صفحات الثقافة

زرافات الشاشة/ محمد الأسعد

 

 

لا أحد يخرج من الكهف وحده إلا في القصص الخرافية، ولا أحد ينمو وحده حتى الشجرالمنفرد في الصحراء. هذه أمور خارقة لا تحدث في عالم الطبيعة والبشر، لأن الجزءَ مرتبط بكل أكبر منه دائما.

ومع ذلك، يخيل لمن يستمع إلى زرافات “المبدعين” الذين تستضيفهم برامج هذه الفضائية أو تلك، أنهم نسيج فريد من نوعه، فلا هم من عالم الطبيعة ولا هم من عالم البشر؛ لقد جاءتهم المعرفة وحياً، وجالوا في العالم منفردين لم يرافقهم إنسان أو طائر، فأبدعوا ما أبدعوا من دون أن يقرأوا لهذا أو ذاك، ومن دون أن يستمعوا إلى هذا الحكاية أو تلك.

إنهم أشبه بالكائنات الأميبية القابعة في المجاهل، تنقسم وتتعدّد كما تشاء، أو هم كائنات زيتها في دقيقها كما يقال على شواطيء المتوسط، أو دهنها في مكبّتها كما يقال على شواطئ الخليج.

أستثني قلةً بالطبع تحاول أن تظل طبيعية وبشرية رغم تأوهات وصيحات إعجاب مذيع أبله أو مذيعة مبهورة، إلا أن الغالبية تتموّج على سطح هذا الوهم والإيهام بأن العالم خالٍ من المعلمين والسابقين والرواد، وسيخلو من اللاحقين ربما، وأن هذا النوع الأدبي أو ذاك لم يولد إلا بميلادها، ولم يتطوّر إلا على صفحات أوراقها، وسيموت بموتها.

ويصل الأمر حداً لا يعقل في نظر من عرف شخصياً هذا “المبدع” أو ذاك، وامتلك ملفه الأبيض والأسود على حد سواء، وهو يستمع إليه في حمى هذيانه وتقليبه الدهنَ في مكبّته تارة والمكبّة في دهنه تارة أخرى من دون أن يرف له جفن.

لا أحد يخرج من الكهف وحده، إلا أن بعضهم يخرج إلى ضوء الشمس، أو الشاشة، فلا يكتفي بتجاهل من زامله في ذلك الكهف فقط، بل يحاول أن ينكر وجود ذلك المكان. ولهذا قصة طريفة، كنا نقولها دائماً حين يفلت أحد منا من وضعية عشناها معاً في مأزق يشبه كهفاً تحت الأرض، من تلك الكهوف التي وجد السندباد نفسه فيها حين دفنوه مع زوجه الميتة في ناحية من نواحي الهند.

في مثل هذه الحالات، كنا نتوزع باحثين عن مخرج على أساس أن يدلنا إليه من يجده. ولكن ما لاحظناه هو أن بعضنا حين كان يجد منفذاً إلى سطح الأرض، لا يكتفي بعدم العودة وإعلامنا باكتشافه فقط، بل ويتناول أكثر الصخور ضخامةً ويسد المنفذ الذي خرج منه.

“المبدع” الذي يظهر على الشاشة مثيراً دهشة المذيعة أو المذيع بما حقق في مغامرة النفاذ إلى عالم الشعر أو الرواية أو النقد وحيداً لا يختلف عن صاحبنا الذي أغلق المنفذ وراءه؛ إنه يضع حجراً ثقيلاً على جيله والأجيال التي سبقته، أو يخفي أنه نبتَ من الأرض كما ينبت خلق الله، وربما زعم أنه من سكان المجرات البعيدة.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى