المعارضة السوريةراتب شعبوصفحات مميزة

روسيا والمعارضات السورية

 

راتب شعبو

يحكم علاقة المعارضة السورية مع روسيا عنصران، لكل منهما تأثير معاكس للآخر. الأول هو هول القمع الذي واجهت به السلطة السورية معارضيها، والثاني هو طول أمد الثورة السورية، أي طول أمد تماسك النظام.

إلى جانب القمع المادي للمظاهرات لجأ النظام إلى جملة من الممارسات السياسية والأمنية والدعاوية لا تقل سوءاً وعدوانية على الشعب السوري، من محاولات التجييش الطائفي إلى الكذب الإعلامي إلى القمع التمييزي الذي يهدف لاصطناع صورة معينة (إسلامية متطرفة) للحراك السوري .. الخ، ما جعل الحراك يمضي بعيداً في رفض النظام وتحمل كل مشقات الدنيا وأهوالها باتجاه إسقاطه نهائياً. السلوك البالغ العدائية الذي انتهجه النظام منذ البداية والذي تصاعد مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات واتساع رقعتها، قطع الطريق، نفسياً وسياسياً بالتالي، على أي فكرة تحمل في طياتها أي رائحة للحوار مع النظام. كان هذا مزاج الشارع وهو المزاج الذي قاد المعارضة في الواقع أكثر مما قادته. وقد كان من شأن هذا الواقع أن يقطع بطبيعة الحال سبل التواصل السياسي بين المعارضة الجذرية (المجلس الوطني أساساً) وبين روسيا التي قامت سياستها منذ بداية الأزمة على فكرة الحوار والحل السياسي. وبالمناسبة حين نقول المعارضة الجذرية لا نقصد بذلك حكم قيمة، بل نصف موقف المجلس الوطني بأنه جذري لأنه لا يقبل الحوار مع النظام ولا يرضى بأقل من إسقاطه “بكل رموزه ومرتكزاته” ولو بالسلاح أو بالتدخل الخارجي. على خلاف أطراف أخرى مثل هيئة التنسيق التي لا تبدو سياساتها منسجمة تماماً مع قولها بإسقاط النظام، وعليه يمكن وصفها بأنها معارضة معتدلة.

إذن وحشية النظام وعدائيته المفرطة تقف حائلاً دون تواصل العلاقة بين المعارضة السورية الجذرية، والتي لها الرصيد الأعلى في الشارع، وبين الفاعل الروسي. كما تضع روسيا في خانة العداء لتطلعات الشعب السوري، وهي البلد التي كان يقوم نهجها السياسي زمن الاتحاد السوفييتي على مناصرة الشعوب وتطلعاتها التحررية.

غير أن قدرة النظام على الصمود بفعل عوامل عديدة متنوعة من أهمها الموقف السياسي الروسي والصيني في مجلس الأمن، وبفعل الدعم العسكري والاقتصادي من روسيا وإيران وغيرهما، مع تلكؤ الغرب في حسم موقفه من النظام، وضع المعارضة السورية الجذرية في وضع مرتبك وحرج، وزاد في صعوبة هذا الوضع استناد هذه المعارضة إلى قوى خارجية ذات سجل غير مشرف في علاقتها بالشعوب عموماً وبالشعوب العربية بوجه خاص. هناك إذن رفض نهائي من قبل هذه المعارضة لأي حوار مع نظام الأسد، وهناك عجز عن إسقاطه بالضربة القاضية حتى الآن. هذا الاستعصاء أعطى للدور الروسي قيمة ما كان يمكن أن يكتسبها لو كان الموقف الغربي حاسماً ولو انحاز فعلياً إلى جانب الثورة السورية دون إيكال أمرها إلى قوى إقليمية كتركيا ودول الخليج.

تلعب روسيا اليوم دوراً أرضيته ومبرره هو حالة الاستعصاء التي يمر بها الوضع السوري. حتى بات يشعر المرء أن أمريكا تفعل مع روسيا ما فعلته سابقاً مع أوروبا في البوسنة، حين تركت أوروبا تواجه عجزها عن حل المشكلة اليوغسلافية قبل أن تتدخل وتفرض حلها. فأمام البرود الأمريكي يشعر المراقب أن أمريكا سلمت روسيا إلى حد كبير الملف السوري، وأن روسيا تواجه عجزها في هذا الملف بحيث يصبح التدخل الأمريكي مطلباً لكل القوى الفاعلة في الأزمة السورية ومن بينها روسيا نفسها.

هذا السياق بنى يوماً وراء يوم جداراً من العزلة بين المعارضة السورية الجذرية وبين روسيا التي لا تمل من تكرار التصريحات التي تنصرف إلى مقولتين: الأولى هي أن الحل في سورية هو حل سياسي وليس عسكري، والثانية هي إن على الدول  الداعمة للمعارضة السورية (الجذرية) أن تمارس الضغط عليها كي تقبل بالحوار مع النظام. وفي الواقع فإن روسيا اختارت خندق النظام وخسرت دور الوسيط وباتت، بعد كل ما تراكم من سياسات تغمض العينين عن حق الشعب السوري في التحرر من استبداد مكرس، مرهونة للنظام مثلما هو مرهون لها. ومن علامات هذا المأزق أن الخارجية الروسية راحت تستقبل وبشخص وزير الخارجية نفسه وفوداً سورية هزيلة التمثيل وضعيفة الفاعلية على أنها أطراف معارضة سورية بغرض الظهور على أنها ذات صلات وثيقة بطرفي الصراع. والحقيقة أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي لم تهتد حتى اليوم إلى نهج سياسي استراتيجي في المجال الدولي وهي لا تزال “دولة ممزقة” بحسب تعابير هنتنغتون، ويعاني خطابها السياسي من ركاكة قليلة الاحترام لتطلعات الشعوب وقليلة الحساسية لمتغيرات العصر.

أما من ناحية المعارضة السورية، فإن الشق المعتدل منها حافظ على علاقة جيدة مع روسيا والصين نظراً إلى أن الحوار مع النظام هو فعلياً (وإن يكن الأمر مختلف لفظياً) الأفق السياسي لهذه المعارضة. والمفارقة أن الحظوظ السياسية لهذه المعارضة ترتفع مع استمرار قدرة النظام على الصمود. أي إن قوة المعارضة السورية “المعتدلة” مستمدة واقعياً من قوة النظام. هذا النوع من المعارضة قادر على نسج علاقات مع روسيا وهو يفعل، وإن كانت روسيا، وبفعل مأزق ارتهانها للنظام كما أشرنا للتو، لا تستطيع أن تقدم الحماية الكافية لحلفائها المعارضين هؤلاء الذين تعتقل السلطات السورية منهم من تشاء متى تشاء دون مراعاة لعلاقاتاها مع روسيا. وهذا يزيد في الاغتراب بين روسيا وجمهور المعارضة السورية.

ومن ناحية ما سميناه المعارضة السورية الجذرية، فإن تكوين هذه المعارضة (غلبة الطابع الإسلامي عليها) وصلاتها مع الغرب والخليج تجعلها في مقام لا تستطيع فيه الاتصال بروسيا إلا تحت إشراف ورعاية غربية. وعلى هذا فإن الفاعل الروسي يقتصر دوره على كونه السند الأقوى لطرف في الصراع السوري ولن يتمكن من نيل ثقة الطرف الآخر كي يكون وسيط حل.

خلاصة القول، لا تتحمل المعارضة السورية مسؤولية ضعف صلاتها مع روسيا بقدر تتحمل هذه الأخيرة مسؤولية ذلك، جراء حسابات مصلحية قصيرة النظر دفعتها للوقوف في صف النظام والنظر إلى الصراع السياسي العنيف في سوريا من منظور النظام السوري الذي راهنت القيادة الروسية على بقائه وارتهنت برهانها هذا. وتجد روسيا اليوم أن التراب السوري يتسلل من بين أصابعها مع تراجع قوة النظام أكثر ومع لجوئه إلى المزيد من التدمير واستخدام الطائرات والأسلحة الثقيلة وسقوطه الأخلاقي الممهد لسقوطه السياسي. وما لم يتم اتفاق دولي ينهي الصراع في سوريا، فإن حصاد الموقف الروسي يتوقف على صمود النظام وقدرته على فرض “تفاوض” ما مع المعارضة يخفف من صدمة السقوط، ويحافظ على موطئ قدم روسية في سوريا. وخلاف ذلك فإن روسيا سوف تخرج من سوريا لأجل بعيد وسيذكر  التاريخ حينها محدودية النظرة الروسية في التعامل مع الثورة السورية.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى