صبحي حديديصفحات سورية

زهرة طلاس وشيخ القرداحة


صبحي حديدي

ظهور نفر من حرس ‘الحركة التصحيحية’ القديم، برعاية محمد سلمان، وزير الإعــــلام الأسبق، يذهــــب بالمرء إلى استفقاد واحد من أقدم هـــؤلاء الحرّاس، بل الأقدم طــــرّاً كما يجـــوز القول: العماد أوّل المتــــقاعد مصطفى طــــلاس، الذي قضى 32 سنة في وزارة الدفاع السورية، و52 سنة في السلك العسكري. وحين تقاعد، سنة 2004، تسلّم من بشار الأسد ‘وسام أمية ذا العقد’، فكان ذاك هو الأرفع بين 39 وساماً محلياً وعربياً وأجنبياً، يَعجب المرء كيف يطيق سيادة العماد حمل أثقالها على صدره!

وليس الأمر أنّ طلاس كان غائباً تماماً عن الساحة السياسية، بعد تقاعده، إذْ أصدر كتاباً بعنوان’ثلاثة أشهر هزّت سورية’، أماط فيه اللثام عن بعض أسرار الصراع بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت، سنة 1984؛ ولم يتوقف عن الإدلاء بدلوه في إغداق المدائح على شخص بشار الأسد، وهجاء المعارضة، وشتم ملوك وأمراء ورؤساء العرب الذين لا يشبهون رئيسه في البطولة والإباء والمقاومة والممانعة، ولم يتورّع عن استخدام أقذع الألفاظ في توصيفهم (قصيدته الشهيرة ‘غزة والفضيحة العربية’ تعقد مقارنة بين جبين حسني مبارك ومؤخرة تسيبي ليفني!). وفي كلّ حال، حين كان العماد يغيب في واحدة من أسفاره السياحية الطويلة، كانت سيرته تظلّ جارية على الألسن من خلال نجلَيْه: فراس، رجل الأعمال والعضو الأصيل في الصفّ الأوّل من تماسيح المال والفساد والنهب؛ ومناف، العميد في الحرس الجمهوري، والذراع الضاربة بالنيابة عن أمثال ماهر الأسد وحافظ مخلوف، خاصة في صفوف فريق من المثقفين والفنانين يزعم معارضة النظام.

وفي الأسابيع الأولى للإنتفاضة، منتصف نيسان (أبريل)، توهّم طلاس أنه ما يزال صاحب نفوذ لدى أهالي حمص، باعتباره ابن المحافظة في نهاية المطاف، فعرض على سيّده الأسد أن يعقد اجتماعاً مع فعاليات حمص لتهدئة الأجواء. ولم يكن مدهشاً، إلا للعماد وحده، أنّ الحماصنة أسمعوه كلاماً صارماً وحازماً؛ ليس لكي يستقرّ في أذنيه، بوصفه الوسيط، بل لكي ينقله إلى رئيسه، باختصار بليغ: ‘الشعب السوري ما بينهان’! الصلة الثانية بالإنتفاضة كانت أعلى بلاغة، من حيث الرمز والتمثيل البصري على الأقلّ، وذلك حين نجحت جماهير الرستن (بلدة طلاس، ومسقط رأسه) في تقويض تمثال حافظ الأسد، وكان الأضخم على نطاق القطر لأنّ الذي أمر بتشييده كان، بدوره، الأعلى رياء ومداهنة وخنوعاً.

وهكذا ظلّ الرجل يثبت أنه لم يفلح أبداً في الصعود إلى أيّ موقع أعلى من ذاك الذي أراده له الأسد الأب منذ عام 1971: وزير دفاع مزمن ثابت مقيم، لا حول له ولا طول، ضاحك أبداً، يقرض الشعر الرديء، وينتحل المؤلفات. يحدث، أيضاً، أن يطلب من الميليشيات الحليفة للنظام في لبنان أن لا تؤذي الوحدة العسكرية الإيطالية المرابطة هناك، كي لا تذرف جينا لولو بريجيدا دمعة حزن. إلى هذه وتلك، سبق له أن خاض في قضية سلمان رشدي و’الآيات الشيطانية’، كما عكف على تطوير الخصائص المورفولوجية لزهرة التوليب بحيث يصبح اسمها على يديه: ‘زنبق خزامى الأسد’، Tulipa Hybrida Assadiana، كما اسماها في كتابه ‘ورد الشام’.

وإذْ يتعالى الحديث اليوم عن احتمال عودة رفعت الأسد إلى سورية، في شخص بطل مجازر تدمر وحماة والمحاصِص في السلطة والمتضامن مع البيت الأسدي، وليس البتة فارس الديمقراطية المزيّف المتباكي على الحرّيات وحقوق الإنسان؛ فإنّ طلاس يُفتقد، دون أن يُنتظر بالضرورة. ذلك لأنه، وقبل أن يسرد وقائع الصراع الدراماتيكية في كتابه آنف الذكــر، كان أوّل مسؤول رفيع المنصب كشف النقاب عن أسباب وجود رفعت الأسد خارج البلاد، رغــــــم أنه ما يزال يشغل منصب نائب الرئيس لشؤون الأمن القومي. وفي تصريح شهير لمجلة ‘دير شبيغل’ الألمانية، أعلن طلاس أنّ النائب الهمام لا يقيم في جنيف لأسباب صحية، أو لأداء مهمة رئاسية، بل لأنه شخص غير مرغوب فيه.

وبالطبع، جرت في الماضي وصلات شتم وشتم مضادّ بين طلاس وأجهزة رفعت الأسد الإعلامية، ولكنّ حدّة الخلاف بين العمّ وابن أخيه الوريث كانت تمنح العماد المتقاعد حصانة في الردّ، وربما غمزة تشجيع من رأس النظام، كما كانت الحال في أواخر عهد الأسد الأب. الميزان تبدّل اليوم، والأرجح أنه سوف يتبدّل أكثر، وبالتالي لم يعد مسموحاً للعماد أن يردح على هواه ضدّ العمّ، لأنّ وحدة البيت الأسدي صارت فريضة ستراتيجية في سياقات بحث النظام عن المنجاة؛ والفاشل في الحفاظ على تمثال الوالد في الرستن، ليس له أن يتطاول على شيخوخة العمّ في القرداحة… أو تلك هي المعادلة التي يمكن أن تسير في ذهن ماهر الأسد، المعجب أبداً بعمّه، على الأقلّ.

وهكذا، ورغم أنّ تراباتها السخية تعجّ بأزاهير برّية شتى، بديعة فاتنة أصيلة، بنات تاريخ سوري عريق عتيق، لن يكون نظام آل الأسد فيه سوى فاصلة في مجلّد زاخر، فإنّ جبال الساحل السوري أبت استنبات الزهور الطلاسية؛ ليس لأنها نقيض الطبيعة، فحسب، بل لأنها نتاج النفاق والافتعال، ولعلّها لم تطلع أصلاً إلا في مخيّلة العماد وحده. ويا لها من مخيّلة، والحقّ يُقال!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى