إياد الجعفريصفحات المستقبل

نبوءة كينيدي السورية/ إياد الجعفري

 

 

ربما لم يتوقع المؤرخ الأمريكي الشهير، بول كينيدي، أن يحصل صراع دولي – إقليمي ساخن في بقعة مفاجئة من الشرق الأوسط، هي سوريا. لكن الرجل الذي إشتُهر بكتابه “نشوء وسقوط القوى العظمى”، حسم نبوءته لكل البلدان والأزمنة، وخلاصتها، أن “التمدد العسكري المفرط والأفول النسبي المصاحب هو التهديد المستمر الذي يواجه القوى ذات الطموح والمتطلبات الأمنية التي تتجاوز ما يمكن أن تقدمه مواردها المتاحة”.

يرى الكثيرون أن ما يحصل في سوريا هو شكل من أشكال الحرب الباردة، تورطت فيه قوى إقليمية ودولية عدة. وإن كانت هذه الحرب لا تحمل سمات “الحرب الباردة” التي عرفها العالم بين القطبين السوفيتي والأمريكي في القرن العشرين، إلا أنها لا تختلف تماماً عنها.

يلحظ المراقب بدقة أن الروس يحاولون جاهدين أن يُثبتوا للغرب جدوى التنسيق والتعاون معهم في سوريا. هكذا يمكن فهم الموافقة الروسية على الهدنة بسوريا، بعد إلحاح غربي – إقليمي. وهكذا تُفهم تصريحات المسؤولين الروس بدعمهم لحل سياسي وفق أجندات الاتفاق مع الغرب، ولو على خلاف رغبة بشار الأسد، حليفهم بدمشق. وهكذا تُفهم مساعيهم لفتح قنوات اتصال مع جهات معارضة سورية، وسعيهم الحثيث لتعزيز الحوار مع دول خليجية، في مقدمتها، السعودية.

يدرك الروس جيداً أن مغامراتهم العسكرية في سوريا ستكون كارثية عليهم، إن لم يحولوا انتصاراتهم الميدانية الآنية فيها، وبسرعة، إلى مكاسب سياسية. لا يبدو أن موسكو، على خلاف الأسد، تراهن على نصر حاسم وناجز ضد المعارضة وداعميها الإقليميين.

ولا يعني ما سبق، أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر الساحة السورية ساحة لتوريط الروس واستنزافهم، بشكل دراماتيكي. إذ ليس بالضرورة أن يكون استغلالهم للتورط الروسي بهذا الاتجاه، بل قد يكون باتجاه معاكس، مفاده، استخدام التورط الروسي كأداة ضغط على حلفاء إقليميين لم يعودوا طائعين للأمريكي بالصورة المأمولة، وذلك في سبيل ترتيب تسوية سياسية بسوريا، تخدم الهدف الأمريكي المنشود في نهاية المطاف.

لكن، ماذا تريد أمريكا في سوريا؟، قد تكون الإجابة عصية جداً على أكبر المحللين والخبراء، لأنه ببساطة، قد يكون الأمريكيون أنفسهم في حيرة من أمرهم حيال ماذا يريدون في سوريا، أو على الأقل، كيف يمكن لهم الوصول إلى ما يريدونه بسوريا.

يُعتقد أن الأولوية الأولى للأمريكيين بسوريا، هي القضاء على “داعش”، لأنها باتت خطراً أمنياً على مجتمعات الغرب ذاتها، ولتحقيق ذلك، لا بد من قوى ميدانية محلية تتعاون مع الأمريكي. لذلك، لا بد من حل سياسي، يُنهي حالة الصراع بين القوى المعارضة بسوريا من جهة، وبين النظام من جهة ثانية، والأكراد من جهة ثالثة.

ألمح جون كيري منذ أيام إلى أن فشل الحل السياسي سيُفضي إلى “تقسيم سوريا”، ليعقب ذلك تصريحات روسية تتحدث عن “فيدرالية” بسوريا، الأمر الذي فُهم على أنه تفاهم أمريكي – روسي على تقسيم سوريا. لكن هل تقسيم سوريا كفيل بإنهاء “داعش”؟، في حال تم تأسيس كيان كردي منفصل، هل يبقى الأكراد بحالة اضطرار لأن يتابعوا قتال “داعش” ما دام تمكنوا من تأمين حدودهم المنشودة؟، في هذه الحالة، من الذي سيُقاتل “داعش”؟، النظام، أم قوى المعارضة؟، وكيف يمكن تقسيم سوريا بين الطرفين الأخيرين، وفق أية أسس؟

أسئلة كثيرة تُوحي بأن التقسيم مجرد تلويح بالأسوأ، من طرفين لا يريدانه أصلاً، هم الروس والأمريكيين. فموسكو وواشنطن، لهما أولويات أخرى، لا يفيد التقسيم فيها.

في خضم كل تلك المعمعة، يبدو أن الروس في أسوأ أحوالهم، فالعقوبات الاقتصادية، وتدهور سعر النفط، وتورطهم العسكري، يُنذر بتكرار نبوءة كينيدي فيهم، لكن هذه المرة في سوريا. ولا يبدو أن الأمريكيين مستاؤون من ذلك، بل على العكس، فهم يجددون العقوبات على موسكو منذ أيام، على خلفية الخلاف في أوكرانيا، برسالة قاسية على الروس مفادها، “لن تكون سوريا بدلاً من أوكرانيا، كما تأملون”.

في هذا الوقت، يستخدم الأمريكي التورط العسكري الروسي للضغط على المعارضة التي تلكأت في الجولة السابقة من مفاوضات جنيف. وهكذا، تتحقق تهديدات كيري للمعارضة، وكان الطيران الروسي كفيلاً بإعادتها إلى طاولة المفاوضات، بعد هدنة كان الأمريكي الكفيل بتحقيقها.

في نهاية المطاف، أمريكا تعلمت الدرس من العقد السابق، ألا تتورط عسكرياً حيث لا منفعة اقتصادية توازي أو تفوق حجم التورط. فدرس كينيدي يتردد في أذهان الأمريكيين بعدما جربوه عملياً في العراق وأفغانستان، وكانت النتيجة تدهوراً اقتصادياً خطيراً هدد الاقتصاد العالمي برمته في نهاية العقد الماضي.

اليوم، تحاول أمريكا أن تدير الأزمات بسوريا، بصورة تسمح لها بتحقيق ما تريد، والأولوية لديها كما يُوحي المشهد الراهن، تسوية سياسية سريعة، وتحالف عسكري محلي، مدعوم إقليميا ًودولياً، للقضاء على سرطان “داعش”. وبدون شك، يجب أن تكون هذه التسوية السياسية في صالح أمن حدود إسرائيل، لذلك لا بد من بقاء المؤسستين العسكرية والأمنية السورية، سالمتين، بما فيهما من جنرالات ومعادلات، كفيلة بضمان أمن شمال هضبة الجولان المحتلة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى