صبحي حديديصفحات الثقافة

زكريا تامر ومحمود درويش: تكريم الشعر/ صبحي حديدي

 

 

منحت «مؤسسة محمود دوريش» جائزتها السنوية، التي تحمل اسم الشاعر الكبير الراحل، إلى المخرج السينمائي الفلسطيني هاني أبو أسعد، والقاص السوري زكريا تامر: الأوّل لأنه «لا يخشى المناطق الإشكالية، ولا يخاف من بشريّة شخصياته وما يحملونه من تناقضات وتعقيدات تؤشر إلى تناقضات وتعقيدات الواقع غير الطبيعي الذي يعيشون فيه»؛ والثاني لأنه رائد مزج «السرد القصصي الحديث العالي والحكي التراثي فاتن التخييل، فقدّم نماذج عالمية في قصص رائعة الجماليات، والاقتصاد الأدبي، والهجائية الساخرة»؛ بالإضافة إلى «قصص للأطفال تشف عن عذوبة حانية ومنيرة، ومقالات وخواطر لا تخفى فيها سمات المصوِّر، كاتب القصة الوجيزة العربي البارع».

هذه مناسبة سانحة، إذاً، للتذكير ببعض أبرز خصائص فنّ تامر، القاصّ الكبير، والفريد في يقيني؛ حيث للمرء أن يبدأ من أواسط خمسينيات القرن الماضي، عقد الغليان المعقد والهدوء المنذر بعواصف شتى، في الاجتماع والسياسة كما في الثقافة والفلسفة. لم يكن مألوفاً، آنذاك، أن تقتحم مشهد الأدب العربي كتابة قصصية لا تسرد أو تحكي أو تضيء الأحدوثة في برهة منتقاة ذكيّة التكثيف عالية التعبير(وهو أفضل ما يمكن أن تنجزه القصة القصيرة، كما أعتقد)، فحسب؛ بل كانت تشحن الكابوس الفردي والكوني المتخيَّل، بالكابوس الفعلي اليومي، الممعن في يوميته إلى درجة تكاد تدحر الحدود بين التوثيق والتخييل. أكثر من ذلك، كان جديداً، ومربكاً لذائقة القراءة العريضة في الواقع، أن تحمل هذا التركيبَ لغةٌ رفيعة لا تصطنع شاعريتها من إفراط في الاتكاء القصدي الشكلاني على البلاغة والمجاز، بقدر ما تتدفق من خزين شعري خام، كامن في باطن اللغة الطبيعية، الحارّة والطازجة والآسرة، في الدلالة كما في الصياغة. الحصيلة كانت ولادة قصة قصيرة، طليعية وحداثية، في الشكل والمحتوى، تعيد ترسيم سوريالية الواقع، وتستولد نثراً سردياً يتغلغل في النفس حاملاً كلّ ضراوة الحياة اليومية وثرائها.

ذلك وضع تامر ضمن مقولة فنية، وموضوعات وشخصيات وعوالم اجتماع ونفس، متميّزة عن نتاج كبار كتّاب القصة القصيرة السورية آنذاك (عبد السلام العجيلي، ألفت الإدلبي، عبد الله عبد، جورج سالم، سعيد حورانية، حسيب كيالي…)؛ ومنشقّة، كما يتوجّب القول، عن تلك الأعراف التي رسّخها، مثل قواعد ثابتة معيارية، كبار أساتذة القصة القصيرة المصرية. وقبل ستة عقود ونيف، لم يكن مألوفاً أن يلجأ قاصّ شابّ، كما فعل تامر في «صهيل الجواد الأبيض» ـ مجموعته الأولى، 1960 ـ إلى لغة تسير هكذا: «كان الليل آنذاك أغنية خشنة حارّة طويلة، تتعانق بحنان في عتمة كهوفها عذوبة ربيع وتوحش نمر جائع. وكنت وطواطاً هرماً أعمى، جناحاه محطمان. لا أجد خبزي وفرحي. أجهل خبزي وفرحي».

آنذاك كان محمد الماغوط (1934ـ2006) هو الذي يتولى عمليات مصالحة الشعر والنثر، في لغة عربية بكر، حارّة بدورها، مثقلة وجريحة وآسرة: «يا قلبي الجريح الخائن/ أنا مزمار الشتاء البارد/ ووردة العار الكبيرة/ تحت ورق السنديان الحزين/ وقفت أدخن في الظلام/ وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار». ولقد تبيّن، سريعاً، أن النثر العربي هو الرابح الأكبر جرّاء غوص هذَيْن المعلّمين في الأغوار السحيقة من وسيط تعبيري ثرّ، فامتلكنا ما عجزت معظم النماذج الأولى من قصيدة النثر العربية عن تزويدنا به: اتصال الوظيفتين الشعرية والخطابية في اللغة، وحقّ استدخال الكوني في الفردي، واجتراح تلك الكيمياء الشعرية الصافية التي تبقى في قلب التوتر التراجيدي لأسئلة الوجود، ومفردات العيش. ولقد فعلها تامر في القصة القصيرة، ولم تكن مصادفة أنّ تصدر مجموعة «صهيل الجواد الابيض» عن منشورات مجلة «شعر»، بحماس كبير من يوسف الخال.

كان النثر مشبَعاً بعناصره، يلتقط مفردات الحياة اليومية من مشهد ملقى على قارعة الطريق (بما يكتنفه من عناصر شقاء، وفرح، وتوق، وقنوط، وقمع، وحيرة، وعجز، وشجاعة روحية، وخور جسدي، واندماج في عناصر الخارج، وارتداد نحو تجويف الداخل…)، لكي يردّه إلى حيث ينتمي أصلاً: إلى قارعة الطريق، حيث الشعر خشن وعذب وكثيف وبانورامي وخام، وحيث النفس الإنسانية ملتقَطة حتى الحدود القصوى للتمثيل البشري، على يد أستاذ ماهر يمسك بسلالة طويلة من خطوط التقاء الشعر والنثر في مصبّ الحياة.

ولم تكن مصادفة أن يفوز تامر بجائزة ملتقى القصة القصيرة الدولي الاوّل، الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في مصر سنة 2009؛ وأن يفوز اليوم بجائزة محمود درويش للثقافة والإبداع، فضلاً عن جوائز أخرى متفرقة، بينها واحدة مخصصة لأدب الطفل. هنا معلّم كبير، وهذه محض إشارات، على أهميتها، إلى منجزه الرفيع الفذّ.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى