صفحات سوريةهوشنك أوسي

زمن الثورة ومعضلة الأكثريات والأقليّات القوميّة في سوريا


بروكسل _ هوشنك أوسي()

الكرد في سوريا، أو تركيا أو العراق أو إيران، هم شعب، ارتكازاً على المعطى المشترك العرقي والإثني، والوجود التاريخي، والجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة التي تجمعهم. والكرد في لبنان وأرمينيا وجمهوريّات سوفياتيّة سابقة…، هم أقليّة، أعتماداً على الحضور السكّاني والوجود الزمني وحسب. والكرد في ألمانيا والدول الأوروبيّة هم جاليات، ارتكازاً على التعداد والحضور الزمني. والكرد في العالم كلّه، هم أمّة، لها كل خصائص الأمّة، من حيث العمق التاريخي الحضاري، والخصوصيّة الإثنيّة والعرقيّة، والهويّة اللغويّة، مع تنوّع اللجهات، والتوزّع على جغرافيا شرق أوسطيّة، كانت في يوم ما تحت حكم أجداد الكرد، سواء قبل الميلاد (الهوريين _ الميتانيين، السوباريين، الميديين…)، أو في الحقبة الإسلاميّة، وبخاصّة العثمانيّة، عبر الولايات والسناجق والإمارات (المروانيّة، الشداديّة، البابانيّة، البوطانيّة…). والكرد، قوميّة مستقلّة بحدّ ذاتها، كاصطلاح سياسي، اجتماعي، ثقافي، يمكن إطلاقه على هذه الجماعة البشريّة، إذ إن لها قضاياها وحقوقها ومميّزاتها وهمومها السياسيّة الخاصّة بها، تميّزها عن المجموعات البشرية الأخرى. وبالتالي، تنطبق على الظاهرة الكرديّة، وصف الشعب والأمّة والقوميّة والأقليّة القوميّة، بناء على ما تمّ ذكره. وفي كل هذه الحالات، يحقّ للمكوّن الكرديّ، وفق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والقوانين والأعراف والعهود الدوليّة، تقرير مصيره، سواء في الانفصال، أو الفيدراليّة أو الحكم الذاتي الموسّع، أو الإدارة الذاتيّة الموسّعة، أو الاندماج ضمن الصيغ السياسيّة للدول التي تتوزّع عليها الجغرافيّة الطبيعيّة والبشريّة الكرديّة. ولا يحقّ للمكوّن الكرديّ حقّ تقرير مصيره، إلاّ في حال كونه جاليّة، في المهجر والشتات، ومن حقّهم المطالبة بكامل حقوق المواطنة، والتعليم باللغة الأم، والضمان الصحّي والاجتماعي، وحقّ التظاهر والاجتماع وتشكيل الأنديّة والجمعيّات الإنسانيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وبالتالي، حين تسعى بعض قوى ما يسمّى بـ”المعارضة” السوريّة، أو بعض المعارضين، إلى حصر حقوق الشعب الكرديّ السوري في حقوق المواطنة المحضة، فهذا يعكس رؤيتهم الضحلة والمتدنّيّة، للمكوّن الكرديّ السوري، على أنه جالية، وليس شعباً أو قوميّة أصيلة، لها كامل الحقوق التي تتمتّع بها القوميّة العربيّة. ناهيكم عن كون هذا الموقف ينمّ عن نقصٍ فادح في الوعي الديمقراطي الوطني الحرّ، البريء من البطانات القومويّة، والموروث البعثي المقيت! إذ لا يستقيم ما يراه بعض هؤلاء، للكرد من حقوق، إلاّ مع رؤيتهم للكرد كجالية وليس كشعب، حتّى لو كانوا يطلقون وصف الشعب أو القوميّة على الكرد السوريين في بياناتهم وتصريحاتهم! وحين تطرح بعض الأحزاب الكرديّة في سوريا رؤيتها؛ القائلة إن القضيّة الكرديّة هي “قضيّة أرض وشعب” لا يُعتبر هذا تطرّفاً أو راديكاليّة، بقدر ما أن عكس ذلك هو التفريط والميوعة وهدر الحقوق وهضمها، بعينه، وعدم الانسجام مع متطلّبات الواقع وحقائقه، وبل التعارض معها!. وللأسف، هذا ما حصل في “إعلان دمشق” حين فرض الأخوة المعارضون العرب، رؤيتهم للحقوق الكرديّة للكرد السوريين، وحصرها في حقوق المواطنة المحضة، على الجانب الكردي. وموافقة ثمانية أحزاب كرديّة على ذلك، جعلت بعض شخصيّات وأطراف المعارضة السوريّة من العرب، يعيدون تذكير النخب الكرديّة بالتزاماتها حيال “إعلان دمشق” الذي يعاني أصلاً، من موت سريري حاليّاً، وبات هيكليّة وهميّة، أكثر من كونه تعبيراً سياسياً عملياً، حركياً، فاعلاً، له حيويته وتأثيره على مجريات المشهد الانتفاضي السوري!

ومثلما كان للكرد دورهم النشط والحيوي في حضارة المنطقة، والحضارة الإسلاميّة على وجه الخصوص، وصولاً الى دورهم في تأسيس السلطنة السلجوقيّة، فالعثمانيّة، والصفويّة أيضاً. كذلك كان لهم دورهم في تأسيس الدول الحديثة في المنطقة، كتركيا وسوريا والعراق. وكان الكرد دوماً عرضة للمخاتلة والخداع، بعد أن قطعت نخب الأكثريّة القوميّة وعوداً للكرد بأن هذه الدول هي عقد شراكات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة بين الكرد والترك والعرب والفرس. إلاّ أنّه ما إن استتبّ الأمر للأكثريات القوميّة، حتّى أطاحت كل آمال الكرد في العيش الحرّ الكريم، ضمن كيان الدولة التي تعترف بوجودهم وهويّتهم وحقوقهم، دون ظلم وقهر وصهر وإنكار. وبالتالي، لدى الكرد، ومنذ مطلع القرن المنصرم، تجارب مريرة مع الأكثريّات القوميّة التي حكمت دول المنطقة. وبصرف النظر عن طبيعة أنظمة الحكم، إلاّ انها اتفقت على اضطهاد وانكار وصهر الكرد وهضم حقوقهم. وأثناء سعيهم للتحرر من هذه الحال البائسة، كان الكرد يلقون الكثير من التحايل ممن يفترض بها أنها معارضات الانظمة السياسيّة الحاكمة التي تضطهدهم. فاليساريون والشيوعيون العرب والترك والفرس، كانوا يطالبون الكرد، بالتخلّي عن حقوقهم القوميّة، ريثما تتحقق الثورة الاشتراكيّة وتتشكل الدولة الاشتراكيّة، فهي التي ستضمن حقوقهم وتصونها!. وأمّا الإسلاميون، الذين بدورهم طالبوا الكرد بالتخلّي عن حقوقهم، لأن “المؤمنين أخوة”، وإن “المسلمين سواسية كأسنان المشط”، وأن “لا فرق بين عربي وأعجمي”…، وإن دولة “الإسلام هو الحل” هي التي ستمنح الكرد حقوقهم!. أمّا القوميون من الترك والعرب والفرس، فحتّى لو كانوا في المعارضة، فظلّوا نسخاً طبق الأصل عن النظم الحاكمة التي تقمع الكرد وتضطهدهم!

الآن أيضاً، والانتفاضة السوريا على مشارف الإطاحة بالنظام الاستبدادي في دمشق، يجهر الكثير من العرب، قوميين ويساريين وإسلاميين وليبراليين في المعارضة السوريا، برفض الاعتراف الدستوري بوجود الكرد في سوريا كشعب أصيل، له كامل الحقوق القوميّة والسياسيّة والثقافيّة التي للعرب، على قدم المساواة التامّة، بحجّة أن ذلك، سيدفع الكرد للانفصال! وتصريحات سمير النشار وغيره، هوامش على متن هذا الموقف العنصري!. في حين أن آخرين، أبدوا تشنّجاً وعصبيّة عاليّة التوتّر (فيصل القاسم، رشاد أو شاور)، حين طرح الكرد، إعادة اسم سوريا من “الجمهوريّة العربيّة السوريّة”، إلى الجمهوريّة السوريّة، كما كانت قبل انقلاب حزب البعث على الدولة والمجتمع في 8/3/1963. ويصرّون على إحالة هويّة الدولة، التي من المفترض أنها مدنيّة وعلمانيّة ووطنيّة وتعدديّة، إلى جزء من المكوّن الاجتماعي السوري وحسب، هم العرب. وفي هذا، لا يختلفون عن حزب البعث الحاكم، عبر الاصرار على هذا التصوّر لنظام ما بعد الأسد، دون أن يدركوا ان الدولة الوطنيّة الحقّة والناجزة، هي بالضدّ من الإحالات القوميّة، وحصر هويّة الدولة في العروبة. ذلك ان سوريا، وعبر تاريخها القديم والحديث، لم تكن عربيّة خالصة. وإقحام العروبة في هويّة الدولة، أتى على زمن الانفصال، وتوثّق وترسّخ عقب انقلاب حزب البعث. وحجّة هؤلاء، ان الاغلبيّة في سوريا هم العرب. وهذه حجّة، ركيكة وهشّة، وتقف بالضد من الوعي والسلوك الوطني الديمقراطي، الساعي الى إنجاز مشروع دولة المواطنة والمؤسسات والحق والعدالة!. فلو كانت الأغلبيّة القوميّة هي المقياس في صوغ هويّة الدولة الوطنيّة، لكانت سويسرا ألمانيّة، ولكانت بلجيكا فلامانيّة _ هولنديّة!

وحين يطرح الكرد هذه الهواجس ينبري البعض ممن يتبنّون ذهنيّة نظام البعث، وهم في المعارضة، والقول: على الكرد التخلّي عن مفهوم كردستان، لأن في ذلك إلغاء للعرب والسريان والارمن الموجودين في الجغرافيا الكرديّة، المقسّمة بين أربع دول شرق أوسطيّة، هي تركيا وايران والعراق وسوريا. ويجهل هؤلاء ان اصطلاح كردستان، لم يبتكره الكرد، وأحزابهم السياسيّة الحاليّة، كما ابتكر حزب البعث، تسمية “الجمهوريّة العربيّة السوريّة”. ذلك أن اسم كردستان، موجود في الوثائق السلجوقيّة (السلطان السلجوقي سنجار، أوّل من اطلق تسميّة كردستان على بلاد الكرد)، بالاضافة الى ان هذه التسمية موجودة في الوثائق العثمانيّة، ناهيكم عن ورودها في العديد من كتب الرحلات والتاريخ العربيّة القديمة. بالاضافة الى وجود إقليمين في إيران والعراق اسم كل منهما كردستان، بصرف النظر عن اختلاف مساحة الاقليمين، قبل مجيء حزب البعث للحكم في سوريا والعراق، بانقلابين عسكريين سنة 1963، وقبل مجيء الملالي للحكم في طهران سنة 1979!. وبالتالي، اسم كردستان، لم يكن منجزاً قوميّاً، سياسيّاً، كرديّاً صرفاً، ذا منحى قوموي، عنصري، بل يستند الى خلفيّة تاريخيّة وحضاريّة وثقافيّة واجتماعيّة قديمة.

كما أن مُضي المعارضة السوريّة، في المزايدة على نظام البعث، عبر الإصرار على الهويّة العربيّة لسوريا، ينطوي أيضاً على نزوع قومي، يلغي التعدد والتنوّع القومي والعرقي للنسيج الاجتماعي الوطني السوري، الذي يتكوّن من كرد وسريان وآشوريين وأرمن وتركمان وشركس وشيشان وروم…!.

وبالتالي، إذا كانت الثورة السوريّة، تهدف فعلاً الى إبرام عقد اجتماعي وطني جديد، ينتج دولة مواطنة حرّة، قوامها التعدديّة والشراكة، دون امتياز قومي أو ديني او طائفي، فعلى هذه الثورة، ومن ينادي بها، القطع مع الموروث البعثي، تماماً، وإعلان البراءة المطلقة من تركة النظام الاستبداديّ وذهنيّته. حينها، سيصل الكرد والسريان والآشوريين الى الطمأنة والثقة، بأن حكّام سوريا، المرتقبون، لن يكونوا نسخة معدّلة (أفضل أو أسوأ) من الحكّام البعثيين السابقين!

() كاتب كردي سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى