صفحات العالم

سوريّا المفيدة/ حازم صاغية

 

 

من ينظر إلى الخريطة السوريّة في وضعها الراهن كما شكّلته الحرب الدائرة منذ أربع سنوات، وإلى توزّع القوى التي تتحكّم بمساحاتها وبسكّانها، لن تفوته الملاحظة التالية:

إنّ جيش بشّار الأسد ينتشر في البقعة الممتدّة بين حلب شمالاً والجنوب الذي يحاذي الأردن من جهة والشطر الشرقيّ من لبنان من جهة أخرى.

بالطبع تبقى هذه المساحة موضوعاً لاختراقات كبرى وأساسيّة أهمّها في شمال حلب وفي إدلب شمالاً كما في القنيطرة جنوباً، تضاف إليها اختراقات أخرى في محيط حمص وفي ريف دمشق تهدّد العاصمة يوميّاً. لكنّ هذا لا يغيّر في حقيقة أنّ النظام السوريّ إنّما ركّز جهده العسكريّ كلّه على تلك المنطقة الساحليّة والطوليّة، فيما لا وجود له بتاتاً في المناطق الشرقيّة والشماليّة التي تسيطر عليها داعش أو القوّات الكرديّة، ولا في الشرق الصحراويّ الذي يتمحور حول تدمر، والذي يمتدّ من جنوب دير الزور والرقّة في الشمال إلى شمال درعا جنوباً.

بمعنى آخر، فإنّ النظام تخلّى بسهولة نسبيّة عن مساحة لا تقلّ عن ثلاثة أرباع المساحة السوريّة. فهو هناك إمّا أنّه لم يقاتل أصلاً أو أنّه سحب قوّاته من ساحات المعارك بسرعة لم يتوقّعها كثيرون. وهذا بالطبع لا يصحّ بتاتاً في المناطق التي يريد النظام الاحتفاظ بها، وآخر البراهين على ذلك استعداداته الراهنة للانقضاض على الجنوب الذي هو، في وقت واحد، جنوب البلاد وجنوب المنطقة التي يتمسّك بها، فضلاً عن كونه إحدى بوّابات دمشق.

وواقع كهذا لا يمكن عزله، في آخر المطاف، عن سياسة بالغة التفاوت حيال بلدها وأبناء شعبها: من جهة، تخلٍّ طوعيّ عن كمّ هائل من الأرض والبشر، ومن جهة أخرى، تمسّك بالأسنان والأظافر بما يعتبره النظام “سوريّا المفيدة”. ففي هذه الرقعة الأخيرة تنتشر المدن الأساسيّة في البلاد (دمشق، حمص، حماة، اللاذقيّة، حلب)، كما أنّ تلك الرقعة هي التي توفّر الإطلال على البحر الأبيض المتوسّط، وهي التي تتركّز فيها مواقع السلطة وإدارتها، وتضمّ العمود الفقريّ للاقتصاد والانتاج، كما تنتشر فيها الطائفة التي ينتمي إليها أهل النظام، لا سيّما جهازه الامنيّ الذي هو روحه وعضله في الوقت ذاته.

تشي تلك المقارنة ببعض ما هو جوهريّ في طبيعة النظام الأسديّ. ففي زمن السلم، اتّخذ التهميش الذي عانته سوريّا “غير المفيدة” شكل الإهمال الاقتصاديّ وانعدام التمثيل السياسيّ واحتقار الثقافات المحلّيّة، فضلاً عن القهر المضاعف للسكّان الأكراد، بوصفهم ليسوا عرباً. أمّا في زمن الحرب، حيث صار مكلفاً الاستمرار في حكم سوريّا كلّها، فقد تجسّد التمييز في التخلّي عمّا هو “غير مفيد” لصالح تركيز الجهد وإحكام السيطرة على ما هو “مفيد”.

والحال أنّ هذا هو الفهم البعثيّ والأسديّ لمفهوم الوطنيّة ذي التراتبيّة الحادّة التي تنشىء فواصل جوهريّة بين المواطنين. فـ “غير المفيدين” يقبعون في أدنى مراتب الهرم، محكومين ومسلوبين من كلّ شيء تقريباً. حتّى إحكام السيطرة عليهم يغدو غير جذّاب وغير مرغوب حين يبدو ذلك مكلفاً قليلاً.

وهي مفارقة (هل هي حقّاً مفارقة!؟) يزيدها إلحاحاً وفظاعة أنّ الذين أقاموها كانوا من القائلين بدولة واحدة لا تضمّ السوريّين فحسب، بل تضمّ العرب أجمعين!

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى