صفحات سوريةمنذر خدام

روسيا والدم السوري المسفوح


منذر خدام

أُتيحت لي ثلاث فرص للقاء دبلوماسيين روس واحد منهم كان مسؤول العلاقات الدولية في البرلمان الروسي(الدوما)، وفي اللقاءات الثلاث كان النقاش يدور حول موقف روسيا من الأزمة التي تسبب بها النظام السوري لبلده وشعبه. فعندما كان يقال لهم ليس من المنطقي أن يأخذوا جانب النظام ويتبنون روايته، وهم قد عانوا ما عانوا من حكم شمولي استبدادي لعقود من السنين، فقضية الحرية لا تتجزأ. كانوا يجيبون بدبلوماسية أنه لا جدوى من التركيز على لوم هذا الطرف أو ذاك من أطراف الأزمة السورية، بل البحث عن مخارج سلمية لها، وأنهم في سياق بحثهم عن هذه المخارج لا ينحازون لطرف ضد آخر. لكن ما إن يخرجون للإعلام حتى يتبنون رواية النظام للأحداث، التي تقول بوجود عصابات مسلحة تعتدي على المدنيين وتدمر الأملاك العامة والخاصة، رواية لطالما رددها النظام منذ بداية الانتفاضة السورية، ورددها من ورائه الروس للأسف بدقة وأمانة لافتتين.

أذكر جيدا عندما التقينا بمسؤول العلاقات الدولية في مجلس الدوما الروسي، أنه بدا متفهما جدا لطروحات وروايات محاوريه، وبشيء من الاستغراب قال: ” كل هذه المعلومات التي تقدمونها لنا (كان بصحبته السفير الروسي) يصلنا عكسها. فقلت له الجواب بسيط وهو : ” أن القيادة الروسية للأسف تفتح أذانها فقط لروايات النظام، وتصدق كل ما يقوله حتى عبر إعلامه.ألا يخبرها خبراؤها العسكريون الموجودون في القطع العسكرية السورية، وعملاء استخباراتها عن حقيقة ما يجري على الأرض؟!من غير المنطقي ألا يحصل ذلك”. ومع أنه وعد في نهاية اجتماع استمر لمدة ثلاث ساعات، كان خلالها يأخذ، في الغالب الأعم، دور السائل والمستفسر عن وقائع معينة، بأنه سوف ينقل المعلومات التي حصل عليها إلى الدوما الروسي، وخصوصا إلى لجنة العلاقات الدولية التي يرأسها، وإنه يعتقد بأن على روسيا أن تأخذ موقفا متوازنا من “أطراف النزاع” في سورية حسب رأيه، بل سوف يدعو زملاءه النواب الروس لممارسة الضغط على حكومة بلادهم لتضغط بدورها على السلطة السورية لتوقف حمام الدم في سورية. وكنا في حينه قد رحبنا بموقفه هذا، وطلبنا منه أن يفي بتعهده لنا حرصا على العلاقات التاريخية بين روسيا وسورية، وعلى مصالح روسيا بصورة عامة، لكنه في المساء عندما ظهر على الإعلام صرح عكس ذلك تماما وتبنى رواية النظام.

وفي لقاء آخر مع السفير الروسي الذي دعانا إلى مفاوضات غير رسمية مع النظام في موسكو الأمر الذي رفضناه في حينه بالمطلق، مع ذلك سألت السفير وهل تضمن بلاده أن ينفذ النظام السوري ما يتم الاتفاق عليه، أجاب بصراحة خالية من أية دبلوماسية أنهم لا يضمنون. فقلت له عندئذ هل يعقل أن تقوم روسيا وهي دولة كبيرة ومسؤولة بنوع من العلاقات العامة خدمة للسلطة السورية، ألا تدرك روسيا أنها في سلوكها هذا تعادي غالبية الشعب السوري، وتضع مصالحها في مهب الريح؟ أجاب، وقد عادت إليه روحه الدبلوماسية، بأن بلاده لا تنحاز لأي طرف من أطراف الأزمة السورية.

لماذا تتصرف روسيا بهذا الشكل؟ ما الذي يدعوها حقيقة للوقوف إلى جانب النظام والدفاع عنه، رغم الأضرار الدبلوماسية والسياسية التي لحقت بها عربيا ودوليا؟ هناك من يقول أن المصالح الروسية في سورية وضرورة الحفاظ عليها تلعب دورا حاسما في ذلك. وثمة من يقول أن سورية بالنسبة للروس هي آخر مكان لنفوذهم في الشرق الأوسط، وسوف يدافعون عنه حتى النهاية. وثمة رأي آخر يفسر وقوف القيادة الروسية إلى جانب النظام السوري، كنوع من الالتزام الذي تعهد به الاتحاد السوفييتي، الذي ورثته روسيا، في إطار اتفاقية الصداقة والتعاون التي وقعت بين سورية والاتحاد السوفييتي قبل انهياره. ورأي آخر ينبه إلى ضرورة عدم الاستهانة بالسوق السوري للسلاح الروسي، وكذلك بوجود قاعدة عسكرية لهم على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من طرطوس. في الحقيقة أجد جميع هذه الأجوبة غير دقيقة وغير مقنعه، رغم أنها قد تكون حاضرة جزئيا وراء الموقف الروسي. الصحيح هو أن روسيا قد وجدت في الأزمة السورية مدخلا لها للخروج إلى المسرح الدولي كقطب من أقطابه، بعد جملة الإهانات التي وجهة لها من قبل أمريكا والدول الغربية عموما سواء في البلقان أو في الأزمة الجورجية أو الأرمينية، أو الليبية، أو حتى فيما يتعلق بقضايا التسويات السياسية بين العرب وإسرائيل، وغيرها. لقد استفادت القيادة الروسية من ضعف الاقتصاد الأمريكي الناجم عن الأزمة التي عصفت بالكيانات الاقتصادية الغربية عموما، وما ترتب عليه من انكماش سياسي ملحوظ لأمريكا على الصعيد العالمي، والخسائر الجسيمة التي تكبدتها في العراق وأفغانستان دون أن تحقق النجاح الذي كانت تتوخاه وتعمل عليه، إضافة إلى تعافي الاقتصاد الروسي وتحقيقه وتائر نمو عالية، وفيض الدولارات التي لديها(نحو 900مليار دولار أمريكي) المتأتي من تصدير الغاز والبترول الروسي إلى الدول الغربية، وغيرها من عوامل، اجتمعت جميعها لتؤسس أرضية صلبة لخروج النزعة الوطنية الروسية(إعادة الروح للقطبية السوفيتية) التي أطلقها فلاديمير بوتين الطامح إلى الرئاسة الروسية من جديد. إن من يراقب الإعلام الروسي وكذلك أداء الدبلوماسية الروسية يلاحظ بجلاء تركيزها على زوال الأحادية القطبية من المسرح الدولي، وإن العالم قد دخل في مرحلة تعدد الأقطاب، وأن روسيا لن تقبل بعد الآن أي تهميش لها فيما يتعلق بالقضايا الدولية. وإذا صح ذلك( وهو صحيح في الغالب الأعم) بحسب منطوق كلام الدبلوماسيين الروس الذين التقيناهم أيضاً، فإن من حق المواطن السوري أن يتساءل: ألم تجد روسيا سوى إراقة الدماء السورية مدخلا إلى عالمها المتعدد الأقطاب؟ وإذا كان عالم اليوم هو عالم المصالح الذي ترعاه الدبلوماسية، فإنكم أيها الروس تضحون بمصالحكم جملة وتفصيلا ليس فقط في سورية، بل في العالم العربي من جراء وقوفكم إلى جانب نظام يقتل شعبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى