صفحات مميزةعزيز تبسي

روح الصنوبر/ عزيز تبسي

 

 

-1-

في الصدارة، يعلو تمثال “أبو فراس الحمداني”، كشاهد صلب على آخر الأمراء الذين استحقوا جدارة الاحترام، الملذوع بجمرات السجون، وجذوة الشعر، وأثقال الفروسية التي هدت منكبيه، وقطفت في خواتمها شبابه وبددت رياحينه.

تتصاعد الروائح كبخار لزج لا ينتهي، من أطراف الحديقة، الرابضة فوق وهدة، مطوقة بسياجات معدنية، تُقطعّها كأقفاص حيوانات متوحشة. يتحلل، رويداً رويداً، نسغ النباتات الكريمة، باندفعات وهج الحرارة، كموجات متواصلة، لتعانق العالم الأخضر كعشيق دائخ.

تتهادى أوائل الصباح، مجموعات من الرجال والنساء، بألبسة رياضية أنيقة، تتدلى حقائبهم القماشية من أطراف أكتافهم، تظهر من زاويتها مضارب الريشة، ومن وسطها تقببات عبوات المياه وعصائر الفاكهة والمناشف.

مأخوذون بغرائب الثقافات الآسيوية وطقوسها، يتريضون بهرولة خفيفة، وحركات تعبر كنسيم متأني، يقعدون بعدها للختام بتأملات اليوغا الخاشعة.

يتبادلون في استراحتهم الختامية، الأحاديث المدّوخة عن الأغذية النباتية وطرق إعدادها، ومراكز الطاقة الإيجابية في الجسد، وقابلية الروح للصيرورة رخاماً صلباً صقيلاً، كأنه استباق لمواجهة آتية، مع غبار الحياة وهبابها العاصف.

يدخل الحديقة، بعد حين، رجال بألبسة رياضية متقشفة، يستعدون من فورهم للهرولة أو للمشي السريع، لا يلتفتون إلى ما يجري حولهم، كأنهم مكرسون، منذ وقت بعيد، لهذا الفعل الحركي. تتبعهم في الدخول، جماعات تمشي الهوينى، تطوق أصابعها فناجين القهوة الكثيفة، يعبرون برفق بين الشجيرات، ليتوزعوا على مقاعدها الخالدة في الزوايا اللامرئية، ويباشروا “صبحياتهم” بهناءة ومزاج رائق.

قبل الظهيرة، تنزل السلم الحجري الطويل، أفواج نساء يسبقهن أولادهن، راكضين في مطاردات للهواء الساكن والفراشات المتخيلة، تسبقهم أحذيتهم الكبيرة، متفلّتة من أقدامهم الأقل كبراً، تتعالى إلى ما فوق تماثيل خزفية مركونة على زوايا البساط العشبي، وتتهاوى على الإسفلت الخشن تارة، ويسبقونها تارة، مبقينها وراءهم كقوارض قتيلة منقلبة على ظهورها المحدبة، ليكملوا طريقهم حفاة، قبل أن ينجدهم بها إخوتهم الأقل سناً.

تقترب أمهاتهم بعدهم، بخفر مبتهج، من الأحواض الإسمنتية الممتلئة حتى منتصفها بالمياه، يستدل من أثوابهن والروائح المنبعثة منهن، أنهن لم يستحممن من زمن بعيد، لانقطاع المياه الدائم عن أحيائهن. يرفعن أرديتهن بارتباك إلى منتصف سيقانهن، وهن يتلفتن حولهن بتوجس مذعور، يلامسن وجهها المتموّج بنهايات أصابع أقدامهن الحافية، التي بدت أقسى من نعال أحذيتهن، المركونة فوق العشب، المقصوصة ذؤابته، بشفرات فولاذية مشحوذة، لآلات زراعية قزمة.

يلمسن بجفلة وجه المياه الراكد، كأنهن يتحسسن شراشف خارجة لتوها من جوف وعاء الغسيل الحار، يغرفن المياه، التي كان قد تبول بها أبناؤهن قبل دقائق، براحاتهن المكورة كدوارق من غضار،…يتهيأن لسرقتها من حراسها وصافراتهم المنذرة، معلقات التعب على أكتافهن كأصيص نباتات شوكية، ينخزهّن، من حين لآخر، كإبر لئيمة.

تغير عالم الأشياء، في هذا الحيز، الذي بات فائضاً عن قلب المدينة المنهك، حتى هذه الغربان ليست غرباننا “غراب المدينة كلي السواد فاحم، أما هذا، فلا سواد إلا في جناحيه، بينما جذعه رمادي”.

يرشف قليلاً من القهوة الكثيفة من فنجانه الورقي “أتانا هذا الغراب من أقاصي بلاد البنغال، وتمكن من طرد غربان المدينة، بعدما استولى على قُوتها!!”

– لكن ما أهمية الحديث، عن الغربان، في هذه الظهيرة؟

– كي لا نتحدث عن العصافير المأسورة في أقفاصها، وأسراب القطا المخنوقة على ضفتي الفرات!!

رجال مضطجعون على المقاعد التي حافظت على أخشابها، وآخرون نائمون على العشب، تخرج أحلامهم، من أفواههم المفتوحة، كزفرات متلاحقة من أعالي عربة قطار بخاري. عائلات تتوزع بين الأشجار والمقاعد، لتخفف الأعباء، عن الأسر التي تقيم عندها، بعد النزوح.

يعتلي اليافعون الحجر النافر، وينزلون إلى ضفة النهر الإسمنتية، يسبح بعضهم بثيابه، والبعض ينضدها عنه في حركات هوجاء، كأنهم يتخلصون من حشرات، غافلتهم بالإقامة بين ثيابهم ولحمهم. يتراشقون بالماء، ويتقوون بأذرع بعضهم، على المجرى الغادر، قبل أن يجرفهم إلى اختناقات الشبك المعدني.

تسترخي الكلاب المشردة بشبع بطر، فوق العشب خلف غرفة التفتيش والحراسة. لم يبق أحد قادر على إطعامها سوى الجند، المزهوون بأسلحتهم الخفيفة وهواتفهم النقالة وبأوشام زرقاء على سواعدهم العارية.

يعلو مستطيل معدني، ارتفع على قاعدة إسمنتية، مستور بزجاج شفاف، تتلاصق خلفه، صور لشبان قتلوا في المعارك الدائرة رحاها المرتفعة نيرانها.

-2-

استردوا صوت “أم كلثوم” من تلك الليالي البعيدة، التي كانوا يقضونها في المقهى، الخارج ككتلة من جذوع أشجارها، وبتلات زهورها وجداول مياهها، التي حولتهم إلى نزلاء أرخبيل إسمنتي، أيام كانوا يتعمدون الاسترخاء اليقظ، على كراس خشبية، مضفورة مقاعدها ومساندها، بحبال القش المجدول.

يتوثبون، من حين لآخر، لمديح صوتها ومديح الموسيقى والجمهور اللامرئي، المنبعثة تأوهاته بزفرات دهرية من أعالي مكبرات الصوت المعلقة على جذوع الأشجار.

لطالما هرولوا إلى صوتها بجروحهم الأزلية، ليسمعوا انبجاس مياه الموسيقى، و تقافز أسماك الصوت العذب إلى فجاج الهواء، معللين أرواحهم المُدّنفة بحظوة ضمادات حنونة، تأتيهم في خواتم أغنياتها.. أملوا أن تساعدهم على تحمل خسوف نهاراتهم ولياليهم، معتمدين المراوح المصنوعة من ورق صلب صقيل، وعلى أطباق المثلجات بطعوم الفاكهة في إطفاء” جهنم الصغرى” التي أضحوا بين نيرانها.

جلس حول أحواضها، كبار السن، ليتذكروا الفرق النحاسية وفرق الموسيقى الكلاسيكية التي كانت تأتي لتعزف في الجوسق الإسمنتي، والناس يأتون من كل أطراف المدينة ليتحلقوا حولها بخشوع مبهم، لا ليرقصوا على أنغامها، ولا ليصغوا إلى حفيف أوتارها ونسائم نفخياتها ورعد طبولها….بل ليدربوا أجنحتهم على غبطة التحليق إلى السماوات، قبل أن يتهاووا بحبور، كأنشوطات ملونة على زوايا المقاعد الخشبية، المدهونة بلون زيتوني صاف.

– حذار الوحوش!!

– هذه ليست غابة!!

وكانوا يشيرون بكلامهم، إلى الاعتداءات التي تحصل في زواياها المعتمة، من خطف لحقيبة امرأة مشغولة بأطفالها، سرقة طفل سرح وراء أحابيل لعبة “الطميشة”، التحرش بشابة، تعبر طرقاتها إلى الطرف الآخر من الأحياء الرابضة حولها كسوار.

“يا ليل ارفع جناحيك قليلاً، غادر الموسيقيون المنصة، خلدت أم كلثوم إلى مخدعها، ونحن مرميون على سفح العراء، مأخوذون بلوعات وطنية كحروق لاهبة”.

لطالما تجمع بعضهم أمام التلفاز المرفوع على عتلة خشبية، ليستمعوا إلى مغنين، مخنوقين بألبسة سوداء تظهر أكمامها القصيرة أساور قمصانهم البيضاء ومعاصم ساعاتهم، يرفعون أكفهم المضمومة من حين لآخر، ليشيروا بتزامن مع كلمات الأغاني التي يستظهرونها كمحفوظات شعرية مدرسية، ويخشون نسيان كلمة أو مقطع منها، إلى مكان القلب، حينما يرد اسم القلب في الأغنية وإلى الأذن للإشارة إلى صمم المحبوب عن سماع لواعجهم وإلى العينين.. للتأكيد على السهر والسهاد….وكان الناس يحسبون هذه الإشارات من لوازم توصيل معاني الأغنيات التالفة، كأطراف الأحذية التي ينتعلونها.

أيامها حار رجال المخابرات، في وسيلة إخفاء مسدساتهم، وهم يتجولون بين المتنزهين بلباسهم الصيفي، قبل أن يدلوها كقلادات معدنية تنزل بخلاعة من أعالي أعناقهم إلى صدورهم، المفتوحة أزرار قمصانها إلى ما فوق سررهم. ولم يقتنع الناس برجال مخابرات بلا مسدسات. لكنهم كانوا يستدلون عليهم من جباههم المقطبة وعيونهم النافرة، وانحناء الباعة المتجولين أمام مرورهم الثقيل، وإطلاقهم من حين لآخر، على بعض المتنزهين أسماء الحيوانات..

– أين يخفون مسدساتهم؟

– بين سيقانهم

– كيف سيواجهون، مباغتات الاستعمار والرجعية؟

وحسبها الأولاد فرصة مؤاتيه، للتبول على الاستعمار قبل جندلته وقتله. ولم يدر في خلدهم البتة، أنهم وحدهم دون سواهم، من سيتبول هؤلاء الرجال عليهم ويروعونهم بالقتل!!

-3-

ربما لم يتأخر الوقت، لكن لا بدّ من مغادرة الحديقة، من بوابتها..القذائف التي أتت إلى واجهة عمارة “مرّاش”، العائلة المتحدرة من سلالة التنويري الحلبي فرنسيس مرّاش، والأخرى التي خربت واجهة مشفى طبيب النسائية الراحل “إسكندر قسيس”، وتلك التي نزعت الأحجار الصقيلة وتماثيل مالك الحزين عن مجرى المياه الرابض على طرفي المدخل الرئيسي للحديقة.

بعد الخروج من الحديقة، والاتجاه نحو الجنوب، يسمع من مسجل أصوات عالية لغناء بدوي، لا يخطئ التقدير أنها صادرة من العمارة التي كانت تشغلها عيادة طبيب القلبية والأستاذ الجامعي عابد قهواتي، والطبيب الجراح غسان الشعباني، اللذان غادرا المدينة منذ نهاية عام 2011. بعد خطوات تظهر الواجهة المدمرة والمحروقة للفندق السياحي، الحجارة المتناثرة لمقهى جحا، نادي الضباط، الذين دمّرهم تفجير سيارة “فان” مفخخة، تزامن تفجيرها مع قصف قذائف هاون في تشرين الأول 2012، وهي من العمليات التي تبنتها “جبهة النصرة”.

الأشجار ثابتة لا تركض، هؤلاء الموزعون على صدرها وخاصرتيها، هم من يركضون طالبين النجاة، تاركين خلفهم حقائبهم وأرغفة الخبز وأكياس البرتقال.

الأشجار لا تموت كذلك، هم من يموتون. يرمون بعدها في حفر سطحية، سرعان ما تبدد ملامحها الأحذية الثقيلة ودواليب السيارات، لتغدو كساحة ساكنة من تراب أملس.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى