صفحات سوريةعمر قدور

روحاني يكسب… نحن وفينوس نخسر/ عمر قدور

 

 

الزائر، الذي غُطّيت التماثيل العارية من أجله في متحف كابيتوليني، لم يكن بالطبع أبو بكر البغدادي ولا أحد قادة طالبان الموضوعين على لائحة الإرهاب الدولية. الذي تعرّض للإهانة على الملأ هو عصر النهضة الغربي، في معقله الفني.

نحن، السوريين، في صف فينوس التي لم يعد لها وجود في المتحف، مع أننا لم نحظَ أصلاً بشرف وجودنا هناك، لكن من المؤكد أن الزائر لم يُواجَه، ولو بتلميح خجول، بما تفعله ميليشياته في سورية. الحق ليس على الطليان، بموجب مثل دارج عندنا، فالطليان يركبون موجة متصاعدة من الانفتاح الغربي على عدو واظب على وصف أميركا بالشيطان الأكبر، وها هو الشيطان الأكبر والحاكم بأمره يتّفقان، وما على «الصغار» سوى السير في الركب.

سيكون من الاستخفاف بالعقل النظر إلى تغطية التماثيل ضمن مقايضة مالية، يحظى بموجبها الطليان على عقود بقيمة 18 بليون دولار، فهذا يعني أن في إمكان دول أكثر ثراء شراء المواقف الغربية من روما إلى واشنطن. هذا أيضاً ما يُرضي كثراً ترويجُه عن براغماتية غربية مسفّة، ولو على سبيل الرد على من سيرون في الموقف تعبيراً عن عداء للإسلام السني حصراً، وهنا قد يتّفق أصحاب الرأي الأول مع ممانعين يروّجون ما مفاده في العمق: إن المشكلة ليست في الداعشية، بل في أن الدواعش السنة يفتقرون إلى الذكاء والتصميم اللذين يتميز بهما الداعش الإيراني. وتكاد شماتتهم أخيراً تنطق بالقول: أنظروا، داعشنا أكفأ من داعشكم الذي دنت لحظة نهايته.

حجب التماثيل العارية تفصيل صغير في سياق أعمق، وربما كانت آثاره سورياً وعربياً تفوق آثاره لدى جمهور إيطالي يُفترض به أن يكون المعني الأول. بالتأكيد، وقوعنا الموقت في صف فينوس مسألة سياسية، ولا يدل على اصطفاف قيمي راسخ ومستدام، إلا أنه غير مجرد من المعنى إطلاقاً، حتى إذا اتخذ صفة محاكمة الغرب بأدواته التي لم تصبح أدواتنا المعممة بعد. تذكير الغرب بالحرية، التي طالما اتُّهمت شعوب المنطقة بالافتراق عنها، يغدو ضرورة، لا لتقريع الغرب فحسب، وإنما أيضاً للتذكير بقيمة أساسية تأخرت في التسرّب إلى المنطقة، لكن لا يُفترض أن تكون تأخرت إلى زمن تجاوز فيه الغرب هذه القيمة.

المسألة أشبه ما تكون بإعادة المنطقة حوالى خمسة عقود إلى الوراء، فالذي استُقبل في أوروبا، وحُجّبت التماثيل لأجله هو شاه إيراني جديد بلبوس إسلامي، أي أن التاريخ يعيد نفسه على شكل مهزلة حقاً. هو تطويب لدور إيران مجدداً كشرطي في المنطقة، لذا لا مسافة فعلية بين أن يحمل جون كيري الشروط الروسية ليمليها على المعارضة السورية في التوقيت الذي تُحجب فينوس بناء على رغبة الزائر الإيراني. هذا «الهارموني» السياسي لا يجوز تصريفه ببلايين الدولارات، لأنه يذهب استراتيجياً أبعد من صفقة تجارية محدودة، وربما وحده ما يفسّر سنوات من التفاوض خلف ستار «الملف النووي الإيراني».

قبل خمسة عقود، كان الأمر مستتباً تقريباً في المنطقة، بوجود قوتين إقليميتين كبريين هما إسرائيل وإيران، وإلى جوارهما مجموعة أنظمة يتقدّمها العسكر الذين أحكموا سيطرتهم على البلدان التي تنذر تركيبتها بخلق الفوضى. هي أيضاً الحقبة التــــي اخـــتلف فيها القطبان الأميركي والروسي مراراً، لكنهما لم يختلفا قط حول تصفية النفوذ الأوروبي في المنطقة واقتسام مناطقه السابقة. اليوم، استئنافاً لما سبق، لا تمانع إدارة أوباما تسليم المنطقة إلى روسيا مع تهميش الدور الأوروبي، بخاصة الدول التي قادت التدخل العسكري في ليبيا وأبدت حماسة للتغيير في سورية.

الأوبامية في منطقتنا لا تجترح جديداً، سوى بالمقارنة مع المحافظين الجدد. فالسلبية المزعومة ليست غير تغطية على عمل دؤوب أنجزته الإدارة بالاتفاق النووي الإيراني، مع كل ما يتصل به من صفقة تتعداه. الأهم من ذلك، أن إدارة أوباما لا تدير ظهرها، وفق ما يُشاع، عن المنطقة. على الأقل، هي لا تفعل ذلك قبل هندستها على النحو الذي تريده، وقبل توزيع الأدوار بين خاسرين ورابحين بموجب مشيئتها. المثل الصارخ على الفعالية الأميركية ما حصل في سورية، فإدارة أوباما عملت بإخلاص شديد على منع المعارضة من الحصول على أسلحة تمكّنها من تحقيق الانتصار، ولم تكن مُطالبة بأكثر من الحياد أو السلبية على هذا الصعيد. حتى التذرّع بعدم وجود بديل مقبول عن النظام يكشف فعالية الإدارة، فأن تبالغ في شأن مواصفات البديل المطلوب، فتلك ليست علامة على السلبية.

ما تفعله الأوبامية هو إعادة المنطقة إلى الوراء، بعيداً جداً من «فوضى» التغيير. الأنظمة المناسبة للرؤية الأوبامية هي بالضبط أنظمة الاستبداد، الثيوقراطية في حدّ ذاتها ليست مرفوضة، إذا أبقت على نشاطها ضمن الإقليم كما يفعل الحرس الثوري الإيراني. قضايا مثل الحريات وحقوق الإنسان تُطرح بعنصرية شديدة، تفوق الاستثناء الإسرائيلي في عهود الإدارات السابقة. الاستثناء المقلوب اليوم هو الأكثرية العددية السنية في المنطقة، فعلى رغم أنها «خارج القسمة الطائفية» فهي من قاد الثورات التي نادت بقيم الحداثة، وبحكم أكثريتها هي أيضاً من أفرز قوى متشددة معادية للتغيير الديموقراطي. الاستثناء الأميركي الحالي، مع الأسف، سيكون له أثر سلبي عطفاً على موجة العداء الجديدة لأميركا، إذ سيمنع اندراج حقوق الأقليات في تحوّل ديموقراطي أشمل، وسيمنع بخاصة تحوّلها إلى مفهوم مجتمعي عام.

عندما يتنازل الغرب عن «حرية» تماثيله في أرضه، فهو يكون مستعداً تماماً للتنازل عن قيم الحرية خارج حدوده الجغرافية، وهي فرصة بالتأكيد لبعض القوى المحلية التي تسترشد بالغرب فقط عندما يبدو منافقاً أو تنحط براغماتيته إلى قعر جديد. هو الانحدار إلى القول العنصري بأن مجتمعاتنا لا تستحق الحرية، وعليه فليبقَ بشار رئيساً، وليعد التاريخ إلى دورته المعتادة بين استبداد عسكري فئوي وأصوليين، وعلى من يكترثون حقاً بالمعنى الرمزي لحرية فينوس أن يتركوا بلدانهم ويأتوا إليها قبل إغلاق موسم الهجرة نهائياً.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى