صفحات الحوار

الروائي المجري ايمري كيرتيش (نوبل) في حوار شامل: الكتابة هي لعبة خطرة حتى الموت

                                            إيمري كيرتيش الروائي المجري الذي نجا من معسكرات الاعتقال والفائز بجائزة نوبل للآداب العام 2002، والذي همّش كثيراً خلال الحقبة الشيوعية في المجر، وتجاهلته الأوساط الأدبية، لدى صدور روايته الأولى “كائن بلا مصير” العام 1973، الذي يتناول فيها تجربة الاعتقال في المعسكرات.

ايمري كيرتيش، لم يحظ بالاعتراف إلا مع سقوط جدار برلين نهاية الثمانينات، ولاقت كتبه نجاحاً كبيراً في التسعينات وفي أعماله نسيج السيرة الذاتية لمراهق مجري أمضى مراهقته في معسكر “أوسفيتش” ثم في “بوشنوالد” خلال فترة الاضطهاد النازي ليهود المجر. هو الآن في عمر 84 عاماً وقد أنهكه المرض.

جائزة نوبل للآداب للمعجب الكبير بكامو، ومترجم نيتشه وفيتفشتاين وآخرين أعادت مد الجسور مع الحياة، ولأول مرة تلتقيه “philosophie” في حوار طويل يتحدث فيه عن نفسه وسيرته وكتابته وعن الرواية واللغة والزمن وعن مرضه وتوقفه عن الكتابة. وهنا مقتطف من الحوار الطويل مع كاتب له أهمية في الثقافة الأوروبية الحديثة ومع أنه يمثل بذاته الإقلية اليهودية ولكن لا صلة تجمعه بالتاريخ اليهودي بعد “أوسفيتش”:

[هل يمكن أن تعطينا فكرة عن المراحل الكبرى لتكوينك الثقافي، والذي لم يتم بين جدران المدرسة؟

ـ إيمري كيرتيش: في نهاية حرب 1945، خرجت من معتقل بوشنوالد لأعود إلى بودابست. كان أقربائي قد أختفوا، أضعت سنتين من الدراسة. كنت في الخامسة عشرة. ما كنت أعرف شيئاً، وغير مهيأ لأي شيء، وإنما فقط في 1948 بدأت أفهم، بطريقة ملتبسة، أن العمل الثقافي يجذبني، بينما الوضع صار عدائياً بالنسبة الى هذه المهنة. فالشيوعيون أخذوا السلطة في المجر عام 1948 وأسسوا دكتاتورية شمولية العام الثاني، بالنسبة أليّ، كنت بدأت العمل في الصحافة، ظاناً أنها وسيلة جيدة لانخرط في مهنة الكلمات. وطننت أنني سأنجح في هذا الطريق. ولكن وبينما كانت الأمور تسير في منحى جيد بالنسبة لي، أطبق ستار الرقابة الحديد على هنغاريا..

[وهذا ما يفسر استقالتك عام 1951 من وظائفك الصحافية.

ـ نعم! طردت، لأنني لم أرد أن أبدل في أخبار الحزب. هذا التسريح مثل حقيقة نعمة، لأنه في العادة مسألة المعاندة تخضع لإجراءات قاسية جداً. سنوات تكريس وترسيخ الديكتاتورية الشيوعية كانت سنوات صعبة الاحتمال وبمشقة يجري التنفس بها وبصعوبة بالغة. زوجتي الأولى أجرت اتصالات للهجرة ولكن جرى وقف الإجراءات التي قامت بها، وتم اعتقالها من دون أي مسوغ قانوني. كان ذلك حدثاً أثر عليّ وأوقف تقدمي في مجال الكتابة والكلمات. وإذ لم أنجح بأن أدرك الكتابة، وأن أتكلم لغتي الخاصة، واقع الأمر أن ذلك أوجد مساحة من السخط والتموضع. كان عندي على نحو غير عادي جداً متسع من الوقت الحر، ومساحة مهمة للتفكر والتأمل في مواجهة أشكال التعسف.

غرقت في موجة من التأملات. كنت واعياً أنه نوع من الترف الصعب التخيل لصالح البعض وخصوصاً في أيامنا هذه. حين عادت زوجتي من مخيم الاعتقال وبسبب من الذل الذي أحست به من النظام الجديد، والنظرة الشرسة والقاسية والحقد التي تولدت عندها رغبة ترك البلاد فأسرت إليّ بذلك وطلبت مني أخذ القرار النهائي بالمغادرة أو عدمها. وأنا كيف أشرح هذا. لديّ شعور متناقض تجاه الآخرين، ولقوى التاريخ نفسها الوحشية، إذ أغلقت الحدود وازداد الضغط والمنع والقمع، كان لديّ الإحساس بأن بعض الأشياء فُتحت بالنسبة الي على الرغم من التهميش. لم أعرف أي عالم احتاج إليه. عمدت الى إخفاء افكاري على الورق، على شكل صفحات حميمة، في مخطوطاتي عن العصر يمتزج صوتان: من جهة لم أرد العيش في هذا السياق التاريخي الوحشي الذي احتقره بكل قواي، السياق الهنغاري الاشتراكي ومع معسكرات الاعتقال (…) ومن جهة ثانية عرفت بأنه يجب أن أبقى، وكان عليّ أن استجمع كل قواي لكتابة رواية. هذه الفكرة أعجبتني وليس سواها، حتى أكتب رواية “كائن بلا مصير”، الكائن الذي بقيته في هنغاريا. والأكثر دهشة أني اتخذت قراراً صعباً بالنسبة لي وبالنسبة لزوجتي، إذاً، لم أكتب سطراً واحداً من روايتي كان عليّ صناعة لغة لكل ذلك، كان علي أن أقرر كيفية التعامل مع الزمن في الرواية.

[إذاً، لم تندم؟

ـ حياتنا من دون شك كانت أفضل في الخارج، ولكن كان لدينا الحظ بأن نكون محاطين برفقة حية من الأصدقاء. ذات يوم، صعد أحدهم لعندي، رآني جالساً في زاوية قرب الرادياتور. كان ذلك في الشتاء، والجو عاصف والصقيع يلفني وأشبه بصفيح جليدي “لكن ماذا تفعل في مثل هذا الوضع المنكمش فيه على نفسك؟” -“لا شيء، أكتب رواية”- “أي فكرة؟ تريد أن تموت من الجوع أو ماذا؟”. ما كنت متأكداً من رغبتي بالبقاء في التعاسة، ولكني لم أجد أي وسيلة لكسب حياتي في ظل قمع النظام. إذاً، صديقي الذي كان كاتباً مسرحياً وناجحاً أدخلني في عالم الأعمال، لكن ماذا أكتب، بقي علي استكشاف قدراتي الشخصية وتعيين انطباعاتي ولكوني روائياً حول كل الخلفية التاريخية.

[كان لديك عمل مسرحي في هنغاريا الاشتراكية؟

ـ هذا جعلني تحت المطرقة، يكفي معرفة الوضع الذي كانت عليه الأمور في سنوات الخمسينات، كانت هناك مجموعة مهمة من الكتاب الهنغاريين الموصوفين والمشهورين، الذين لم يستطيعوا الصعود الى خشبة المسارح الوطنية أو إخراج أفلام رسمية لأنهم كانوا خاضعين للسلطات الأمنية والمخابراتية والسياسية في مواجهة الروس. في العام 1956 كان هؤلاء الكتاب أحراراً نسبياً. أثارني هذا العالم الغريب الذي يشكل خلفيات الدكتاتورية التي عشتها وأنا ناضج العقل أثناء حكم راكوشي، وبعد ثورة 1956 في فترة كادار. بالعودة الى المسرح الكتاب انتجوا مسرحيات (البولفار) وعرضوها في أماكن تجريبية وغالباً في منازل ثقافية في المقاطعات والأرياف وحتى في مستودعات الحصاد. هذه المسرحيات لاقت نجاحات كبيرة، خصوصاً أنها لم تتجاوز الحدود الى المواضيع السياسية وارتكزت أكثر على الأعمال الكوميدية التي تستعرض العادات والتقاليد والسلطات أغمضت عيونها.

[ومن الناحية الأدبية؟

ـ من الناحية الأدبية كانت هذه المسرحيات أعمالاً ساخرة وتهكمية، وكذلك لم تكن هذه مشكلتي. عندي كان هناك خوف توازن ما، عندما أكتب عملاً أدبياً عادياً أو بائساً يتولد لدي الشعور القسري، هذا الأمر السيئ، ولم استطع حقيقة استخدام كل وقتي لهذه الانشغالات من دون حالة انفصام ما، حالة شيزوفرينية أصابتني. لهذا قسمت حياتي نهاية الخمسينات الى قسمين. خلال 6 أشهر قمت بجولات مع أصدقائي المسرحيين وخلال الستة أشهر الأخرى تفرغت الى القراءات الفلسفية في معرفة الإنسان وعصره. قرأت كل الأعمال الكلاسيكية من أفلاطون الى الأعمال المعاصرة وتفكرت جيداً ووجدت مادة كبيرة للمراجعة الفكرية، وترجمت نيتشه، هوفمانستال، شنيتسلر، فرويد، روت وغيرهم. الفلاسفة الكلاسيكيون هم الموضوع الأساس بالنسبة إليّ، وبمعنى ما، التفكير هو فن يتخطى الإنسان.

نيتشه

[قراءة فريدريك نيتشه غاية في الأهمية في هذا السياق المرتجل بين سجون الاعتقال وبين أوسفيتش وبوشنوالد، ألم تأخذ في فكرتك ضد النظام والفردية الوسائل للمقاومة ضد عقيدة الماركسية الأممية والشمولية كوسيلة لكفاح من أجل البقاء؟

ـ من دون شك، ولكن ليس لهذا المعنى الشكلاني للأشياء. سألقي عليك طرفة، تعرف ما هي اللحظة النقدية ما بين ريتشارد فاغنر وفريدريك نيتشه؟ في بداية سنة 1878، أرسل فاغنر إلى صديقه نيتشه نموذجاً موقعاً مأخوذاً من أوبرا بارسيفال (Parsifal)، آخذاً في الاعتبار المزاعم بمواقف الفيلسوف ضد المسيحية بعد إصداره الجزء الأول من “الإنساني، الإنساني والحرية” فاغنر وبحس هزلي أضاف تحت توقيعه “المستشار الأعلى للعلاقات الكهنوتية”. في نيّة المؤلف، هي مجرد نزوة بسيطة، ولكن لم يتلقفها نيتشه هكذا. أغاظته الملاحظة كثيراً (…) والفلاسفة على العموم جماعة غاية في الحساسية والنزق (…) والفرق بين الفيلسوف والفنان يمكن ملاحظته، فالفنانون يتلاعبون بالأفكار، فيما الفلاسفة دون تلك المساحة، وبعيدون عن الظرف والفكاهة.

[من نيتشه ترجمت ولادة التراجيديا؟

ـ هذا صحيح، الكتاب يتكلم بصراحة عن التراجيديا اليونانية إذ يعالج بالواقع الموسيقى والمشاعر التي تمد التراجيديا. (…)

وألبير كامو!

[بخصوص كامو تقدر جيداً أبحاثه الفلسفية؟

ـ حقيقة لا أعرف. أحببت جداّ فظاظته، بالنسبة لي، يمثل حقيقة صورة الشاب الذي يكتشف كل شيء، ويرى كل شيء، ويتجرأ على القول بسخرية نافرة وبخبث وسوء نية. انظر كيف جاء كامو من الجزائر في عمر 30 سنة وكيف تجرأ على أخذ مفاهيم فلسفية مهمة: العبثية، الشهادة، الحرية والاستحواذ عليها.. من دون احترام، من دون حيطة ولا حذر، ولا خوف، تلك الطاقة الحرارية هناك (…) كامو خط أسلوبه، ينسخ نفسه، أخصب مؤلفاته، أشبعها بالقراءة وإعادة القراءة من دون توقف الى الأقصى الى حدود تمكنه من رؤية عالمه وبعينين جعلته معلماً.

هذا ما حصل معي مع كامو.. على نحو لا يقارن مع أي كاتب آخر. وحده توماس مان يمكن مقارنته بألبرت كامو، باكتشاف “موت في البندقية” “Mort a venise” أحدث صدمة بالنسبة إلي، تفجراً، ولكن ليس كمثل حالة “الغريب” عند ألبرت كامو. كامو يبقى بالنسبة إلي الرجل الشاب الأكثر تأثيراً والأكثر ايحاءً، وتوماس مان البروفسور الهادئ والحكيم الذي لا يجري في كل الاتجاهات وفي أعماله أخذت ذائقة المعرفة والتنقيب، فيما أخذت من أعمال كامو درس الحياة نفسها، انجذبت إليه الى كتابته التي تهتم بحيواتنا الخاصة، وانفعالاتنا وأفكارنا.

[النقطة المشتركة بين كامو ومان هي في الرواية الفلسفية، ألن تصنفها ضمن هذا الترتيب أو التوصيف؟

ـ كلا، انظر الى الفلسفة كبحث عن الحقيقة. وهذا يفترض أفكاراً جدية. بينما في الأدب والرواية أشياء أخرى، الكتابة هي لعبة حتى الموت. حين ندخل في كتابة الرواية يجب ايجاد لغة روائية. هذا الهم يولد لغة خاصة وحالمة بعيني الكاتب أو متخيلة ومركز ثقل وجاذبية حتى الموت. الكتابة تصير سؤال الحياة وكما الرواية، كما الشعر سؤال الحياة. روايتي الأولى “كائن بلا مصير” ما كانت لتكتب في لغة أخرى غير لغة الآخر. هذا ليس خيالاً، ولكن فقط شهادة. فأوسفيتش بالنسبة لي ليست بمكان عجيب وغريب، كأنها جسم آخر غريب خارج مسار التاريخ الأدبي.

مصطلح الرواية

[عمقت التمايز الرئيس، ولكن على نحو غير واضح تماماً لماذا “كائن بلا مصير” وفي عينيك المتخيل وليس الشاهد؟

ـ تجد تعريفات عدة لمصطلح الرواية، وسأحاول أن أعطي التعريف الأفضل. فن الرواية يرتكز على البحث عن وحدة بين ثلاثة أبعاد مفاتيح هي: اللغة والوقت والفعل، أو إذا أردت المصير. حاولت إيجاد لغة في روايتي، لغة تمكنني من قول الأشياء والدخول في هذا الجزء أو ذاك. والتقدم هنا أو هناك. نعم الكتاب لا يدعي تحمل المسؤولية ولا يعكس الهم التاريخي إذا أردت، لأني أرفض رؤية الأشياء من فوق أو من الخارج، حياة المعسكر هي ممارسة يومية تشبه غيرها من الحيوات مليئة بكل شيء. الراوي هو في انغماس أو نوع من التبحر فيها، الشاهد التاريخي يفترض نوعاً من التراجع إلى الوراء. وفي ما خص الوقت، الروائي يجب أن يجد في عمله نظاماً من التوقيت الخاص. في رواية “كائن بلا مصير” السياق التاريخي هو كرسم تخطيطي. وبمقارنة هذه الرواية مع شهادات تاريخية وجب الأخذ بالاعتبار أن هذه الرواية الموجزة يتبقى منها عناصر وتمحو عناصر أخرى. وخصوصاً في مشهد حيث الراوي ينزل من الحافلة وفي “اوفيتش” يدخل في فترة انتظار تمهيدي للخضوع الى فحص الطبيب. توجد عشرون دقيقة فقط، عشرون دقيقة فقط، فترة انتظار، فترة تراجيدية وبلاهة في آن، اقتناص لحظات سعيدة رغم تعاسة الحال.

عشرون دقيقة يفضل فيها الأحياء ألا يقولوا أشياء،مثلهم مثل الراوي، في عفوية بريئة أو سذاجة (…) راوٍ في عمر 14 سنة يقفز من الحافلة وسط جمهرة من الناس المنتظرين في المخيم والمسجونين وحيث عليه أن يعمل في رفع الحقائب، هذا الراوي سأل طبيبه “لماذا؟” والآخرون يجيبون: “تريد أن تعمل أولاً؟”، وذلك حذراً من الخطر المحيط بهم، ومنعاً لتكوين تيار من الإحباط.. إنه الموت بالتأكيد.. بينما في قاعة الانتظار لدى الطبيب، الراوي ينظر بأمل، وبحماس الى أرض مخصصة للعب الفوتبول في زاوية أخرى من المخيم، على أمل أن تتاح له فرصة اللعب (…) إنها الحقيقة النهائية لانحطاط الإنسان في عالم المعتقل والتهميش.

[كم استغرقت كتابة “كائن بلا مصير”؟

ـ الكثير، الكثير، ثلاثة عشر عاماً فصلت بين الأفكار الأولى للرواية وإنجاز الجملة الأخيرة. (…) يعني علي أن اختبر واتخيل الجهنمين، شخصية صانع الفظاعة وشخصية الذي عانى من الفظاعة.. كتبت نصوصاً أولى منذ العام 1945، لكنها لم تتخذ شكلاً روائياً، ابتكرت شخصيات معتبرة ووضعت على لسانها نصوصاً مثيرة، لكن لم تنبعث من كل ذلك أي رواية. وبعدها أثارتني الدينامية والإمكانات اللغوية. وهذه الأخيرة ما كانت لتظهر لولا “كانديد” فولتير أو “اللامبالاة” لكامو، ولولا العودة إلى مدرسة المشاعر لفلوبير ولو بدا بعيداً جداً عن روايتي، وأثر بي كتاب دوستويفسكي “مذكرات من بيت الأموات” كذلك كافكا. لكن الوثائق المختلفة هي التي أثرت بي بالدرجة الأولى، يوميات شبير، تجارب النازيين، وثائق محاكمات اوسفيتش التي جرت في فرانكفورت. لغة “كائن بلا مصير” ليست لغة الكاتب الراغب في الرواية. كان المطلوب خلق وضع خاص للغة. وهذه الشخصية الروائية لا تنطق إلا في الوضع الخاص عندما يحتاج العنصر الخارجي الكلمات أو ينتزعها (…)

[(…) بالنهاية يمكن القول إنك رجل شكاك، رجل يشتغل بالارتياب؟

ـ تعرف، عندما صرح نيتشه “القدير مات”، لم يتكلم حقيقة عن موته، ليس هذا تأكيداً ثيولوجياً، ولفهم هذه العبارة، وهذه الصرخة، يجب ألا نتخيل أن المقصود هو الله، ولكن أن نضع مكان هذا الصوت كل ثقافة الإنسانية، كل النظريات الأيديولوجية، أن نعود إلى إطارنا الداخلي، الاختباري التجريبي الشخصي حيث تسكن وتتواجه عناوين أو طروحات مثل اختيار الحقائق نفسها، وعندما يتمزق هذا الإطار الداخلي ما الذي يبقى؟ حينها نضطر للعودة إلى الخلاصة وهي أن كل كائن إنساني هو خيّال، وأاننا نعيش في حال ترحال واغتراب في خيالاتنا الخاصة (…) انظر إلي أجلس على هذه الكنبة، ولكن انطلق في جملة، في اللغة، وما يحدث فعلاً كأني بدأت برواية التاريخ، أو أقصه عليك. كل شيء، أريد أن أقول كل شيء، لكن ليس لدي القوة الكافية ولا الوقت. إذاً، الكائن يتشكل فيّ ومن خلال لغته وعندما يقرر كيفية التعامل مع الزمن، وكيفية التعامل مع الإمكانات اللغوية ومن خلال خلق وضع خاص للغة. كل فقرة يتعامل معها تخلق أثراً متخيلاً جديداً، أو عالماً جديداً (…) ذلك أن التاريخ تراجيدي، ونحن نعرف بوجود خمسة إلى ستة ملايين يموتون بالإبعاد والنفي والتغريب خارج الوطن. هذا فعل تاريخي أكيد وصريح لا يحتمل حتى المناقشة. أنا كلما أفكر بكتابة رواية يبرز أمامي معسكر الاعتقال، ذلك الطفل “كوفيتس” الذي ألقي القبض عليه ورمي في معسكر اعتقال نازي وتابعت مصيره وهو استطاع أن يتأقلم مع الواقع لكي يحيا، صحيح كوفيتس كان طفلاً ينظر الى ما يجري حوله بنظرة طفولية، وهو لا يفهم ماذا يجري ولذلك تعامل مع الأمور بصورة طبيعية، لكن أنا اقول إن الحياة هي ملائمة على الرغم من صعوبة معايشة الاعتقال.. بالتأكيد هذه مبررات لنظرية لا تعدو أكثر من مأموريات، ولكن مناقشة الإرث التاريخي أعمق، أنا الذي أتكلم اليك وعدت إلى هناك، الى الأسفل، قضيت حياتي المغلقة في الخيالات مثل أي إنسان آخر. يوجد هناك انفتاح لن يغلق مطلقاً، ويوجد أيضاً نوع من الدرس حول شرطنا الإنساني.

المرض

[توقفت عن الكتابة العام الماضي، المرض لم يترك لك الكثير من الراحة؟

ـ نعم، أتوجع كثيراً، هذا صحيح، وعندي سبب محدد لتحمل كل هذه الأوجاع، فـ”اللامصير”، لغة خلقها الألم.. لنفكر في انتحار بريمو ليفي، أو تادوز بورويسكي، أو جان اميري، والذين نجوا من معسكرات الاعتقال والذين طلبوا الموت مرات ومرات. لا أستطيع أن أضيف اسمي إلى تلك القائمة (…) لهذا السبب تجدني متماسكاً حتى النهاية. ثم اني قررت ترك الكتابة لأن كتاباتي حول المحرقة قد انتهت بالنسبة لي ولا أريد الكتابة مجدداً(…)

نبذة

ـ وُلد ايمري كيرتيش في بودابست في 9 تشرين الثاني 1929، حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2002 وذلك على “نتاجه الذي يروي تجربة الفرد الهشة في مواجهة تعسف التاريخ الوحشي” على حسب قول الأكاديمية السويدية.

ـ اعتقل عام 1944 وهو في الخامسة عشرة من عمره في معسكر أوسفيتش، ثم في بوشنوالد، قبل أن يفرج عنه العام 1945.

ـ أصدر أول أعماله الروائية عام 1973 بعنوان “كائن بلا مصير”، ترجمت الى السويدية العام 1985 ثم كتابه الثاني “متراس الطفل الذي لم يولد بعد” عام 1990 الذي يعطي فيه صورة سلبية عن الطفولة والمعيش في معسكر الاعتقال والكفاح بالحب من أجل البقاء.

ـ اتخذ مفهوم الانتماء إلى اليهودية على نحو اضطره اليه العدو.

ـ عمل العام 1948 محرراً في جريدة “فيلاغوشاغ” وخرج منها العام 1959. وبعد خدمته للجيش عامين، أصبح كاتباً ومترجماً من والى اللغة الألمانية وترجم لكثيرين شكلوا تكوينه الأولي.

ـ أعماله لاقت نجاحاً كبيراً في الثمانينات والتسعينات وتتميز بلمسات السيرة الذاتية، والمواضيع الأساسية بالنسبة اليه هي حرية الإنسان في ظل الأنظمة الشمولية، اوسفيتش والتاريخ الذي لا يمكن إمحاؤه.

ـ صدرت أعماله الكاملة العام 1999 (“عن دار روفولت”) من ترجماته الى اللغة المجرية أعمال كانتي، فرويد، هوغو فون هوفمانستال، نيتشه، بوزن روت، ارتور شيتسلر، لودفيغ فيتفشتاين الى ترجمة أعمال كتاب المان ونمساويين شبان.

من أعماله:

[“لا مصير” بودابست 1973

[“العشق” بودابست 1988

[“متراس الطفل الذي لم يولد بعد” (1990)

[الراية الانكليزية (1991)

[يوميات العبودية (1992)

[الهولوكوست (محاضرات) 1993

[“المحضر” (1993)

[“شخص آخر” (1997)

[“لحظة صمت” (1998)

[“اللغة المنفية” (2001)

[“التصفية” (2003)

[ملفاك (2006).

ترجمة وتقديم : يقظان التقي

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى