين ألى اثنيات أو أديان أو معتقدات أو افكار مختلفة، و من أجل تحقيق هذا الانتماء المتنوع، علينا أولاً بفصل الدولة السورية عن الغطاء العربي كي تكون سوريا وطنا للجميع من دون اعطاء أي غطاء قومي أو ديني لها.

–  المجلس الوطني  السوري كيف  سيكون صوتا شفافا للثورة ، ومرآة عاكسة لطموحات السوريين في الحرية والخلاص، وهو لم يضع أجندة لأنهاء الإستبداد وأدواته، ويفتقد لخارطة عمل تفصل الدين عن الدولة، وتأسيس المجتمع المدني التشاركي، في ظل  سيطرة التيار الإسلامي وضعف التيار الليبرالي والعلماني؟

سأتكلم عن المجلس الوطني بصفة شخصية و ليس بصفة المتحدث باسم الائتلاف العلماني الديمقراطي السوري. نعلم أن الائتلاف أصبح شريكاً في هذا المجلس المتنوع و المتشكل بنسبة غالبيتة من الاسلاميين و الذين ما زالوا يتعاملون مع الآخر من منطق الأكثرية و مبدأ التبعية. مع العلم أنهم لا يمثلون أكثر من 20 بالمئة من المجتمع السوري، إلا أنهم يملكون، و بفعل تجربتهم الطويلة و سيولة الأموال لديهم، تنظيماً ذو استراتيجية محددة للوصول ألى أهدافهم. من المؤكد أن الجميع قابل للتغيير، و علينا عدم استباق الأحكام، إلا أن أفعال الاسلاميين ما زالت  تبرهن ألى يومنا هذا عن استفحال “منطق الاستبدادية” لديهم، فسلوكياتهم الأقصائية بحق الآخر المختلف واضحة للعيان، فهم لا يتعاملون من موقف الند للند ، بل يتعاملون من موقف المتبرع و المتفضل على الآخر، ناسفين بذلك حقوق الأقليات المتكافئة للأكثرية و ضاربين بعرض الحائط حق الفرد.

في ظل ذهنية ألغائية كهذه، أعتقد أن على جميع القوى الأخرى التكاتف و العمل سوية من أجل تحقيق دستوراً عادلاً مؤسساً على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لكننا في هذه الفترة الراهنة نحتاج لتوحيد جميع أطياف المعارضة لهدف اسقاط النظام السوري.

– كيف ستكون منطقة الشرق الأوسط ما بعد نهاية نظام الأسد ، وحقب طويلة من خلق الفوضى واشعال الحرائق في لبنان وفلسطين والعراق ،ومن ثم تحوله أمام المجتمع الدولي لنظام أطفائية وصاحب حلول  يستمد من هذا الدور ديمومته واستمراريته؟

لا أعتقد أن منطقة الشرق الأوسط ستكون أسوء حالا مما عليه اليوم، لكن لا شك منه أننا أمام مرحلة انتقالية صعبة تحتاج ألى قدرات كبيرة و ارادة صلبة للوصول ألى الهدف الأعلى و هو تحقيق العدالة و المساواة للأفراد من أجل بناء مجتمع خال من التابوهات و الشوائب الذهنية.

– هل أنت تعيشين الأمل أن تشهد المجتمعات العربية ثورات فكرية وثقافية تطهّر تاريخها من أرث الإستبداد والظلم، ويكون المستقبل ديمقراطيا وعادلا بظهور مجتمعات  عادلة على أسس ثقافة حقوق الانسان والحريات،  أم سنحتاج لثورات دائمة وحية؟

الأمل هو مفتاح الحياة، فهو الذي يقود ارادتنا لتجاوز الصعوبات، فيعطينا اصراراً فولاذياً للاستمرار في معركتنا الوجودية ضد كل أشكال الاستبداد. ما زالت رحلتنا طويلة، لكني كلي أمل و تفاؤل و اصرار لكسب هذه المعركة و لهدم أسوار و جدران ثقافة مترنحة تحت ثقل موروثها البدائي.

رندا قسيس رئيسة الهيئة العامة للائتلاف العلماني

جهاد صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى