عمار المأمونمراجعات كتب

رواية عن جريمة غامضة وشخصيات مختلة ولكن مدهشة/ عمار المأمون

 

 

تجتمع الأساطير والحكايات الشعبية في العديد من الأعمال الأدبية، بالإضافة إلى تركيز أغلب الكتّاب على عنصر المغامرة، مستخدمين أساليب التشويق التي تتجسد في تسلسل الأحداث ودفعها نحو النهاية. هذه الأساليب تضم تقنيات سردية قد تدهش القارئ، وتغذّي فيه روح مشاركة أبطال الرواية وبالتالي الانجذاب إليها والإعجاب بها، وقد يلجأ الكاتب إلى الخيال لنسج الحبكة، فيأتي العمل الأدبي ملتحفا رداء الغرائبي أحيانا بمزيج من الهلوسة والجنون.

 

عالم يتداخل فيه الجنون مع العقل

منذ صدور روايته الأولى “جامع الكتب” عام 2010 أصبح الكاتب البيروفي غوستابو فابيرون باتريو حديث الصحف الأدبية، لما يحتويه مؤلفه من عناصر سحرية وخيالية تثير القشعريرة، حيث قال عنه مواطنه ماريو فارغاس يوسا إنه “جزء عن جريمة قتل غامضة، وجزء آخر لاكتشاف عالم جمع الكتب، هي رائعة أدبية معاصرة بنكهة قوطية، كما أنها بفتنتها وروعتها الرواية الأولى للكاتب، والتي يمكن وصفها بأنّها لا تُنسى”.

يفتتح باتريو الرواية بلغز مشبع بالغموض منذ الصفحات الأولى، أحداث وحكايات متفرقة نقرأها في محاولات الراوي غوستابو اكتشاف اللغز، وعزمه على توخي الدقة في ما سيكتبه حين سيقص كيف قتل صديقه دانيال خطيبته جوليانا، فغوستابو عالم نفس اللغويات، سيلعب دور المحقق والصديق والباحث لاكتشاف الحقيقة، لماذا قتل مهووس بجمع الكتب خطيبته؟ وكيف انتهى به الأمر في مصحة نفسية إثر جريمة لم يرتكبها كما يدعي؟ ولماذا كل هذه الأحاجي لإخفاء الحقيقة؟

لعبة الألغاز

الحبكة البوليسية التي تقوم عليها الرواية، الصادرة مؤخرا باللغة العربية عن دار “العربي للنشر والتوزيع” بترجمة محمد عثمان خليفة، تقليدية، فهناك جريمة ما حدثت ولا بد من اكتشاف السبب، ومع تتالي الصفحات تتوضح خيوط هذه الجريمة، لكن البحث عن الأدلة، أو الأسباب لم يكن بالأمر التقليدي.

القاتل مهووس بجمع الكتب والمخطوطات القديمة والغوص فيها، وأغلب أفكاره ونظرياته مستمدة منها، أما حديثه فهو قصص ملغزة، بعضها حقيقي وبعضها وهمي، ليقف القارئ على قدم المساواة مع غوستابو في محاولة لفهم ما يقوله دانيال، فالأخير الذي أسس مع أصحاب له ما يسمى بـ”الدائرة”، وهي جماعة من عشاق جمع الكتب، يدّعي أنه مصاب بمرض نفسي تخيله هو، إذ يظن أنه مكوّن من عدة أجسام سياميّة كل منها يعيش في واقع مواز، مرجعيات هذا الواقع هي الكتب والحكايات، ليس كدون كيخوت الذي ينفصل تماما عن الواقع، لكن بصورة مختلفة، فدانيال يدرك ما حوله لكنه يفضّل نسخا أخرى مما يراه، وربما كان تشوّه أخته إثر حريق منزلهم هو ما زاد من تعكر حالته، وخصوصا بعد اختفائها من المصحة التي وضعت فيها، إذ تقول الممرضات إنها تحولت إلى وحش، وهذا الوحش اختفى فجأة.

في الرواية نلاحظ حضور الكاتب الأميركي إدغار آلان بو والمرجعيات القوطية وعوالم الرعب والجريمة المرتبطة به

تبدأ الحقائق تتكشف شيئا فشيئا، إذ يبدأ غوستابو بالبحث في سيرة دانيال، وكل جزء من هذه السيرة كان على لسان راو مختلف، أصدقاؤه في الدائرة كل منهم يقدم صورة له، كيف عشق جمع الكتب، ووقع في حب جوليانا، وكيف اكتشف وجود جوليانا أخرى، وهوسه بالحكايات، كذلك طبيعة الوقت الذي كان يقضيه مع أخته صوفيا في بناء مجسمات صغيرة ثم إحراقها، بالإضافة إلى تورطه في تجارة الأعضاء البشرية، فما كان من المعروف أنه سوق للاتجار بالمخطوطات النادرة، يكتشف غوستابو أنه سوق لبيع أعضاء الجثث لطلبة الطب، وقد لجأ دانيال إلى أحد أصحابه هناك للتخلص من جثة خطيبته.

العقل والجنون

بعد دخوله إلى مشفى الأمراض العقلية نتيجة اتهامه بقتل خطيبته، تبدأ الأحجيات في التبلور، غوستابو يلتقي بدانيال عدة مرات، إلى جانب المجانين من حوله الذين استخدمهم دانيال لصياغة قصّة براءته على ألسنتهم، حيث لقّنهم حكايات مشفّرة كي يمرروها لغوستابو عبر هلوساتهم، لتبدأ بعدها لعبة فك رموز هذه الحكايات لأجل اكتشاف الحقيقة، وهذه التقنية التي نقرأها في مشفى المجانين تنسحب على تكوين الرواية، التي تتخللها أمزجة من مقاطع سردية ووصفية تسلط الضوء على شخصية جامع الكتب وعوالمه الغرائبية.

سرد يضم عناصر سحرية وخيالية

تأخذ الأحجية عدة أشكال، ولا تهدف إلى كشف الغموض، بل تستعيد المرويات الشعبية والقصص المدفونة في أعماق المخطوطات والتي تشكل العالم الغرائبي والوحشي الذي يبنيه باتريو. كما نلاحظ حضور الكاتب الأميركي إدغار آلان بو، والمرجعيات القوطية وعوالم الرعب والجريمة المرتبطة به، لنرى أنفسنا أمام طبقات من الحكايات كل منها تحمل في داخلها مرجعية للذوات المتعددة التي يمتلكها دانيال.

تظهر براعة الكاتب البيروفي والطبيب النفسي في اللغة الطبية التي يعتمدها على ألسنة شخصياته، فكل منها مصابة بحالة ما تعكس سلوكها، فنحن نقرأ شخصيات مختلة، مأزومة نفسيا وجسديا، ونتورط في عوالمها بفعل الدهشة التي تخلقها هذه الشخصيات لدينا، والتي كلما نقرأ كلماتها نزداد تعمقا في عوالمها المتداخلة، لتختلف أجزاء حكاية دانيال التي نسمعها كل مرة حسب من يرويها.

نكتشف في الرواية عددا من جرائم القتل ومجتمعات القاع التي ينسحب إليها دانيال فتذهله، وحتى الحكايات التي كان يقرأها في الكتب وجد ما هو أغرب منها على ألسنة الناجين والناجيات من الحروب، على ألسنة بائعات الهوى التي وقع في غرام إحداهن، لتكون حكاياتها أشد صدمة من تلك التي كان يقرأها.

الطبيعة البوليسية للرواية قائمة على التشويق لا على غموض الأحداث، بل غموض تفسيراتها وتقنيات اكتشاف هذه التفسيرات عبر الحكايات التي لا تبدو مترابطة، فكما أن دانيال يجمع الكتب ويبحث فيها عن مغزى لحياته، يفعل غوستابو ذات الشيء، يجمع الحكايات ليفسر الذي حصل مع دانيال، لنقف أمام جهدين متوازيين، الأول يحفر في المخطوطات، والآخر يحفر في الواقع وحكاياته.

أما لحظات الجريمة فهي لحظات الالتقاء بين الاثنين، حين يتحول ما هو هزلي ومتخيل إلى تراجيدي وحقيقي.

عمار المأمون

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى