زينة ارحيمصفحات سورية

سأقول لكل فلسطيني: اعرف شعورك تماما: من حلب ‘الوفاء’ الى ادلب ‘المحتلة’


زينة ارحيم

‘الحدود شيء والحواجز العسكرية على الطرقات شيء آخر’ أجابني عمي عندما أخبرته ببراءة بأنني ذاهبة لإدلب، فأسماء المطلوبين تُوزّع كلٌّ حسب منطقته وإن كان ‘الحظ’ قد حالفني بتجاوز الحدود فبالتأكيد سيخذلني عند حواجز إدلب.

لم تكن الحواجز هي العائق الوحيد أمام ذهابي لإدلب فقد احتاج رسم خارطة الطريق إلى مدينتي الثائرة مؤتمرين: داخليٌّ عُقد بين أهلي في إدلب وخارجيّ مع المحبيّن ببقية المحافظات وتمخض عن هذين المؤتمرين لجاناً لـ’ترطيب الأجواء’ وأخرى ‘للوساطة’ وثالثة لتقّصي الوضع الأمني على الحواجز.

وبعد طول انتظار، جاء يوم السبت، كنت قد تواعدت مع صديقي الحرّ عامر مطر لنسافر معاً إلى ‘دولة حلب’ المستقلة حيث نستطيع منها التحرك بحرية كلٌّ إ لى المكان الذي يقصد.

كراج دمشق مازال قبيحاً كما عهدته ربما ازداد مقدار السواد وطبقات الأوساخ المتراكمة على جدرانه وأرضه وافتُتح في داخله محلّ للشاورما من نوع ‘كول وودّع’، مازلت أسجّل صوره برأسي حتى نادى أمامي أحد عمّال شركات النقل: دير الزور يا آنسة وبحركة لا إرادية أجبته ‘نعم’ وشرعت أسير وراءه إلى أن صرخ آخر: حمص! هزيّت رأسي بالإيجاب و لحقته، ثالث نادى: حماه! فتركت الاثنين وتبعته قبل أن يعيدني الواقع المر إليه، أنا ذاهبة إلى حلب!..

انطلق بنا الباص بسلامٍ من الكراج، سيلٌ من النميمة والأخبار والمشاريع كان يلفّ بمقعدنا فأتذكر أين نحن وأطلب من عامر أن يخفض صوته متلصّصةً على عيون من يجلس بجوارانا مدعياً ا لنوم خلف نظّارة سوداء، وعلى رجل أحنى رأسه ليستند على كرسيّ عامر. الشّك، مرضٌ سوريّ لم تشفني منه إقامة سنة في لندن. من دمشق وحتى حمص كان الطريق كما اعتدته جافّا وأصفر، لكن ما إن بدأت أشجار حمص تطّل علينا حتى رأينا بينها ذاك الخضار الآخر، كان لقائي الأول مع دبابات ‘حماة الديار’صادماً ومؤلماً، ما أقبح الدبابة يا إلهي! هذا أول مافكرت به، إلى أن شاهدت العلم السوري فوقها يرفرف عالياً، أصابتني حالة من ‘البلكمة’ تلتها ‘هستيريا’ وهنا تبادلنا أنا وعامر الأدوار وكاد أن يضع يده على فمي ليسكتني بالقوة! كبح صراخي رؤية السيارات تمرّ قربها حتى أنها تغمّز لها وتتجاوزها متآلفة تماماً مع الضيفة القبيحة التي قاسمتها الشوارع السورية.

كان صديقي عامر يراقب يمين الطريق وأنا يساره وننبّه بعضنا عند كل دبابة، سيارة زيل عسكرية، قناصّة، جنود مختبئون بين الأشجار وحتى حاملات دبابات، وإ لى أن وصلنا لمفرق حلب لم نستطع إكمال حديثٍ واحد فكان ينبهني وننظر يميناً ثم أنبهه ونتحول للشمال، فالجيش الباسل قد انتشر بآلياته وعدّته على جانبي الطريق من حمص وحتى مفرق إدلب مروراً بحماه.

بعضهم يقف بشكل واضح على أسطح أبنية حكومية مع سلاحٍ يوجهه لداخل البلدة وأكياسٍ رمليةٍ من جهة الشارع العام، وآخرون يحتّلون سطوح أبنية، جفّ وشحُب الغسيل المنشور على شرفاتها دون أن تلتقطه سيدة المنزل، وتحت القناصة تتابع الحياة حركتها طبيعيةً عند ورشات تصليح السيارات.

عند مشفى الشفاء بخان شيخون كانت تقف ثلاث دبابات يتفيّء بظلها جنود نحال تعبين، فيما يتمشّى حولها آخرون، بعضهم يافعٌ ترى انحناء ته من ثقل البارودة التي يحمل.

على مدخل الرستن وجسرها توزعت أربع دبابات وسيارة زيل محمّلة بالجنود وكذلك عند تلبيسة التي ترك القصف على بعض أبنيتها هُباباً أسود فيما تهدّمت أخرى جزئياً، وهذا فقط على الشارع العام. فكرة وحيدة كانت تلّح عليّ طوال الرحلة..من الآن فصاعداً سأقول لكل فلسطيني يعيش في الأرض المحتله ‘أعرف شعورك تماماً’ وبكل صدق.

وبينما زرع منظر العسكر انقباضاتٍ عنيفةً اختلجت صدري، رعباً، رهبةً، قهراً…لا أعرف تحديداً.. مسحت المنازل القديمة والمشققة وواجهات المحال عن عيوني الارتباك وفتحت لي جدرانها لأقرأ في دفتر الحرية شعاراتٍ مبخوخةً بخط اليد، مُحي بعضها وعُدّل آخر لتُسبق كلمة ‘منحبك’ المطبوعة بإتقان بالحبر الأسود بحرف ‘ما’ بخط يديوي كُتب بالبخاخ الأحمر، ويُشطب اسم الرئيس من مطبوعة ‘الشعب يريد بشار الأسد’ ليتحول إلى ‘الشعب يريد إسقاط النظام’.

جسر سراقب الذي كان يشهد عادةً حركة نشطة من البولمانات والسرافيس وخاصة في ذلك الوقت من العام ‘قـــــبل العيد’، كان مسكوناً بالوحدة.

ساعتين مضتا ونحن نلاحق مخطـــوطات الحرية ودبابات قامعيها على يمين الشارع ويساره إلى أن وصــــلنا لمفرق حلب.

الوادي ‘المقدّس’!

شبكة المحمول التي كانت تضعُف وتقطع استقرت على الإشارة الكاملة، الجنود والدبابات استُبدلوا بصور كبيرة على جانبي الطريق للأسد، ذُيّلت بتوقيع ‘حلب الوفاء’، مع الكثير من الإعلانات لمطاعم وحفلات عيد وحتى برنامج نادي ليلي.

انقطعت الكلمات ودخلت مع عامر في حالة من الخرس لم يقوَ على لفت إنتباهي للصور والعبارات التي يتواضع أمام فصاحتها كتاب القومية، وبينما انشغلت أنا بقياس أيّ من الصور هي الأكبر وصلنا للحاجز العسكري الأول ثم الثاني لنصبح بعدها في حلب ‘الأسد’.

الشوارع مزدحمة بالمتسوّقين ولا مكان لركن السيارة أمام محلات الوجبات السريعة، المقاهي والمطاعم عامرة، لم يتغير علي من ملامح المدينة شيء سوا المبالغة في إظهار ‘الولاء’ وتلك الرسمات المطبوعة على الجدران والطرقات وكأن هناك من يكّذبها وهي ترد بالتأكيد ‘منحبك، والله منحبك، واللهِ العظيم منحبك!’.

افترقت أنا وعامر لكنه كان يتصل بي كل عشر دقايق ‘زينة خذيني معك لإدلب، هنا قبيح’، كان شعوري مماثلاً ولم تمضِ ساعتين حتى كنت على طريق إدلب، وبينما بدأت رياح إدلب الحرّة تلهب أنفاسي هاجم قلبي أسىً وتعاطفٌ كبير مع الإنسايين الأحرار الباقيين في مدينة ‘الوفاء’، أن تكون حرّاً في حلب هو تعذيب متواصل يمارسه عليك آلاف السجانيين كلٌ بأدواته وزنازينه الخاصة من بائع الخضار على بسطته إلى بولمان الشهباء والبلدية. ما أصعب ماهم فيه!

نقترب من إدلبتي الآن، خرجت حلب من حساباتي لتحّل مكانها سرمين، منذ قرأت أول خبر عن ضربها ودخول الجيش والشبيحة إليها ارتسم بذاكرتي مدخلها الذي شُكّل كقوس كبير كُتب عليه بالحجر الأسود ‘سرمين عرين الأسد’ ووُضعت فوقه صورتان كبيرتان لحافظ وبشار الأسد، تساءلت كثيراً ما حلّ به.

ولم يكن مفاجئاً أن تتحول ‘عرين الأسد’ إ لى ‘سرمين الحرة’ لكن الحجم المهول من مخطوطات الحرية التي غطّت جدار مدرسة سرمين على طول الشارع العام كانت مذهلة، ‘نموت وتحيا سورية’، ‘عاشت سورية ويسقط بشار الأسد’، ‘سورية بدها حريّة’، ‘ننتصر أو نموت’، ‘مامنحبك..ارحل إنت وحزبك’، ‘الخلود للشهداء’….

مرّت سرمين واقتربتُ أكثر، هو حاجزٌ وحيد وأعود لشرنقتي الجميلة الثائرة، أوّدع وجهي ونسيم الهواء في شعري وأرتدي ملامحي الجديدة، حجابٌ مشدود حتى جبيني، عباءةٌ، ونظّارةٌ شمسيةٌ صباحاً تتحول لخمارٍ في الليل.

المحبّون خائفون من ذاك اللئيم الذي يعرف أبناء المدينة ويتصيّدهم على الحاجز، لم يكن موجوداً، هي( إدلبتي) تريدني فيها إذاً، مريّت بسلامٍ دون أن يتفحّصوا هويتي وها أنا في إدلب!..ساحة ‘المحراب’، سوق الخضار، عند الساعة، أغمض عيوني وأفتحها مراراً لأصدّق ولا أصدّق.

إدلبتي خلعت عنها عباءة ا لبعث والطلائع والشبيبة وسُمعة ‘الشرطة’ الغامقة المهترئة وارتدت فستاناً أخضراً نضٍراً زيّنته بعقدٍ من ستة أحجار كريمة من العقيق البّني.

الشهداء يرحبّون بك، يسيرون قربك في السوق و يسترقون النظر إليك من جدار مديرية السياحة، ترفرف أرواحهم في ا لضبيط والحارة الشمالية، بأسمائهم زُيّنت الساحات والدّوارات والشوارع، فمدرسة ‘البعث’ تحولت لـ’الحرية’، ومدرسة محمد زكريا بيطار أصبحت مدرسة الشهيد محمد السيد عيسى، وأصبح لدينا دوّارات الشهداء محمد غريب وحسان عوض وابراهيم شحود.

لا صور للأسد باستثناء المديريات والسجن ومنطقة القصور حيث بناء المحافظة وفرع الأمن وبيت المحافظ، هناك قرب ما بقي من تمثال حافظ الأسد الذي حطّمه مشيعو الشهيد لتلُّم أجراءه البلدية في اليوم الثاني كأي أحجار عثرة من الطريق.

في ساحة السبع بحرات وعلى مرأىً من ابراهيم هنانو صورتان كبيرتان للأسد تتوسط إحداهما عَلما البعث وسورية على مسرح لأفراح ‘خلصت’ وقد كُتب تحتها ‘سورية الله حاميها والأسد راعيها’، والطلاء الأحمر يسيل من وجهه المبتسم بينما تركت زيتونة على رقبته بقعةً من خضارها القاني.

خضراء( إدلبتي) أكثر من أي وقت مضى، يليق بها ثوب الحريّة الذي سأمسك بطرفه كطفلة تائهة مساءً وألاحق الأبطال في مظاهرتهم اليومية بعد صلاة التراويح. وسأسجل على حَور ذاكرتي: السادس والعشرون من آب: أول مظاهرة في( إدلبتي) وأول مظاهرة يقود صوتي هتافاتُها، مدينتي الصغيرة تخصص لي مقعداً مميّزاً فيها كالعادة.

‘ كاتبة سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى