صفحات سوريةعمر كوش

روسيا والأزمة السورية

عمر كوش
يدعو الموقف الروسي حيال الأزمة في سوريا إلى التساؤل عن الأسباب والحيثيات التي جعلت قادة روسيا الاتحادية يتعاملون معها وكأنها القضية الأهم والأكثر حساسية بالنسبة إليهم في منطقة الشرق الأوسط، ويؤثرون سلباً على مسار تطور الأحداث، حيث أعلنوا منذ اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة السورية، في الخامس عشر من مارس/آذار 2011، وقوفهم القوي إلى جانب النظام السوري بكل إمكاناتهم الدبلوماسية والسياسية واللوجستية، وتبني وجهة نظره وطريقة تعامله مع الأوضاع الدامية والمتفاقمة.
ولم يعط الروس الجانب الإنساني والأخلاقي أي اهتمام يُذكر، بالرغم من سقوط آلاف الضحايا المدنيين، ومن معرفتهم أن الحراك الاحتجاجي الشعبي أعلن منذ انطلاقته عن رغبة الشباب السوري في نيل الحرية واسترجاع الكرامة، والتطلع إلى دولة مدنية تعددية، تقوم على المواطنة والعدالة.
وما زالوا يظهرون، مع دخول الثورة عامها الثاني، العزيمة والاستعداد على تقديم المزيد من التضحيات، من أجل تحقيق طموحاتهم في العيش في كنف جمهورية من الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.
عودة روسيا
لا شك في أن موقف روسيا الاتحادية تجاه الأزمة السورية لا علاقة له بالجانب الإنساني أو الأخلاقي. وحسابات الساسة فيها واعتباراتهم لا ترجحها الأيديولوجيا ولا المبادئ، وهي ليست كذلك في أي يوم من الأيام. والأمر نفسه يسري -ولو بدرجات متفاوتة- على مواقف الدول الكبرى والمؤثرة على الساحة الدولية.
ويبدو أن القادة الروس أرادوا من الأزمة السورية أن يتخذوها مثلاً لإظهار مدى قوتهم وتأثيرهم في الأزمات الدولية، فأعلنوا عودة اللاعب الروسي من جديد إلى مسرح الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الثورة الليبية، التي أحسوا من خلالها أن الغرب أبعدهم وتجاهلهم، ويريدون من الدول الغربية أن تحسب حسابهم وتشركهم في حلّ القضايا والأزمات الدولية.
لكن، هنالك فرق شاسع ما بين أن تعود روسيا دولة قويّة لتؤكد حضورها في منطقة الشرق الأوسط، بحيث لا تتجاهلها الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول الاتحاد الأوروبي، وبين أن تكون العلاقات الدولية قد انزاحت إلى مرحلة جديدة من الحرب الباردة، حسبما يردد بعضهم.
ذلك أن من المرجح أن تنتهي الممانعة الروسية إلى تفاوض وتفاهم مع الدول الغربية، ومن ثم التوصل إلى تسوية بين الجانبين، خلال المرحلة المقبلة، ترسي قواعد معادلة جديدة للتنافس الدولي في منطقة الشرق الأوسط، إذ لا غنى لروسيا، الأكثر قوة من المرحلة السابقة، عن التفاهم مع الغرب، بدلاً من أن تطلق مرحلة جديدة من الصراع، شبيهة بمرحلة الحرب الباردة، التي انتهت إلى غير رجعة.
وهو أمر يفسر التقاء الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي مع روسيا والصين على دعم مهمة المبعوث الدولي كوفي أنان في سوريا، مع ملاحظة أن الموافقة الروسية مشروطة بالتفسير الروسي الخاص، ولا تصل إلى حدودها القصوى في إحداث التغيير المطلوب في سوريا.
وعلى أساس العودة الروسية الجديدة، راح القادة الروس يتعاملون مع الأزمة السورية بوصفها صراعاً دولياً على سوريا، متعدد الأطراف، إقليمياً ودولياً، ومختلف المركبات، الداخلية والخارجية. واعتبروا أنه يتوجب عليهم توفير الحماية للنظام، بما يفضي إلى منع محاولة الدول الغربية تجريدهم من أهم القلاع المتبقية لهم في المنطقة.
وعليه، لم يتوقفوا عن توفير الغطاء السياسي للنظام، وعن التعامل مع الأحداث في سوريا من زاوية الصراع الخارجي، مع أحاديث خجولة عن ضرورة الإصلاحات تصدر أحياناً عن الرئيس المنتهية فترة رئاسته، ديمتري مدفيدف، أو عن الرئيس العائد من جديد إلى الكرملن، فلاديمير بوتين، أو عن وزير الخارجية سيرغي لافروف وسواه.
لكنهم جميعاً يكثرون من الحديث عن “الجماعات” و”العصابات المسلحة” و”المؤامرة الخارجية” التي تتعرض لها سوريا، وعن التدخل العسكري الخارجي، بل باتوا ينظرون إلى الأزمة السورية بوصفها مسألة صراع دولي وإقليمي، تتطلب حضور روسيا القوي، كي تتمكن من سدّ ساحة الفراغ الحاصل في هذا البلد، بالنظر إلى ما يتمتع به من موقع جيوسياسي هام بالنسبة إلى روسيا في المنطقة، وعدم تركه للاقتتال والفوضى، خاصة في ظل معرفتهم الجيدة بعدم رغبة واستعداد الولايات المتحدة الأميركية في التدخل العسكري المباشر في الشأن السوري، كونها تعيش مرحلة التحضير للانتخابات الرئاسية، وتفضيلها ترك الوضع السوري يتداعى، ويصل إلى حالة من التعفن والتفكك والاقتتال العبثي.
محطة جديدة
حشد الساسة الروس كل طاقاتهم الدبلوماسية والسياسية في الصراع على سوريا، فاستخدموا الفيتو في مجلس الأمن الدولي مرتين متتاليتين، بغية منع صدور أي قرار دولي يدعم التغيير في سوريا، واستمروا في تنفيذ صفقات السلاح المبرمة وتوفير الدعم والخبرات والخبراء الأمنيين والعسكريين، الأمر الذي وصل إلى درجة كبيرة من الدعم والإسناد، تُذكّر بالتعاون والتحالف الإستراتيجي، الذي كان قائماً بين سوريا والاتحاد السوفياتي السابق في فترة سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين المنصرم.
وشكل الفيتو الروسي الصيني المزدوج في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2011، ضد مشروع القرار الغربي المتعلق بالأزمة السورية في مجلس الأمن الدولي، محطة جديدة في العلاقات الدولية. وترسخ تحالف مكونيها، الروسي والصيني، عندما تكرر استخدامه للمرة الثانية في 4 فبراير/شباط 2012 في نفس موضوع الأزمة السورية.
وقد فهم النظام الفيتو المزدوج بأنه تصديق على خطة الحسم العسكري التي وضعها بهدف إخماد الثورة، وإيقاف الاحتجاجات.
وفي المحطة الجديدة، صار التنافس في مجلس الأمن الدولي تعبيراً عن مظهر من مظاهر تسجيل النقاط على الخصوم، وإفشال مشاريعهم، حيث تمكنت الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية من إظهار روسيا والصين، بوصفهما البلدين الذين يتحملان وزر إطالة أمد الأزمة في سوريا، وبالتالي مسؤولين أخلاقياً وإنسانياً عن إراقة المزيد من الدماء السورية.
وظهر القادة الروس في موقع من يتصرف بردّات الفعل حيال الغرب ومخططاته وطريقة تعامله مع ما يجري في المنطقة العربية. وارتكبوا أخطاء في تقديرهم لحسابات الربح والخسارة، الجيوسياسية والاقتصادية، مع تخوفهم المبالغ به مما يمكن أن تقدمه التغييرات الجارية في بعض البلدان العربية من إرهاصات على الأنظمة الحاكمة في البلدان، التي تدخل في نطاق المجال الروسي الحيوي، ومن ازدياد مساحات نفوذ للغرب الأوروبي والأطلسي، لكن حدود المواقف الروسية ضيقة، وتخضع في غالب الأحيان للمقايضات والمساومات، ولا يبرر كل ذلك تجاهل مطالب ثورات الشعوب بالحرية والكرامة والديمقراطية.
سياسة قديمة
وجد الساسة الروس أنفسهم خاسرين، إستراتيجياً واقتصادياً، بسبب مواقفهم المشككة والمريبة من التحولات التي أحدثتها الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وربطوا ما يجري في سوريا بالتهديد المباشر الذي يأتيهم من نشر رادارات الدرع الصاروخي في تركيا، إضافة إلى خوفهم من خسارة ما يتوفر لأسطولهم البحري في ميناء طرطوس، بوصفه الموقع الإستراتيجي المميز على الشواطئ السورية، الذي يُمكّنهم من التواجد في مياه البحر الأبيض المتوسط.
وهنالك اعتقاد في الأوساط السياسية الروسية، يفيد بأن حمايتهم للنظام السوري، يمكن أن توفر حضوراً روسياً قوياً في مختلف ملفات الشرق الأوسط، وفي التسويات التي يمكن أن تحصل في المستقبل بخصوص إيران وملفها النووي، بل يمكن أن يشكل سابقة يمكن البناء عليها مع إيران والعراق ولبنان، ضمن سياسة بناء حلف جديد في المنطقة، تكون روسيا محوره الأساس والفاعل.
وينسى القادة الروس أن السياسة التي تبنى على الأحلاف هي سياسة قديمة، محفوفة بالمخاطر، ولا تكسب بلدهم مقومات الدولة العظمى، بل تزيد الأمور تعقيداً، كونها تستجر أحلافاً مضادة وصراعاً مديداً هم في غنى عنه في عالم اليوم.
وكان الأجدى لروسيا أن تبحث عن إيجاد فرصة للتعاون مع الجامعة العربية، ودعم مبادرتها وقراراتها، والحيلولة دون دخول الملف السوري إلى حيّز التدويل، وإبقائه في الحيّز العربي، بل كان يمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً في الأزمة السورية، بالنظر إلى علاقاتها التاريخية مع سوريا، وذلك من خلال الإسهام الفاعل في فتح المجال السياسي، الذي أغلقه النظام منذ اليوم الأول للانتفاضة السورية، الأمر الذي فاقم في صلابة جدار الأزمة الوطنية السورية العامة.
وبدلاً من أن يسهم الروس في حلّ الأزمة أثّروا على تطورها بشكل سلبي، بالنظر إلى الدعم اللامحدود للنظام، فيما كان المطلوب من روسيا المساعدة والضغط من أجل إيجاد حّل سياسي، يقطع تماماً مع الحل الأمني والعسكري، الذي لا يمكنه إيجاد المخارج المناسبة لثورة شعبية، وأن تضغط باتجاه تنفيذ خطوات على الأرض، تلبي طموحات الشعب السوري، والتركيز على أولوية حلّ داخلي للأزمة، يجد مندرجاته ومفاعيله في وقف القتل والعنف، وسحب قطعات الجيش ووحداته من شوارع المدن والبلدات السورية، وإطلاق سراح كافة المعتقلين وسجناء الرأي، ومحاسبة المسؤولين عن أعمال القتل، والسماح لوسائل الإعلام بالدخول إلى سورية، وسوى ذلك كثير.
هل تغير الموقف؟
إن ما يحكى اليوم عن تغير في الموقف الروسي حيال الأزمة السورية، وخصوصاً بعد الموافقة الروسية على البيان الرئاسي الأممي الداعم لمهمة كوفي أنان، لا يعدو أكثر من مراهنات لتغير لم يتجسد بعد بخطوات عملية على الأرض.
ومن السابق لأوانه حدوث تبدل كبير في الموقف الروسي، إن لم يترافق بضغط روسي لحمل النظام في سوريا على تنفيذ النقاط الست التي حملها أنان معه إلى دمشق، إذ ليس المهم إعلان الموافقة عليها، بل تنفيذها وفق آليات واضحة ومحددة، تفضي إلى إحداث عملية تغيير حقيقي في سوريا.
ولا شك في أن مآل واتجاهات الأزمة في سوريا محفوفة بالمخاطر، وأن القادم ربما ينذر بالأسوأ، على الناس وعلى البلد، ويدعم ذلك غياب أي أفق لحلّ سياسي للأزمة الوطنية العامة في الوقت الحالي، نظراً لانسداد الأفق وإمعان النظام السوري في المراهنة على الحلّ الأمني والعسكري، الذي يزهق أرواحاً كثيرة وعزيزة في مختلف المدن والبلدات والقرى السورية.
وبالرغم من ازدياد مظاهر العسكرة والتسلح، فإن الملاحظ هو استمرار الحركة الاحتجاجية في الازدياد والتصاعد، مظهرة قدرة كبيرة في الدفاع عن مطالبها واستعداداً منقطع النظير للتضحية، والمضي قدماً في الحراك الثوري السلمي، ومبرهنة على أنها عابرة للإثنيات والمذاهب والطوائف والمناطق.
وعليه، فإن اتجاهات وسيناريوهات الأوضاع في سوريا تحكمها محددات عديدة، أهمها، استمرار الثورة الشعبية السلمية واتساع زخمها، بوصفها جوهر كل الحسابات والمعادلات الداخلية والخارجية، بما فيها المواقف والمعطيات والحسابات الدولية.
الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى