صفحات مميزة

سؤال التقسيم والفيدرالية في سورية –مقالات مختارة-

 

الفيدرالية في سورية/ سلامة كيلة

أعلن الحزب الاتحادي الديمقراطي (بي ي دي) قيام فيدرالية في الشمال السوري، تحت مسمى روجافا، بعد أن كرَّر طويلاً أنه بات مُقِراً بصيغةٍ للحكم، تقوم على سلطة المجالس الشعبية، وهو ما فعله بعد أن تسلّم السيطرة على محافظات الحسكة والقامشلي من النظام الذي قرَّر الانسحاب منها.

في المسار الطبيعي، تقوم الفيدرالية على ضوء توافق مجتمعي، يجد تمظهره في الدستور الذي يشمل البلد كلها. بالتالي، من غير الطبيعي أن يعلن حزبٌ قيام فيدرالية فقط، لأنه سيطر بالقوة، وبتواطؤ النظام، على مناطق معينة، يقول إنها كردية، أو يعتبر أنها جزء من “الأرض التاريخية” للأكراد. ولهذا، من الواضح أن الحزب يستغلّ ظرف سورية الراهن، من أجل فرض أجندته هو، وليس أجندة الأكراد، بقوة السلاح. ومن الطبيعي أن يقود ذلك إلى صدامٍ عسكري، وحرب، وهذا هو الخطر الممكن في الفترة المقبلة.

لا بد من التوضيح، أولاً، أن الفيدرالية نظام إداري لدولة اتحادية، وبالتالي، فإنه لا يخص لا القوميات ولا الطوائف، على الرغم من أن الإمبريالية الأميركية حاولت تكييفه، لكي يصبح التعبير عن “التقسيم الطائفي والإثني” كما فعلت في العراق، وكما عمّمت في خطابها العولمي، من خلال الحديث عن المكونات. وبهذا، يبدو أنه أصبح متداولاً من أطرافٍ عديدةٍ، انطلاقاً من هذا الفهم الذي كان مدخلاً لتفكيك الدول أصلاً.

وعلى الرغم من أن إعلان الفيدرالية من الحزب تقصّد ضم عرب وسريان، لكي يخفي الطابع الكردي للفيدرالية، لكنه ينطلق من منظور الحزب إلى حدود الوجود الكردي في سورية التي كان يحدّدها حزب العمال الكردستاني، الحزب الأم لحزب البي ي دي، بشمول شمال سورية من البحر المتوسط إلى حدود دير الزور. وهذا الأمر هو الذي دفع الحزب إلى محاولة توسيع سيطرته في شمال حلب، من أجل ربط عفرين بعين العرب والوجود الكردي في شمال شرق سورية. وهذه مشكلة أخرى، تخص الحزب الذي ينطلق من منظور تعصبي قومي، لا يتناسب مع الوضع في سورية، وهو ما يظهر بتسمية المنطقة “روجافا”، والتي تسمى كذلك “كردستان الغربية”، والتي تضم أغلبية عربية أصلاً (وهذا الوضع هو الذي دفع الحزب إلى إظهار وجود عرب وسريان معه).

مرّ وجود الأكراد في سورية بمراحل متعددة. لكن، لا بد أن يكون واضحاً أنه وجود حديث، وليس كما الوجود في شمال العراق. فقد عملت الدولة العثمانية على نقل مجموعاتٍ كرديةٍ إلى مناطق عديدة في سورية، في سياق سعيها إلى ضمان طريق الحجاز، وقد نقلت كذلك تركماناً وشيشانا. لهذا، تشكلت مدن كردية في عفرين وجبل الأكراد في ريف اللاذقية، والعتمانية في الجولان وغيرها. وقد حدث ذلك كله في القرن التاسع عشر، لكن انهيار الدولة العثمانية، وميل الأكراد إلى الثورة ضد الدولة الجديدة أدى إلى هجراتٍ كرديةٍ إلى الشمال الشرقي السوري. وهي هجراتٌ كبرت، منذ نهاية الخمسينيات من القرن العشرين فقط، وظهرت واضحةً في الستينيات.

هذا يعني أن الوجود الكردي ليس تاريخياً في سورية، وأنه نتاج هجرات إلى أرضٍ عربية. وبهذا، نشأ شعب على أرضٍ عربية، أرضٍ يسكنها عرب وسريان تاريخياً (وسكنوا كل جنوب تركيا منذ قرون طويلة). وهذا لا يعني أنْ لا حقوق لهؤلاء، نتيجة حداثة وجودهم، لكنه يعني فهم الوضع بشكلٍ دقيقٍ، لكي لا يجري الانسياق نحو الشطط القومي، وفتح صراعاتٍ لا أفق لها. وبالتالي، تمثل الحالة الكردية وجود أقليةٍ قومية، والحل يكون بإقرار مبدأ المواطنة من جهة، وإقرار الحقوق القومية التي تتمثل في التكلم باللغة وتعليمها، والتعبير عن الثقافة والتراث الشعبي. لكن، كذلك يمكن قيام الإدارة الذاتية في المناطق الأساسية لتمركز الأكراد، وهي هنا في الشمال الشرقي السوري، وفي مناطق محدَّدة فيه.

من حق الأكراد الحصول على حقوقهم، في إطار سورية موحّدة.

العربي الجديد

 

 

 

 

في الفيدرالية والنقاش الدائر حولها/ بكر صدقي

تزامن الإعلان عن مشروع كيان فيدرالي، في مؤتمر عقده حزب الاتحاد الديمقراطي مع حلفاء له في مدينة الرميلان، مع محاولة ستيفان دي مستورا نقل المفاوضات الجارية في جنيف، بين وفدي النظام الكيماوي والمعارضة، من الشكل إلى المضمون، ومن المناكفات إلى الجوهر، أي، باختصار، إلى البحث في المرحلة الانتقالية ومتطلباتها.

لم يكن مفاجئاً أن النظام والمعارضة اللذين لم يتفقا، طوال السنوات الخمس من الثورة والحرب، ولا يحتمل أن يتفقا في المستقبل القريب، على أي شيء، قد اتفقا على رفض إعلان الفيدرالية، في دلالة مشؤومة على الصفة السالبة للوطنية السورية كما لو كانت هي الوحيدة الممكنة، وهي الوطنية القائمة على رفض الآخر وتطلعاته.

غير أن رفض الفيدرالية لم يقتصر على النظام والمعارضة، بل شمل أيضاً حلفاء لـ»الاتحاد الديمقراطي» في «مجلس سوريا الديمقراطية» كهيثم مناع الذي، للمفارقة، كان السوري الوحيد الذي تحدث عن نسبة مئوية من الأرض السورية تسيطر عليها القوات التابعة لمجلسه المذكور. قد نفهم من هذه المفارقة أن المناع يطالب بحصة في السلطة المركزية تعادل حصته المفترضة من الأرض، في حين اتجه حليفه صالح مسلم إلى خيار تكريس السيطرة على تلك الحصة من الأرض، مقابل القطع مع الدولة المركزية.

وأعلنت الولايات المتحدة رفضها الصريح لـ»الحكم الذاتي» كما أسمته، وظلت إشارة نائب وزير الخارجية الروسي إلى «سوريا فيدرالية»، قبل إعلان الرميلان بفترة، يتيمة ولم يتبعها تشجيع روسي لحليفها مسلم على المضي في خيار الفيدرالية. وبطبيعة الحال كان الرفض الأكثر تشدداً وصخباً من تركيا التي تعتبر «الاتحاد الديمقراطي» منظمة إرهابية، وتخوض حرباً مفتوحة ضد «العمال الكردستاني» والمناطق الكردية جنوب شرق الأناضول، منذ الصيف الماضي. وتشي عودة الدفء إلى العلاقات التركية ـ الإيرانية بتقاسم الدولتين المخاوف ذاتها بخصوص أي كيان كردي محتمل في شمال سوريا وشرقها، بما يذكرنا بالمحور التقليدي (طهران ـ بغداد ـ أنقرة) الذي لا يملك أي قواسم مشتركة بين دوله غير مواجهة أي تطلعات كردية في أي من الدول الثلاث.

وحدهم الكرد تحمسوا لإعلان الرميلان، بوصفه خطوة جديدة نحو الاستقلال في دولة حرموا من قيامها وتمسكوا بالحلم بها طوال قرن مضى. ترى هل من العقلانية، في ظل رفض جماعي سوري ـ إقليمي ـ دولي، أن يتجه كرد سوريا، أو حزب الاتحاد الديمقراطي، إلى خيارات تضعهم في عين العاصفة؟

من المرجح أن الحزب الكردي الذي يعمل تحت المظلة الأوجالانية، ويحرص على خلوِّ اسمه وأسماء المنظمات المتفرعة عنه من صفة «الكردي/الكردية»، ويستلهم من زعيمه الأسير في تركيا فكرة «الأمة الديمقراطية» العابرة للاثنيات والثقافات، يعرف تماماً أن إعلان الفيدرالية سيضعه في مواجهة مع الجميع، دولاً إقليمية ودولية، ومكونات اجتماعية سورية، ونظاماً ومعارضة في سوريا، بل كذلك مع قوى سياسية كردية سورية تناصبه العداء (المجلس الوطني الكردي المشارك في الائتلاف السوري المعارض). وهذا مما يرجح التفسير القائل بأن إعلان الفيدرالية لا يعدو كونه ابتزازاً سياسياً وورقة للمساومة، بهدف إشراك «الاتحاد الديمقراطي» في مفاوضات جنيف، أو في أي ترتيبات محتملة لمستقبل الكيان السوري، ممثلاً عن المكون الكردي. وهذا المطلب يتمتع، كما نعرف، بـ»شعبية» واسعة لدى الروس والأمريكيين والأوروبيين والنظام الكيماوي معاً، كل لأهداف تخصه.

الفترة القادمة ستحكم على هذه القفزة في المجهول: هل سيؤتي الابتزاز أكله فيصبح الاتحاد الديمقراطي طرفاً ثالثاً على طاولة المفاوضات حول مصير سوريا، أم أن خلط الأوراق وتغيير التحالفات الذي نتج عن إعلان الرميلان هو عملية غير قابلة للعكس، ستؤدي إلى عزل الاتحاد الديمقراطي وحرمانه من ثمرات الابتزاز؟

والآن ماذا بشأن تطلع كرد سوريا إلى وضع دستوري أكثر عدالة، من وجهة نظرهم، من التهميش السياسي ـ الثقافي ـ الاجتماعي الذي عاشوه طوال عمر الكيان السوري، وذلك بصرف النظر عن الحسابات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي؟

كان من حسنات إعلان الرميلان أنه وضع المسألة الكردية برمتها على طاولة النقاش الجدي، للمرة الأولى في التاريخ السياسي لسوريا. وعلى رغم أنه من الصعوبة بمكان عزل الموضوع عن الممارسات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي (وتتضمن هذه، فيما تتضمن، حكم دكتاتوري عسكري أحادي في مناطق سيطرة الحزب، واجتياح عسكري لمناطق عربية مجاورة، وتهجيراً قسرياً لسكان قرى عربية، وتحالفاً مع روسيا إبان حربها على الشعب السوري، وتبادل مصالح مع نظام دمشق المجرم…) فمن الحصافة الوطنية استثمار هذه الفرصة في نقاش جدي يبتعد عن التشنج والعداء والاستعداء، ويركز على جوهر المشكلة: هل يمكن للكرد أن يفرضوا نموذج النظام الفيدرالي من طرف واحد؟ وهل يمكن للعرب السوريين أن يرغموا الكرد على العيش في دولة مركزية واحدة؟ أليس الخيار البديل، في الحالتين هو الحرب الأهلية؟ وكيف يتسق زعم المعارضة أنها تعمل على إسقاط النظام للانتقال إلى نظام ديمقراطي، مع خيار قسر جماعة قومية كاملة على «العيش معاً» بقوة السلاح؟

الحلم الكردي بالاستقلال ليس وهماً إيديولوجياً، بل هو رد طبيعي على تهميش مستمر لم ينقطع، وعلى حرب مفتوحة عليهم لم تتوقف، طوال قرن. هناك صعود مطرد في الوعي الذاتي للكرد كجماعة متمايزة، لا يمكن مواجهته بدعاوى ساذجة من نوع أن الحل هو في «دولة ديمقراطية قائمة على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق والدين والجنس». لقد تجاوز التاريخ الواقعي حلولاً طوباوية من هذا النوع. ما كان ممكناً في زمن مضى لم يعد كذلك اليوم، في وقت نشهد فيه أمام أعيننا نهاية الكيان السوري.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

عن الفيديراليّة الكرديّة التي لم تُعلن…/ عهد الهندي

لم يمتلك البيان الصادر عن اجتماع رميلان جرأة إعلان الفيديرالية، بل اكتفى بإعلان نية قيامها أو قيام نظام هجين غير واضح المعالم. فقد نصّ البيان، وبوضوح، على تأسيس هيئة تنظيمية تعمل على «عقد اجتماعي ورؤية قانونية… لهذا النظام [الفيديرالي] في مدة لا تتجاوز ستة أشهر»، ما معناه أن الفيديرالية لم تُعلن بعد.

كما أن البيان يحمل تناقضات: فتارة يؤكد الوحدة السورية، وأن النظام المزمعة إقامته نظام يحرص على علاقة مع «العمق السوري» كونه «جزءاً منه»، وفي موضع آخر يشير إلى إمكان تولّي كيان روجافا الفيديرالي إنشاء العلاقات السياسية والاقتصادية على المستوى الإقليمي والدولي بطريقة تشبه النظم الكونفيديرالية، كالاتحاد الأوروبي مثلاً، فيما النظام الفيديرالي يترك العلاقات الخارجية للحكومة المركزية وليس للحكومات المحلية.

مِن نافلة القول، أنّ هذا الطرح ليس مبنياً على تصورات إدارية علمية لشكل الحكم في سورية المستقبل، بل على تصورات وتطلعات قومية عاطفية للأكراد السوريين، يتبناها طرف سياسي كردي قوي، بالمعنى المناطقي، لكنه يفتقد الديبلوماسية ويستخدم هذا الإعلان للاستهلاك المحلي، وهو ما ترجم بمسيرات شعبية رحبت بـ «الفيديرالية» على رغم أنها لم تعلن بعد! أو ربما كان الأمر ردة فعل غير مدروسة على إقصاء حزب الاتحاد الديموقراطي من جنيف.

لا شك في أن تطلعات الأكراد في المنطقة مشروعة، وأنهم دفعوا الغالي والنفيس لأجل حلمهم ببناء الدولة الكردية، لكن هذا يلقي على عاتقهم مسؤولية أكبر تحتّم عليهم الانتباه الى ماضيهم والتأني في إعلاناتهم المنفردة غير الديبلوماسية، لا سيّما وأنهم اليوم أقوى من ذي قبل، الأمر الذي يفرض عليهم الحفاظ على هذه القوة لضمان حقوقهم في شكل توافقي، وليس عبر تأسيس عداوات محلية وإقليمية تعمل على تبديد هذه القوة.

فالحلم الكردي اليوم في طريقه لأن يتجسد واقعاً، لكن لا يبدو أنه سيكون على الشكل الكلاسيكي الذي يداعب مخيلة الأكراد القومية، أي تأسيس كيان كردي بغطاء فيديرالي. فحدود هذا الكيان تشترك مع تركيا التي لن تتيح فرص الحياة له، ومع كردستان العراق التي على رغم تفوّقها الكمي والنوعي وتجربتها التاريخية وعلاقاتها الجيدة مع تركيا، لم تكن قادرة على تلبية الطموحات الكردية القومية الكلاسيكية، ثم إن لها مِن العداوات مع الكيان الكردي السوري، في بعض المواضع، ما يفوق العداء الذي يكنّه له الجانب التركي.

على المعارضة السورية، من الناحية الأخرى، العمل على احتواء الأكراد وتجنّب دفعهم إلى هذه الإعلانات المنفردة التي قد تكلف المنطقة حروباً أخرى، وعدم التدخل في خياراتهم السياسية، سواء كانت عبر حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي أو المجلس الوطني الكردي. فالمعارضة مطالبة بألاّ تكون مَلكية أكثر من الملوك في مواقفها من الصراع التركي – الكردي. ففي تركيا مثلاً، يجاهر حزب الشعوب الديموقراطي الكردي بعلاقته المباشرة مع حزب العمال الكردستاني، ويصرح بأنه حزب متأثر أيديولوجياً بأفكار عبدالله أوجلان، وعلى رغم ذلك فهو حزب شرعي في تركيا وله 80 عضواً في البرلمان.

والصورة هناك ليست مثالية: فهناك مضايقات واعتقالات في بعض الحالات، إلا أن العلاقة بين حزب الشعوب الأكثر أوجلانية من نظيره الكردي السوري وبين الحكومة التركية تتمتع بسلاسة أكبر من العلاقة بين المعارضة السورية، التي تخشى إغضاب الأتراك، وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية.

أما الفيديرالية وشكل الحكم، فتصورات علينا مناقشتها علانية من دون التسرّع بإعلانها، في وقت لا يزال نظام الأسد محتكراً تمثيل سورية في الأمم المتحدة، أي كيان «الجمهورية العربية السورية»، على رغم العقوبات المفروضة عليه والعلاقات الديبلوماسية المقطوعة بينه وبين العديد مِن الدول.

في النهاية، علينا الابتعاد من شيطنة الفيديرالية وكذلك من المبالغة في تضخيم شأنها. فهي نظام إداري أعطى في بلد مثل أميركا سلطة أكبر للحكومة المركزية بعد أن حل مكان النظام الكونفيديرالي، لكنه أضعف الحكومة المركزية في دول أوروبية كانت تركز السلطة في العواصم.

إن الإجماع السوري مهدد، وأكثر ما يهدده هو الأسد والمنظمات الإرهابية، مثل «داعش» و «النصرة»، وفي ظل هذا التهديد، فإنه إذا كان بحث الفيديرالية وشكل الحكم في سورية ما بعد الأسد يمثّل ضرورة ملحة في شكل إسعافي، فإن إعلانها راهناً يبدو انتحاراً سياسياً بكل مقياس.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

لندَع الأكراد يقررون/ عمر قدور

لماذا لا يبادر أحد من المعارضة السورية إلى طرح الحل الديمقراطي للقضية الكردية في سوريا؟ هكذا، الحل الديمقراطي بلا أية مواربة أو تأتأة، الحل الذي يقضي باستفتاء سكان المناطق ذات الأغلبية الكردية على المصير الذي يختارونه لأنفسهم، والقبول الطوعي السلمي بنتائج الاستفتاء؟

بالطبع ذلك ليس متوقعاً في المدى المنظور، فالجدل الذي رافق الطرح الفيدرالي يعكس جواً من التشنج والاحتقان بين الطرفين يستحيل معه التفكير في ما هو أبعد. لكن، إذا كان الطرح الفيدرالي نفسه يعكس من وجهة النظر العربية، وأيضاً من وجهة نظر نسبة كبيرة من الأكراد، الرغبة في الانفصال، فلماذا لا يذهب النقاش إلى الهدف مباشرة، أي إلى المسكوت عنه في النقاش؟ ألن يكون من الأجدى، في هذه اللحظة التأسيسية، طرح الإشكالات دفعة واحدة؟ أليس من الأفضل، على الجانبين، التخلص من المواربة الموروثة من حقبة القمع والكبت التي عاشها مجمل السوريين أيام النظام؟

لنتجاوز ما هو أخلاقي في المسألة على أهميته، الأخلاقي الذي يتعين في أن الناس بلا استثناء أحرار في تقرير المصير الذي يريدونه لأنفسهم، والأخلاقي الذي يتعين ديمقراطياً بنيل الأغلبية في صناديق الاقتراع. ولنتجاوز فوق ذلك النظر إلى الحدود الجغرافية السورية كمقدّس لا يجوز النيل منه. ففي الواقع لم تستقر الحدود السورية عبر التاريخ، فمنذ القرن التاسع عشر جرى اقتطاع لبنان نهائياً، وفي نهاية ثلاثينات القرن الماضي ضمّت تركيا لواء اسكندرون في اقتراع مشكوك في نزاهته، ثم أخيراً استولت إسرائيل على الجولان ذي الأهمية الاستراتيجية، ومن الوهم التفكير باستعادته حرباً أو سلماً في الأمد المنظور.

عملية القضم تلك التي رافقت الكيان السوري لم يكن لها التأثير الأكبر عليه، فما نهش فيه طوال ما يزيد عن ستة عقود هو العامل الداخلي متمثلاً بالنظام الحالي، ويمكن القول بأن هذا النظام هو أكبر عملية قضم واستيلاء تعرضت لها سوريا المعاصرة. الوصف بحذافيره ينطبق على الجانب الاقتصادي، إذ لا مبرر للحديث اليوم عن غنى أية منطقة بالثروات الطبيعية، وكأن السوريين كانوا متنعمين بخيراتها من قبل، وهم اليوم على وشك فقدانها. إن كان من ثروات فقد كانت ذاهبة طوال الوقت إلى أفراد العصابة الحاكمة، وإن كان من تهميش وإفقار فهو يكاد يكون المشترك الوحيد بين الغالبية الساحقة من السوريين.

إذاً، لنفترض حصول السيناريو الذي يتهيب منه البعض الآن، وهو تقرير غالبية سكان المناطق ذات الأغلبية الكردية حقهم بالانفصال. هذه ليست بالكارثة، حسبما يُراد تصويرها اليوم، بل ربما يكون هذا أفضل الحلول. هو على الأقل أفضل من حالة الاحتراب المستمرة، والتي قد تستمر طويلاً بين الجانبين. وهو أفضل حتى لجهة ما تبقى من سوريا التي لن تبقى رازحة تحت ثقل الاستحقاق الكردي واستطالاته الإقليمية. ولعل تجربة السنوات الخمس الأخيرة تشير إلى ما يمكن أن يحدث في غياب حل جذري، إذ لا أحد كان يتوقع انحياز قوة الأمر الواقع الكردية الحالية إلى صف النظام لسببين، عداء الحزب الأم PKK لتركيا وتحالفه الوثيق مع إيران. بعبارة أخرى، ما لم يكن هناك حل جذري، لن يكون مضموناً في أي وقت بروز قوة كردية لها تحالفاتها الخارجية غير المنسجمة مع الإطار الوطني السوري، وأن تعمل هذه التحالفات على استثمار القضية الكردية وضرب الاستقرار الوطني.

ثم إذا كان طرح الفيدرالية الآن من قبل الأكراد لا يعبّر عن رغبة حقيقية في البقاء ضمن سوريا، بقدر ما يعبّر عن الرضوخ للظروف الدولية التي تمنع قيام الدولة الكردية، فهذه ينبغي ألا تكون مشكلة ما تبقى من السوريين. هي أولاً مشكلة المجتمع الدولي والدول الإقليمية التي تخشى انعكاس مثل هذا الحل عليها. ليس من مصلحة السوريين القبض على كتلة اللهب كرمى لهذه التوازنات، بل من المستحسن رميها في وجه الآخرين وليتحملوا مسؤولياتهم. على صعيد متصل، من مصلحة سوريا في المستقبل إقامة علاقات حسن جوار، ولن يكون من مصلحتها التحول إلى قاعدة خلفية للأكراد في أي بلد مجاور، على نحو ما كان يحدث باستضافة نشاطات حزب PKK، وهذا أمر يصعب ضبطه مستقبلاً بعد امتلاك التنظيم المذكور جيشاً كاملاً لن تستطيع الحكومة المركزية السيطرة عليه أو تسريحه.

الحل الديمقراطي يقتضي تخلي الجانبين عن دعاوى الحق التاريخي، والقبول بالتوزع الديمغرافي الحالي، مع احتساب مهجري الصراع والمجردين من الجنسية، وليكن رسم الحدود متوافقاً مع الواقع لئلا تصبح وقوداً لحروب قادمة. وحتى إذا اختار الأكراد الحل الفيدرالي، كحل نهائي للقضية الكردية في سوريا ضمن استفتاء شفاف، ينبغي ترسيم الحدود بواقعية لئلا يترتب عليها في المستقبل مطالبات ونزاعات مستجدة. من الأفضل، في كل الأحوال، التحسب للمستقبل ونزع الألغام منه على الجانبين. بالطبع، الحل الديمقراطي لا يحقق كافة الأماني لأية فئة، بخاصة الأمنيات التوسعية وأوهام التمدد والعظمة، لكنه الأكثر ديمومة لمجيئه على قاعدة الإرادة الحرة.

ثم، إن طرح الأمور بهذه الجذرية سيكون فرصة الجميع للتفكير في سلبيات العيش المشترك أو فضائله، والموازنة بينهما قبل اتخاذ القرار. هي فرصة للانفصال، مثلما هي فرصة لعقد اجتماعي جديد غير مطعون بالمظلومية، وغير مطعون بحس الوصاية أيضاً. قد يرى البعض في هذا الطرح تمهيداً لتقسيم سوريا كلها على أسس إثنية وطائفية، لكن في الواقع لم تكن هناك يوماً قضية درزية أو قضية علوية، إنما كانت هناك قضية كردية بدلالة انفصال الحياة السياسية الكردية تماماً عن نظيرتها العربية. تجاهل هذه القضية، على غرار ما فعله النظام، يعني عدم إخماد الحرب في سوريا، أما طرح أكثر الحلول “راديكالية” فربما يكون سبيلاً جيداً للاتفاق على حلول منصفة ومستدامة.

المدن

 

 

 

 

وهم الفيدرالية والممكن سورياَ/ عمار ديوب

للكرد حقوقٌ ولا شك، لكن التقسيم ليس منها بالتأكيد. ما يفعله زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، صالح مسلم، يصب في اتجاه الميول الانفصالية، والمفارقة أن كل سياساته تتم ومؤسسات النظام موجودة في أماكن “فيدراليته”، وبعلاقةٍ مميزةٍ مع إيران، وبتوافق مع الأميركان والروس، وبما يعزّز من سيطرته على الكرد والعرب في شمال سورية. وبتأسيس إدارةٍ ذاتيةٍ، وتشكيل مليشيا، ثم قوات سورية الديمقراطية، فإن هذه السياسات اكتملت مع إعلان فيدراليته.

بعد الهدنة وإعلان الفيدرالية، انقلب الموقف الدولي، فرفضت أميركا وروسيا والنظام والمعارضة سياسات صالح مسلم، ولا سيما الفيدرالية والحكم الذاتي، وهناك تنسيق تركي إيراني بعد زيارة رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، طهران، أخيراً، لرفض هذا الموضوع، وربما تنسيق بخصوص المرحلة الانتقالية في سورية. الأخطر في ذلك كله أن صالح مسلم يؤسس لعداوات مستقبلية بين العرب والكرد.

الحقوق الثقافية للكرد، ومنها الجنسية لقسم منهم، وبغض النظر عن سبب عدم التجنيس، حقوق صحيحة، وهناك تمييز قومي ضدهم، وهذا صحيح بدوره، لكن الصحيح كذلك أن كل المنطقة الشرقية كانت تعاني الأمرّين من عدم وجود تنميةٍ، ولا سيما وأنها منطقةٌ غنية بالنفط والغاز والمياه والتربة الخصبة والماشية وسواها.

المظلومية الكردية، واختراع مصطلح كردستان الغربية، والرؤية الشوفينية ضد العرب، وهي بوجه منها ردة فعل لسياسات النظام، لكنها تمأسس ميولاً انفصالية كذلك، أو عدائية ضد بقية السوريين. الإشكال هنا أن أكثرية منطقة شمال سورية عربية، وفيها سريان وتركمان، وفيها مناطق عربية صافية، تقطع بين المناطق التي يدّعى أن أكثريتها كردية، ويحاول حزب الاتحاد الديمقراطي تأسيس فيدراليته، وتحديداً بين رأس العين وعفرين، وهذا ما يمنع تحقيق أي مشروع مستقل، ويحوله إلى مشروع وهمي، ووصفة للاقتتال المستقبلي.

المظلومية الكردية التي تحولت إلى أسطورة الاضطهاد الوحيدة في سورية، وأن كل الكرد مضطهدون، ليس من النظام بل من المعارضة ومن الشعب كذلك، يُراد منها تحقيق حالة من الانفصال الكامل عن العرب، وطرح المساواة الكاملة مع العرب. وبالتالي، وبدلاً من حق المواطنة للجميع، يصبح الحق المطروح هو حق تقرير المصير. لا يستوي الأخير والبقاءَ ضمن سورية موحدة، بل يطرح في إطار التقسيم، أو التمتع الكامل بشمال سورية، وبشكل شبه مستقل عن بقية سورية؛ وهذا غير ممكن، لأسباب ديموغرافية وإقليمية مرفوضة من روسيا وأميركا، وبالتالي، هذا الشطح الكردي هنا، يزرع أوهاماً كثيرة، تؤسس لحروب أهلية مستقبلية.

المشكلة مع باقي السوريين أن القوى السياسية الكردية لم تقف عند مطلب المواطنة وحقوق

“الممكن سورياً لامركزية إدارية، وفقاً للجغرافيا، تسمح بالاستفادة من ثروات سورية، من أجل التنمية” ثقافية مميزة، بل وضعوا قضية مبادئ دستورية، أو فوق دستورية، تنص على أن سورية مؤلفة من قومية أولى وقومية ثانية، وإن كان سليماً حذف كلمة العربية من سورية، فإن اعتبار الكرد قومية ثانية تأسيس لمشكلة حقيقية للمستقبل، وتتعلق حصراً بمشاريع حق تقرير المصير، وهذا ما دفع العرب، نظاماً ومعارضةً، لرفضها، عدا الرفض الكردي لمشروع صالح مسلم.

هناك مشكلة تتعلق بالشعور بالتخاذل، فالكرد أعلنوا مظلوميةً كبيرة، وأن العرب لم يؤازروهم في انتفاضة 2004، والتي جاءت في سياق التحضير الأميركي لغزو سورية حينذاك، لكنها مستمدة، أصلاً، من غياب الحقوق الكردية في سورية، وقتل العشرات، واعتقال مئاتٍ من الأكراد حينها، وهذا الشعور، وبدلاً من أن يشكل رافعةً لتعزيز الصلات العربية الكردية، ولا سيما مع قوى الثورة، فإن الكرد عزّزوا رؤية سياسية منفصلة عن العرب، وتنطلق من الهم القومي، أولاً، ومستغلين الحرب التي أعلنها النظام ضد العرب الثائرين. وقبالة ذلك، بقيت مؤسسات النظام في مناطق سيطرة حزب صالح مسلم، ولاحقاً أعطاهم سلاحاً كثيراً، وفعل الشيء عينه مع داعش، حينما ترك له مستودعات سلاح كاملة. عمّق هذا الوقائع الشرخ الشعبي بين العرب والكرد، واستغلها النظام لتعزيز الشرخ، وكذلك استغلته الجماعات الجهادية. الحصيلة هنا زيادة الفجوة بين القوميتين، ووصل الأمر إلى اعتبار العرب دواعش والكرد ليسوا سوريين، وبالتالي، انفصاليين، وهذا يمنع تأسيس أي صلاتٍ بين الشعبين.

بتطبيق الهدنة، الحرب بين السوريين، ومنها تقدم قوات سورية الديمقراطية بحماية روسية وأميركية توقفت. الوقت الآن، لعملية سياسية تنهي المأساة السورية، ويأتي إعلان الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الفيدرالية لرفض تمثيل حزبه في المفاوضات الجارية، وطبعاً لتقديم أوراقه في أية مفاوضات سرية بخصوص مستقبل سورية. الفيدرالية، وعلى الرغم من أنها تؤسس لعداوات قومية، واحتكاره التمثيل السياسي الكردي، وإجبار بقية الأطراف، ومنها المجلس الوطني الكردي، على إضافة صالح مسلم، إلى أي تفاوض جدي بخصوص سورية.

الممكن كردياً هي حقوق ثقافية من تعليم ونشر وسوى ذلك باللغة الكردية، وحق المواطنة للجميع، والتخلص من أي قرارات ضد الكرد، بما فيها تغيير أسماء القرى وإيجاد حل للعرب المغمورين. أما بخصوص قضايا، كالحكم الذاتي، أو حقوق أكبر كالفيدرالية، أو الجيش الذي ينشئه صالح مسلم، فستكون جزءاً من أعمال البرلمان المقبل في سورية، وضمن آليات الاستفتاء العام، وفي إطار اللامركزية الإدارية.

الممكن سورياً لامركزية إدارية، وفقاً للجغرافيا، تسمح بالاستفادة من ثروات سورية، من أجل التنمية، وتجاوز ما فعلته الحرب الكارثية، وإنهاء المظلومية والعداوات القومية، وتأسيس بنية اقتصادية صناعية، تسمح بتنمية مستدامة.

نعم، لن تعود سورية إلى ما كانت عليه، لكنها ستكون للجميع، وأفضل مما كانت عليه.

العربي الجديد

 

 

 

 

تنويعات على الفيدرالية الكردية/ بشير البكر

استبق حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي نهاية مباحثات جنيف السورية، وأعلن عن إقامة إقليم فيدرالي فوق مساحةٍ تقارب ربع أراضي سورية، وظهر كأنه يسير عكس التيار العام الذي يبدي حرصاً على وحدة هذا البلد. واللافت أكثر من غيره أن الولايات الأميركية، التي تشكل أكبر قوة داعمة للأكراد، حاولت أن تمنع الإعلان، وصدر عنها موقفٌ صريحٌ يقول، إنها لن تعترف بمنطقة حكمٍ ذاتيٍّ تعلنها المجموعات الكردية في سورية. وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، مارك تونر، “كنا واضحين جداً لجهة أننا لن نعترف بمناطق ذات حكم ذاتي في سورية”، وأضاف “هذا أمر ينبغي أن تتم مناقشته، والموافقة عليه، من جميع الأطراف المعنية في جنيف، ثم من الشعب السوري نفسه”.

أراح الموقف الأميركي الأطراف السورية والإقليمية والدولية، لأنه لخص المسألة على نحوٍ وافٍ في ثلاث نقاط. الأولى ليس هناك قرار دولي بتقسيم سورية. والثانية، كل ما يتعلق بتقرير مستقبل سورية مطروح على النقاش في جنيف. والثالثة أن الكلمة النهائية للشعب السوري. وقد لوحظ أن الموقف الأميركي لم يتكفل الرد المسبق على قرار الفيدرالية فقط، بل إنه أفقده أثر الصدمة الذي كان ينتظره الطرف الرئيسي الذي يقف وراءه، أي الأمين العام لحزب الاتحاد الديموقراطي، صالح مسلم، الذي بلع الفشل، وتراجع خطوة إلى الوراء، حين وصف القرار بأنه غير نهائي “ومن لديه نموذج مختلف فليقدمه”.

يستدعي إعلان الفيدرالية عدة ملاحظاتٍ، بغض النظر عن حظوظ النجاح أو الفشل. أولها أن استعجال الإعلان يعكس نياتٍ مبيتة، تتجاوز ما قامت عليه المظلومية الكردية طوال عدة عقود، وصار واضحاً أن حزب صالح مسلم يعمل على إقامة كيان كردي في سورية. واللافت، أخيراً، أن رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، دخل على الخط، وأبدى تأييده الفيدرالية. ومن يدرس مواقف الأطراف الكردية يجد أن اختلافاتها حيال هذه النقطة تكاد تكون هامشية، ولا تتعلق بالجوهر الذي هو ضرورة إقامة كيان كردي. الملاحظة الثانية أن تصريحات مسلم، بعد مؤتمر رميلان، رسمت حدوداً جديدة للكيان، وقد جرى نشر خريطة تضع كامل محافظة الحسكة حتى منطقة الشدادي، بالإضافة إلى محافظة الرقة. وبالتالي، تشمل الفيدرالية الكردية ثروات سورية المائية (الفرات، الخابور، البليخ، الجغجغ) والنفطية والغازية (حقول رميلان والجبسة)، وعلى المعابر مع تركيا، عدا عن أنها تتجاوز الخريطة السابقة التي كانت تستند إلى التاريخ من وجهة نظر.

وتتعلق الملاحظة الثالثة بردود فعل السوريين من ائتلافٍ وشخصيات معارضة، فموقف الائتلاف الذي ندّد بالإعلان، ورفض قراراته، لا يرقى إلى ما تعرّضت له منطقة الحسكة من تطهير عرقيٍّ كرديٍّ منذ سنة تقريباً على يد مليشيات مسلم، ومطلوب منه أن يتحرّك لإيقاف هذا المخطط، من خلال تعزيز صمود أهل الجزيرة العرب في أراضيهم. أما أطروحات بعض المثقفين عن ضرورة الاعتراف بحق الأكراد في تقرير مصيرهم فهي لا تعرف حقيقة الموقف على الأرض، وخصوصاً موجات الهجرة الكردية المتوالية من تركيا والعراق، وكانت مشكلة هؤلاء المهاجرين، خلال العقود الماضية، تنحصر في الجنسية التي تطوّرت، بفعل الأحداث، إلى قضيةٍ وطنية.

سورية اليوم ضعيفة، بفعل الحرب التي شنها النظام ضد الشعب الذي خرج يطالب بالحرية والكرامة، وأول الأطراف التي استغلت حالة الضعف هذه صالح مسلم الذي عوضاً عن أن يشارك بقية السوريين الهم الوطني العام، فهو يستغلّ الوضع، ليؤسس لحربٍ مديدةٍ كرديةٍ عربية، فاليوم، على حد توصيف البارزاني، أمامنا طريقان، إما قبول التعايش وتنازلات مشتركة من الطرفين، أو التضحية بكل شيء. وأخيراً، ما لم ينجح في العراق من مشاريع كردية انفصالية لن ينجح في سورية.

العربي الجديد

 

 

 

دعوة للموضوعية والعقلانية/ علي العبدالله

معظم ردود أفعال المعارضة، السياسية والعسكرية، على إعلان مؤتمر رميلان تبني إقامة فيدرالية شمال سوريا جاءت سلبية ومشككة بأهداف حزب الاتحاد الديمقراطي(الكردي)، الطرف الرئيس في المؤتمر وعرّاب الفكرة، من وراء الخطوة.

لكن ومع تسليمنا بان تبني رأي، أو موقف، حق مشروع لكل إنسان أو جماعة سياسية فانه من غير المفهوم أو المقبول إطلاق مواقف حادة وانتقادات قاسية إلى مكون سياسي سوري ودفعه إلى التمترس خلف موقفه في حين تفرض الضرورة الوطنية التحاور معه والسعي إلى الوصول إلى اتفاق وطني شامل حول تصور لسوريا الجديدة قائم على الاقتناع والرضا.

سمتان رئيستان طبعت ردود الأفعال أولاهما تركيز معظم الانتقادات على الجوانب الإجرائية  (خطوة انفرادية، خطوة تحت ضغط السلاح، فرض أمر واقع… الخ)، وحشر الفدرالية في خانة التقسيم، وثانيتهما إن أكثر الانتقادات قسوة جاءت من ممثلي المجلس الوطني الكردي.

لا شك أن الانتقادات التي وجهت إلى الجوانب الإجرائية في الإعلان صحيحة لكنها ليست مناسبة حيث تستدعي اللحظة السياسية التعاطي مع الإعلان بطريقة مختلفة تبدأ من الإقرار بحق أصحابه في طرحه، من دون أن يعني ذلك التسليم به واعتباره صحيحا، ودعوتهم إلى التريث وإلى حوار وطني شامل وعرض فكرتهم على طاولة الحوار دون تحفظات أو عوائق، دون إدانة أو تخوين، ومن دون تحويلهم إلى أعداء ليس لهم إلا السيف، وتقديم تصورات لمخارج من ساحة الخلاف إلى التوافق أو البحث عن حل وسط لا ينطوي على هدر حقوق أو إجحاف بمكونات، والعمل على تحويله (الحل الوسط) إلى قاسم مشترك يرضي الجميع. فالحصافة والمنطق السياسي يفرضان التعاطي مع كل المكونات السياسية والاجتماعية والقومية والدينية والمذهبية بعقلانية ومن دون تسفيه أو تشهير أو نبذ وعزل، فالجميع في مركب واحد وأي تصرف ارعن أو متهور يقود إلى الإضرار بالجميع وإلحاق الأذى بالبلاد والعباد. وقد كان حرياً بممثلي المجلس الوطني الكردي أن يكونوا عامل تهدئة ورأب صدع والعمل على تقريب وجهات النظر وطرح حلول توفيقية لا ان يصبوا الزيت على النار ويستثمروا الموقف للانتقام من ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي القمعية ضد المجلس الوطني الكردي أو ضد أحزاب فيه.

اذا كان موقف المعارضين العرب من الخطوة يعكس هواجس ومخاوف على الحقوق والمصالح فان سلوك ممثلي المجلس الوطني الكردي يعكس الشقاق القائم على خلفيات حزبية والتعصب للحزب حتى لو جاء على حساب المصالح الوطنية، وهذا ينطبق على ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي دون أدنى شك، فأحزاب المجلس تتبنى الفدرالية وتدين في الوقت ذاته دعوة مؤتمر رميلان لاقامتها، ما يشي بانعدام نضج سياسي وانعدام بيئة تسمح بإقامة فدرالية، فالإرادة والقرار السياسي شرطان لازمان لإقامة فدرالية ولكنهما غير كافيين، وأمامنا تجربة إقليم كردستان العراق التي توفرت لها الإرادة والقرار السياسي لكنها مع ما توافر لها من معطيات: تجانس قومي (أغلبية كردية حاسمة) وتأييد دولي لم تنجح كإقليم موحد بل زادت في تمزق وتشتت القوى السياسية والاجتماعية الكردية، بعد أن كانت أكثر انسجاماً وتلاحماً في مرحلة الصراع مع النظام العراقي، فبالإضافة إلى الخلاف العميق بين اربيل وبغداد يواجه الإقليم حالة تصدع داخلي حيث مازالت الوزارة والمناصب العليا تخضع لمحاصصة حزبية بين حزبي الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني ومازالت قوات البيشمركة، التي من المفروض أن تكون وطنية فوق حزبية، منقسمة ما بين الحزبين المذكورين ووزارة البيشمركة، وكذلك هو حال جهاز المخابرات، أو ما يسمى “مجلس الأمن”، الذي يتألف حصرياً من ضباط من الحزبين السالفي الذكر، حيث يتم إقصاء الأحزاب السياسية الأخرى، ناهيك عن استخدامه ضد المعارضين، وقد زاد من قتامة الصورة غرق الإقليم بمديونية عالية (25 مليار دولار)، رغم استحواذه على كميات كبيرة من النفظ والغاز، وعجزه عن صرف رواتب الموظفين طوال سبعة أشهر، وخروج تظاهرات كبيرة تطالب بصرف الرواتب ومحاربة الفساد(هناك 60,000 عنصر من قوات البيشمركة مجهولو الاسم والرتبة بالنسبة إلى مجلس النواب ووزارة البيشمركة، يتلقون أجورهم من الوزارة كل شهر) وباستقالة الحكومة، ناهيك عن خروج تظاهرات لمسيحيي دهوك عام 2008 للمطالبة بحق الاستقلال في منطقتهم، الأمر الذي عكس تفكك الروابط الاجتماعية في كردستان، وفي عام 2010، للمطالبة بحقوق وطنية ودينية، والدفاع عن حرية العمل السياسي، وتظاهرات الإسلاميين الكرد في دهوك وزاخو في كانون الأول 2011 ضد محلات الخمور، حيث قاموا بإحراق المتاجر التي تبيعها، وفي أربيل ربيع عام 2013 أمام مكتب مجلس النواب حيث أثاروا بلبلة سياسية ودينية في العاصمة، وسقوط ضحايا فيها، هذا في اقليم كردستان العراق فكيف مع فدرالية قائمة على قاعدة  اثنية، مثل التي تبناها مؤتمر رميلان، في منطقة شديدة التنوع والتداخل وغياب اغلبية مؤهلة للعب دور ضابط للعلاقات والاستقرار.

تستدعي الفدرالية نضجاً سياسياً واجتماعياً لا توفره البيئة السورية الراهنة، كما هو حال كل الدول النامية، حيث سيادة ثقافة الهوية والتمسك بحقوق جماعية تمنع قيام مساواة وعدالة وتقود الى تنامي الحساسيات العرقية والمذهبية وسيطرة التوتر والاحتقان وانفجار حروب أهلية، وما يحصل في لبنان ليس ببعيد عنا، وهذا على الضد من ثقافة الحداثة حيث الحقوق للفرد والمساواة بين الأفراد بغض النظر عن العرق والجنس والدين، وحيث البنى السياسية والاجتماعية الناضجة والتي تقوم على الاعتراف بحقوق الآخرين ومصالحهم والعمل على احترامها وحمايتها وعدم المساس بها. فمن دون مؤسسات سياسية قوية وشاملة في آن معا، ومساواة في توزيع السلطات في المؤسسات السياسية والاقتصادية، يتيح لمختلف أطراف الطيف السياسي والثقافي والاقتصادي الشعور بأنّها ممثلة فيها، أي دون دولة مؤسسات وسيادة القانون والدستور، ودون مجتمعٍ مدني قوي، لا يمكن اقامة فدرالية.

المدن

 

 

كانتونات صالح مسلم في سورية/ وليد البني

هل يخدم الحظ طاغية دمشق الى هذا الحد، أم هناك من يخطط لكل ما جرى ويجري، حتى يبقى نظام الأسد متحكّماً بسورية وشعبها، ريثما يتم تدميرها وتشريد شعبها وتفتيت المنطقة؟

ما إن خرج السوريون كاسرين جدار الصمت الذي بناه الطاغية الأب، منذ انقلابه عام 1970، واستمر بقوة العطالة في عهد الوريث حتى عام 2011، وبعد أن أصرّوا على عدم التوقف قبل نيل حريتهم، على الرغم من الرصاص الذي واجه به الطاغية تحركهم السلمي، حتى ظهر شبح القاعدة وداعش، بعد أن أفرج النظام عن عناصر القاعدة ورفاق أبو مصعب الزرقاوي من سجونه، وغضَّ النظر عن تحركاتهم، لتبدأ هذه التنظيمات التكفيرية ارتكاب فظاعاتها والدعوة الى إقامة الخلافة والإمارة، مكفّرة كل من لا يتبعها، وما سببته من رعب لمعظم السوريين بعد مشاهد السبي والرجم والجلد والرؤوس المقطوعة، الأمر الذي استغله الطاغية والمافيا التي يقودها لتحقيق هدفين:

إبعاد سوريين كثيرين عن الثورة، ودفعهم إلى الحياد خوفاً من بديل أسوأ، أو دفع من كان حيادياً إلى تفضيل بقاء الاستبداد والفساد على دموية عقول أتباع دولتي البغدادي والجولاني وظلاميتها. وتخويف بعض الدول الإقليمية والرأي العام الدولي من بديل كارثي، روَّجت آلة النظام وحلفائه الإعلامية، في الداخل والخارج، أنه سيجعل من سورية قاعدة للإرهاب الدولي، وبؤرة ظلامية لزعزعة استقرار المنطقة والعالم، وهو ما نجحت في ترويجه إلى حد كبير.

لم يكد العالم والكثير من السوريين يستوعبون صدمة داعش، ويكتشفون مدى مصلحة النظام وتواطئه في تسهيل وجودها، حتى أخرج لنا الحاوي الحامي للطاغية شبحاً جديداً، متمثلاً بصالح مسلم ومليشياته وكانتوناته ومشروعه التقسيمي لسورية.

“بعد محاولات البغدادي فرض دولته الإسلامية، والجولاني إمارته الإسلامية، وبشار الأسد دولته المافيوية الوراثية، يأتي صالح مسلم ليحاول فرض نظامه الكانتوني”

من المعروف، ومنذ الثمانينيات، أن حزب العمال الكردستاني، وفرعه السوري الاتحاد الديمقراطي، هم حلفاء قديماً وحديثاً للطاغيين، الأب والابن. وقد استطاعت المليشيات التابعة لهما السيطرة على أجزاء من الجزيرة السورية بالقوة، وبدعم واضح ومعلن من النظام في دمشق، بينما شكل هجوم داعش على أهلنا في كوباني، والفظائع التي ارتكبتها هناك، حافزاً لاعتماد التحالف الغربي على هذه المليشيات، لطرد داعش من كوباني، وهزيمتها، بالاستعانة بتغطية جوية غربية، ومساعدة سكان المنطقة الذين كانوا خائفين من داعش وفظائعها.

الآن، وبعد الانسحاب الجزئي الروسي من سورية والضغوط الدولية التي تُمارَس على النظام لتسهيل التوصل إلى حل سياسي، والرغبة الشعبية السورية في الخلاص من الحرب والنظام وداعش معاً، يخرج علينا صالح مسلم بمشروعه التقسيمي، المتمثل في إعلان المناطق التي تسيطر عليها مليشياته في الشمال السوري، فيدرالية من أربعة كانتونات بقيادته، الأمر الذي قد يدفع كثيرين من سكان تلك المناطق إلى التحالف مع النظام، أو حتى داعش، خوفاً من شوفينية هذه المليشيات وتطرفها، واستمرارها في عمليات التطهير العرقي ضد السكان العرب.

لم يتأخر النظام في إعلان رفضه هذا الإعلان، وتقديم نفسه للسوريين، والدول الإقليمية الرافضة فكرة التقسيم، حامياً لوحدة سورية، تماما كما قدم نفسه حامياً للأقليات والدولة العلمانية في وجه داعش والقاعدة.

لا يصدر الرفض السوري الواسع لخطوة مليشيات الاتحاد الديمقراطي عن رفض الحكم اللامركزي، أو حتى النظام الفيدرالي طريقة قد تكون مقبولة من سوريين كثيرين لإدارة الدولة السورية الواحدة، وضمان حقوق جميع مكوناتها، بل هو رفض فكرة الكانتونات العرقية والطائفية التي قام مشروع مسلم على أساسها، ورفض فكرة فرض شكل نظام الدولة السورية بالقوة على السوريين، من دون اتباع الأساليب الديمقراطية لاختيار ما يناسبهم، فبعد محاولات البغدادي فرض دولته الإسلامية، والجولاني إمارته الإسلامية، وبشار الأسد دولته المافيوية الوراثية، يأتي صالح مسلم ليحاول فرض نظامه الكانتوني على السوريين، بقوة السلاح والقهر.

شكل ما قامت به مليشيات مسلم ضربة أخرى للثورة السورية، وصب الماء في طاحونة نظام الطاغية في دمشق، وأساء لفكرة النظام اللامركزي أو الفيدرالي في أذهان السوريين. والخشية أن يتم استغلالها لإحداث فتنة كردية عربية، بعدما نجح نظام الملالي في إيران مع حسن نصر الله والبغدادي والجولاني والرايات السود في إحداث فتنة طائفية، ساهمت في حرف الثورة السورية عن مسارها، وساعدت النظام على البقاء لاستكمال تدمير ما لم يتم تدميره بعد.

السوريون جميعهم مدعوون، اليوم، إلى مزيد من الحذر والوعي بمخاطر ما قامت به هذه المليشيات. وفي الوقت نفسه، رفض أي اقتتال عربي كردي قد يتم تأجيجه واستغلاله من النظام أو الدول ذات المصلحة، والعمل على إنجاز مشروع دستور وطني متوافق عليه، يضمن وحدة سورية والحقوق الفردية والقومية المشروعة لجميع السوريين، وتحديد شكل النظام السياسي المناسب للدولة السورية من أجل طرحه على أي استفتاءات قد تُجرى برعاية الأمم المتحدة، بناءً على خريطة الطريق المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2254، كما على العرب التوقف عن لامبالاتهم تجاه ما يجري في سورية والعراق، لأن عمليات التفتيت قد لا تتوقف داخل حدود البلدين، وقد يكون لإسرائيل، ودول إقليمية، رغبة في تفتيت جميع دول المنطقة على أسس طائفية وعرقية.

العربي الجديد

 

 

 

الاتحاد الديموقراطي الكردي إذ يثير غضب السلطة والمعارضة/ هوشنك أوسي

أثار إعلان حزب «الاتحاد الديموقراطي» (الموالي لـ «العمال الكردستاني») المناطق الكرديّة في سورية إقليماً فيديراليّاً، لغطاً كبيراً، وفتح الباب على مصراعيه أمام نقاشات وسجالات كرديّة – كرديّة، وكرديّة – عربيّة، وعربيّة – عربيّة، بين مؤيّد لها، إلى الحدود القصوى، وردّة فعل تماثلها في الشدّة، وتعاكسها في الاتجاه صدرت من الجانب العربي السوري (معارضة وموالاة)، وبين مؤيّد للخطوة مع التحفّظ على بعض الجوانب والآليات، ومعارض للفكرة في شكل مطلق، ومعارض لها لمجرّد أن الحزب الذي أعلنها هو «الاتحاد الديموقراطي» مع تقديم الأسباب والعلل وموجبات هذا الرفض، وأبرزها أنه ينسّق مع نظام الأسد، ومارس القمع والاستبداد بحق معارضيه ومنتقديه… الخ.

إيجابية خطوة «الاتحاد الديموقراطي» على ما شابها من ارتجال وعدم وضوح الرؤية في آليات إدارة السلطة، وشكل الفيديراليّة التي يقصدها الحزب المذكور، ومع وجود احتمال التراجع عنها، هي في تلك النقاشات والسجالات المذكورة آنفاً، والتي أماطت اللثام عن كم كبير من «التقيّة» التي كان السوريون، نخباً سياسيّة وعامّة، يمارسونها حيال بعضهم البعض. واتضح أن «الواحديّة» التي كانت أبرز شعارات ثورة الحريّة والكرامة؛ «واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد»، لم تكن سوى محاولة قفز كبيرة أو التفاف كبير على الواقع السوري، الشديد التنوّع والتعقيد. وإن هذا التنوّع، مع الشحن والتأليب المتبادل، أفضى إلى حالة من التباين العميق إلى درجة التمزّق الاجتماعي – السياسي على مستويات عديدة. وغالب الظن أن هذا التلف الحاصل في النسيج الاجتماعي، لا يمكن تداركه وتضميده كي يلتئم، إلّا بالدفع نحو تبنّي فكرة الفيديرالية في سورية نحو الأمام.

الحقّ أن حديث الفيديراليّة في سورية، الذي أطلق الروس شرارته، قبيل انسحابهم المفاجئ، كان مرفوضاً، في شكل قاطع، ويحظى بالاتفاق المبرم بين نظام الأسد ومعارضاته المختلفة، لجهة الرفض. ونتيجة التوتير والضخّ الإعلامي من جانب النظام ومعارضته، واشتعال صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الضخّ، باتت الفيديراليّة تُقدّم وكأنّها صنو الانفصال والتقسيم والتمزيق والتفتيت والنيل من وحدة التراب السوري، بعيداً من كل الدلالات اللغويّة والسياسيّة والقانونيّة لمفهوم الفيديراليّة – الاتحاديّة! بحيث غرق في ثرثرات ببغاوئيّة، تتهرّب من مناقشة جوهر الموضوع، والإجابة على السؤال المصيري والوجودي: أليست الفيديراليّة مصلحة سورية كبرى وملحّة، باعتبارها الحل الأمثل للمشاكل والأزمات السوريّة القوميّة منها والإداريّة والمناطقيّة أم لا؟ ولماذا؟!

وإذا كانت حجج حزب «الاتحاد الديموقراطي» في إعلانه مشروعه «الفيديرالي» فيها ما فيها من ركاكة وتخبّط، وغارقة في الاستعراضيّة والخطابات والسرديات الغرائبيّة الجوفاء، أتت حجج المعارضين والمعترضين على الفيديراليّة، أكثر ركاكةً وكشفاً عن الأحقاد والكراهية التي يكنّها أصحابها للكرد وحقوقهم وتاريخهم، والرغبة في حرقهم بجريرة سياسات «الاتحاد الديموقراطي»!

لئلا نسقط في آفة التعميم، تجب الإشارة إلى وجود قلّة قليلة، حاولت مناقشة الموضوع، بعيداً من حلبات الرؤوس الحامية، وشحذ السكاكين والفؤوس لمواجهة المطالبين بالفيديراليّة! في حين انزلق أكاديميون ومثقفون ومفكّرون وساسة في إطلاقهم أحكام القيمة السلبيّة على الأكراد، عبر تبنّي خطاب يحضّ على التخوين والكراهية، وهدر الكرامات والدماء. والغريب في الأمر، أن بعض هؤلاء، يعيش في بلدان فيديراليّة، منذ سنوات، ولا يستطيع إيراد مثل واحد فقط على فشل النظام الفيديرالي، كحجّة وقرينة ضد مطلب الكرد السوريين.

من غير المفهوم والمبرر رفض البعض من الشركاء العرب، مبدأ الفيديراليّة، كمصلحة سوريّة كبرى وملحّة، تضمن وتعزز وحدة الدولة السوريّة، دون تقديم الحجج المنطقيّة المستندة إلى تجارب شعوب وبلدان أخرى! ولا يعني ذلك القبول بفيديراليّة حزب «الاتحاد الديموقراطي»، على ما هي عليه الآن. ولكن من المعيب والغريب، رفض الفيديرالية، فقط لمجرّد أن هذا الحزب هو الذي تبناها وطرحها وفرضها، مستغلاً ظروفاً استثنائيّة معيّنة. كما أنه من المؤسف اتخاذ هذا الحزب كمبرر ومنصّة لرفض فكرة الفدرلة في سورية!

وبالعودة إلى حجج الرافضين، يمكن قول التالي:

1 – غالبية الأنظمة الفيديراليّة في العالم، كانت وليدة حروب وأزمات، باعتبارها حلاً لها، ولم تكن سبباً لنشوب هذه الحروب والأزمات الجديدة.

2 – الكثير من التجارب الفيزيائيّة، الطبيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة…، الناجحة، يكون في البداية، مرتبكاً يشوبه الاعتلال والعيوب والمثالب. وهذان الارتباك والاعتلال، لا يمكن اتخاذهما كحجّة لرفض التجربة من أساسها. ذلك أن تراكم الخبرات والممارسة، يصقّل التجربة ويطوّرها وينمّيها.

3 – فوبيا الفيديراليّة، جعلت أصحابها، ينزلقون إلى اتهام كل مؤيد لها بالخيانة والردّة والكفر..! وهذا السلوك، لا يصدر إلا من أصحاب الوعي العقيدي، الشمولي، المشبع بوهم المركزيّة القوميّة أو الدينيّة أو الطائفيّة والمذهبيّة، وسيادة المركز المطلقة على الأطراف.

موروث الدولة – الأمّة، بنسختيها القوميّة والدينيّة، في الفكر والحراك السياسي والثقافي السوري، الموالي والمعارض، عبّر عن نفسه بشراسة في رفض الفيديراليّة كمشروع حل للأزمة السوريّة، وتخلّى أصحاب هذا الموروث عن تلك «التقيّة» الوطنيّة، ولبوس اللبرلة والنزوع الوطني الديموقراطي، لمصلحة تبنّي خطاب قوموي، شعبوي، استئثاري، ينضحُ تخويناً وكراهية. كذلك، الموالون لحزب «الاتحاد الديموقراطي»، انزلقت بهم حال النشوة إلى درجة تبنّي خطاب استعدائي موتور، في وقت كان أجدى وأولى بهم، التخلّص من هذه النبرة، بغية تنقية الأجواء وتطمين الأطراف الأخرى وكسبها، وسحب البساط من تحت أقدام، أزلام النظام التركي، داخل المعارضة السوريّة.

4 – حال رافضي الفيديراليّة في سورية، كحال رافضيها في العراق من العرب السنّة، الذين صاروا مؤيدين للفيديراليّة فيما بعد، ويطالبون بإقليمهم الفيديرالي – السنّي، ولا يستطيعون تحقيق ذلك، بسبب الممانعة الشيعيّة – السياسيّة الحاكمة، المدعومة من إيران. وظهر للعرب السنّة، أن الفيديراليّة الكرديّة، التي حاربوها، هي التي حمتهم من التوحّش الطائفي الشيعي والسنّي على حدّ سواء، الذي يعصف بالعراق! وبالتالي، سيأتي اليوم الذي يقبل فيه بالفيديرالية الكرديّة في سورية، من كان يرفضها ويحاربها الآن.

5 – طبيعة الأقاليم الفيديراليّة السوريّة، تلزمها بعدم الانفصال عن بعضها البعض. فالإقليم الساحلي، في حاجة إلى الداخل. وإقليم الأكراد في حاجة إلى إقليم حلب الصناعي وإقليم الساحل. وإقليم دمشق، في حاجة إلى الأقاليم الأخرى. إن سورية، بحدودها الحالية، التي يزعم رافضو الفيديرالية بأنهم يقدّسونها، فرضها الاستعمار. وسورية في الأصل، كانت دولة اتحاديّة فيديراليّة مطلع العشرينات (الاتحاد السوري)، إبان الاحتلال الفرنسي! ثم إنه من قال: إن الفيديراليّة لا تقوم على أساس قومي وعرقي؟ أوليست التجربة البلجيكيّة والسويسريّة أكبر دليل على بطلان هذه الحجّة؟!

6 – التعويل على العناد والممانعة التركيين، كالتعويل على ردّ الريح بالغبار. ذلك أن الأتراك، مانعوا الفيديراليّة الكرديّة العراقيّة، منذ أن أعلنها الأكراد من جانب واحد سنة 1992، وتكرّست هذه الفيديراليّة، بعد سقوط نظام صدّام، وصياغة الدستور العراقي. ولم يجد الأتراك أمامهم، إلا الاعتراف وإقامة علاقات سياسيّة واقتصاديّة كبيرة ومهمّة مع الاقليم الكردي العراقي. زد على ذلك، التهويل التركي بأن الفيديراليّة الكرديّة العراقيّة ستؤثر سلباً في تركيا وأمنها ووحدة أراضيها، وسيحرّض كرد تركيا على الانفصال، هذه الحجة – التهويل، منذ 1992 ولغاية 2016، ثبت بطلانها وزيفها. وعليه، محاربة المعارضة السوريّة (او بعضها)، طموحات كرد سورية وتهديدهم بـ «العصا التركيّة»، فيها ما فيها من اللاوطنيّة، والجهل بحقيقة البراغماتيّة التركيّة، المستعدّة للمتاجرة بأمن واستقرار مواطنيها، فكيف بأمن واستقرار مواطنين آخرين. بدليل العلاقات القويّة بين أنقرة وطهران، مع علم الأتراك بمدى دعم إيران لـ «العمال الكردستاني» منذ منتصف الثمانيات وحتّى الآن!

يمكن التماس الأعذار لرافضي الفيديرالية عن جهل أو عدم دراية أو إلمام. ولكن من يعارضها عمداً، عن عِلم، وكرهاً في الأكراد، أقل ما يقال فيهم بأنهم «فلول» أو يتامى الأنظمة والذهنيّات الشموليّة، الذين يصارعون نظام الأسد ليس لتغييره، بل لانتزاع السلطة منه، وممارسة دوره على مكوّنات الشعب السوري، سواء أكانوا في المعارضة أو في السلطة.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

 

الإقليم يضيق بأحلام الكُرد/ إياد الجعفري

تخلو وثيقة “دي مستورا” من أية إشارة لـ “الفيدرالية” المأمولة كردياً في سوريا. وفيما تضمنت الوثيقة ذات الـ 12 بنداً، العديد من الرسائل المطمئنة للكثير من الأطراف السورية، في مقدمتهم العلويون، وأنصار النظام، مروراً بالنازحين والمتضررين من مناوئي الأسد، خلت تلك الوثيقة من أية إشارة مطمئنة للقوى الكردية المطالبة بـ “فدرلة” سوريا.

وهكذا يتكرر التاريخ على ما يبدو، فكما أجهضت تركيا في الثلث الأول من القرن العشرين مساعي تأسيس “دولة كردية”، لم تعترض عليها الدول الكبرى حينها، فرنسا وبريطانيا. تُجهض تركيا، بالتعاون مع كامل الإقليم هذه المرة، الحُلم الكردي، من جديد، وفق ما يبدو.

تخلى الجميع عن الفصيل الكردي الأبرز، “الاتحاد الديمقراطي الكردي”، حينما أعلن الأخير، بستارة واهية من أحزاب وقوى عربية وآشورية وتركمانية، عن “الحكم الذاتي”، من طرف واحد.

حتى أقرب حلفاء الأكراد، هيثم مناع، رفض الإعلان المنفرد للـ “الفيدرالية”. بل حتى أن قدري جميل، الذي يمكن أن يُوصف بربيب روسيا السوري، رفض “الفيدرالية” المطروحة كردياً، رغم التعاطف الروسي الملحوظ مع التطلعات الكردية.

أما إقليمياً، فاصطفت تركيا وإيران، ونظام الأسد، ومعارضته، في صف واحد، يرفض “الفيدرالية”، وأي خطوة تُنذر بتقسيم سوريا.

أما في واشنطن، التي صرح مسؤولوها في العلن، رفضهم للإعلان الكردي، كان النقاش منذ أيام في أروقة الكونغرس الأمريكي، يقوم على معادلة أساسية حرجة، وهي أن الدعم الأمريكي للأكراد يجب ألا يمس بالعلاقات التحالفية مع تركيا.

وفي جلسة لمجلس الشيوخ الأمريكي، منذ أيام، دعم رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي، جوزيف دنفورد، طلبه تمويل قوات “سوريا الديمقراطية” بـ 50 مليون دولار أمريكي، بذريعة مفادها، أن أعداد المقاتلين العرب في صفوف هذه الميليشيا، ارتفع إلى الثلث، في إشارة واضحة إلى مخاوف المشرّعين الأمريكيين حيال التركيبة العِرقية غير المتوازنة لهذه الميليشيا المدعومة أمريكياً.

أما وزير الدفاع الأمريكي، آشتون كارتر، فأكد أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، أن تركيا ستكون شريكاً في تحديد طبيعة دور الأكراد في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، في تأكيد لافت، على أهمية العلاقة مع تركيا في منظور المشرّعين الأمريكيين.

وزاد كارتر من جرعة الطمأنة للمشرّعين الأمريكيين، حينما قال لهم، حسب ما نقلت وكالات، أن  “روسيا لا تستطيع طرح موضوع تأسيس كيان فيدرالي للأكراد في سوريا خلال مفاوضات جنيف، بسبب الدور الأمريكي والتركي في هذه المفاوضات”.

وبالفعل، هذا ما حصل، إذ غابت “الفيدرالية” تماماً عن وثيقة “المبادئ الأساسية” للمفاوضات، التي أعلنها المبعوث الدولي، دي مستورا، منذ يومين، بل على العكس، أكدت الوثيقة، على وحدة وسلامة أراضي سوريا.

هكذا يمكن أن نفهم كيف تنظر أمريكا للدور الكردي بسوريا، فوزير الدفاع الأمريكي اختصره بوصف الـ “الاتحاد الديمقراطي الكردي” على أنها شريك ممتاز للولايات المتحدة في محاربة “داعش”، لكنه أضاف بأن التعاون بين الطرفين يتم في سياق “إدراك الولايات المتحدة لتعقيدات وضع المنظمة بالنسبة لتركيا”.

وقال الوزير الأميركي في شهادة أدلى بها أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي بالعاصمة واشنطن، منذ أيام، “نحن وآخرون في المنطقة، بمن فيهم تركيا، سيكون لدينا دور كبير في جنيف، وسنقرر طبيعة مشاركة الأكراد في الحرب ضد تنظيم الدولة”.

وهكذا، يبدو أن القوة الكردية الأبرز على الساحة السورية، مجرد شريك في الحرب ضد “داعش”، بصورة لا تهدد العلاقة مع تركيا، وفق المنظور الأمريكي.

لا يعني ما سبق أن هذه القوة الكردية، لن تكون شريكاً في رسم معالم مستقبل سوريا، لكن ما سبق يعني ببساطة، أن مستقبل سوريا لن يخضع لترتيبات مسبقة يفرضها الأكراد اليوم، وفق مبدأ “الأمر الواقع”، بل ستخضع لاتفاق الفرقاء السوريين، بصورة لا تتنافى مع مصالح القوى الإقليمية والدولية الكبرى، بالدرجة الأولى، وفي مقدمة هذه الدول، تركيا.

المدن

 

 

 

شمال سورية/ غرب كردستان/ فاطمة ياسين

سحب النظام السوري، في يوليو/تموز عام 2012، قواته من معظم منطقة الجزيرة وكوباني/ عين العرب، بعد أن واجه ضغطاً عسكرياً، في مناطق أخرى من سورية، أكثر أهمية بالنسبة له.. منذ تلك اللحظة، والمنطقة “تدار ذاتياً”، بمعزل عن سلطة النظام المركزية التي تحولت إلى أمر شكلي، لا يقدم ولا يؤخر.

استفاد كرد المنطقة من دعم أميركي وروسي، وواجهوا، بحذرٍ وتوجس، دعوات تركيا إلى إقامة منطقةٍ عازلة، تشكل المنطقة الكردية نفسها القسمَ الأكبر منها. هجوم تنظيم داعش الذي جرى، منتصف العام الماضي، على عين العرب، واجتياحه السريع معظم قراها، حرّك ركود المنطقة، وجعل قوات حماية الشعب الكردية تتحول إلى جيشٍ متماسكٍ أغدق عليه السلاح، حتى من الجو، فتمكّن من استرجاع عين العرب من داعش، ومعها مجموعة القرى المحيطة بها، تلا ذلك هجوم معاكس لوحدات الحماية على مناطق جديدة، وظهرت نياته بعبور الفرات إلى ضفته الغربية حيث جرابلس، رافقه هجوم كردي آخر من ضفة عفرين باتجاه أعزاز، ليكتمل القبض على كامل الحدود التي كانت تفصل سورية عن تركيا.. عند هذه اللحظة، علا صوت المدافع والدبلوماسية التركية، لقطع الجسر الجغرافي الذي ينوي الكرد إقامته، لوصل أقاليم “روج آفا” الكردية الثلاثة.

توقف زحف قوات الحماية الكردية عند ضفة الفرات الشرقية، عندما أدركت أن العبور غير مسموح باتجاه جرابلس، فأعطت الفرصة لمقاتليها أن يأخذوا قسطاً من الراحة، لأنها قرّرت، هذه المرة، بدء مواجهةٍ سياسيةٍ بإعلان فيدرالية إقليم “غرب كردستان”.

لا يغير الإعلان بحد ذاته شيئاً، لأن الحالة المعلنة كانت، في الحقيقة، أمراً واقعاً، منذ أفسح النظام السوري لقوات صالح مسلم المجال لتتسلم زمام المبادرة، قبل ثلاث سنوات، لكن أهمية الإعلان تأتي بعد اللغط الإعلامي الذي دار حول فيدرالية سورية، ولتسجيل نقطة كردية، يمكن الاستفادة منها لاحقاً، وربما لقطع الطريق، بشكل نهائي، على دعوات تركيا إلى إقامة منطقة عازلة، تكون فيها اليد الطولى لها.

لم ترُق الخطوة لأحد، فتمت مواجهتها بالرفض من روسيا وأميركا والنظام الذي وجد فيها تجاوزاً “لدستوره”، كما رفضتها المعارضة، ولكن ذلك كله لم يغير من الواقع شيئاً.

لا يأتي إعلان الفيدرالية، في الوقت الذي تعقد فيه محادثات جنيف، مصادفة، ولا تم عن سابق اتفاق، فقوات صالح مسلم جرى استبعادها من تلك المفاوضات، حيث وجد فيها وفدُ المعارضة الرسمي صنواً للنظام، ورفع في وجهها فيتو تركياً، باعتبارها شقيقاً لحزب العمل الكردستاني. لذلك، أراد صالح مسلم أن يُظهر موقفاً حادّاً بإعلانٍ من هذا النوع، يقول فيه، بطريقة غير مباشرة، إن ما نسعى إليه تحقق عملياً، وإن حضور المفاوضات مجرد بروتوكول، قد لا يلزم قوات الحماية، مع حرصه على نغمة إعلاميةٍ، تصر على أن العلاقة بين وحدات الحماية وحزب العمال غير موجودة، من دون إعطاء تفسيرٍ لوجود صورة عبد الله أوجلان في مكتب صالح مسلم، وعلى أذرع مقاتلي الوحدات.

اكتسبت وحدات الحماية سمعتها “الجيدة” من إدارتها الفعالة المتماسكة، والبعيدة عن التطرف الديني لمناطقها، ومن انتصاراتها على قوات تنظيم الدولة، وهي مؤهلة، الآن، لتكمل مشروعاً جغرافياً ناجحاً، بدأ منذ إعلان المنطقة الآمنة في شمال العراق، وتحول إلى فيدرالية تتمتع بلامركزية كبيرة.. تبقى الحاجة إلى إثباتٍ فعليٍّ، لعدم ارتباط وحدات الحماية بحزب العمال الذي يرتكب جرائم انتحارية بالأسلوب نفسه الذي يستخدمه تنظيم داعش، وربما عليه توضيح العلاقة الإثنية والدينية التي تربطه في المنطقة على ضوء الفيدرالية التي أعلنها. والمنطقة، كما نعلم، خزان مليء بالإثنيات والأعراق والأديان، وضبطُها بحاجة إلى “قوة” يملكها الكرد، لكن استخدام هذه القوة داخلياً سيعيد كل شيء إلى نقطة البداية. وعندها، ربما نكون بحاجةٍ إلى فيدرالية داخل الفيدرالية، لنتمكّن من ضبط كل مكونات “غرب كردستان”.

العربي الجديد

 

 

 

 

الإعلان الكردي في سورية وعبرة “مهاباد”/ ريما الرفاعي

في غضون مباحثات جنيف بين النظام السوري والمعارضة، اختار الحزب الديمقراطي الكردي، عبر ما يسمى المجلس التأسيسي لـ “روج آفا” (غربي كردستان) الرد على عدم دعوته للاجتماع، بإعلان الانتقال من “الإدارات الذاتية” إلى النظام الاتحادي في مناطق سيطرة قواته شمال سورية، إثر اجتماع عقد في بلدة رميلان في ريف الحسكة. وتعني هذه الخطوة توسيع نظام الإدارة الذاتية المطبق بالفعل منذ أربع سنوات، والذي يدّعي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أنه لن يمثل الأكراد وحدهم، بل مختلف المجموعات العرقية، ويعتبر، من وجهة نظره، مقدمة لاعتماد نظامٍ مماثلٍ في كل الأراضي السورية بعد نهاية الحرب. ولاقى هذا الأمر رفضا من النظام والمعارضة، ومن القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك واشنطن التي قالت إنها “لن تعترف بأي نوع لمناطق حكم ذاتي، أو شبه مستقلة في سورية”، وموسكو التي قال نائب وزير خارجيتها، ميخائيل بوغدانوف، إنه لا يمكن لأكراد سورية إقامة نظام حكم فيدرالي بشكل أحادي.

تبرز هذه الخطوة الدور المتزايد الذي يلعبه الاكراد في الأزمه السورية، عامل تعقيد إضافي لهذه الأزمه التي باتت ساحة صراع وتجارب لقوى كثيرة إقليمية ودولية. وعلى الرغم من أن القوى السياسية الكردية في سورية ليست جسماً واحداً، وثمة تباين في تشخيصها “المسألة الكردية” في سورية، وسبل التعامل معها، إلا أن معطيات عدة تفيد بأن الكرد في سورية إلى حد كبير، اختطف إرادتهم الحزب الديمقراطي الكردي بزعامة صالح مسلم، والذي يعتبر امتداداً سياسياً، وربما عسكرياً لحزب العمال الكردستاني في تركيا، برئاسة عبدلله أوجلان. يدلل على ذلك أن لهذا الحزب الوجود العسكري الأقوى في “المناطق الكردية”، عبر أجنحته المختلفة، مثل وحدات حماية الشعب، ووحدات حماية المرأة، فضلاً عما يسمى قوات سورية الديمقراطية التي تشكلت، أخيراً، بدعم من الولايات المتحدة، لإخراج هذا الحزب من إطاره الكردي الشوفيني، ومحاولة تجميله بوجود رمزي لقوى أخرى، عربية وسريانية وآشورية… إلخ.

ومنذ انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، اتخذت القوى السياسية الكردية موقف الحذر، على الرغم من محاولاتٍ متكرّرة من النشطاء وقوى المعارضة، لجلبها إلى صف الثورة ضد النظام الذي طالما اشتكت من جوْره وسلبه حقوق الأكراد، لكنها فضلت، على الرغم من ذلك، إمساك العصا من المنتصف، وحاولت ابتزاز الجانبين معاً، على أمل تحقيق مكاسب مرحلية من النظام، مثل المرسوم الذي صدر، في الأشهر الأولى للثورة، بشأن منح الجنسية لأكرادٍ حرموا منها نتيجة إحصاء عام 1962، بينما وضعت هذه القوى قدماً أخرى مع المعارضة، على أمل أن تكون شريكاً فاعلاً معها، لرسم ملامح سورية المستقبل في حال سقط النظام، ورهنت زيادة تعاونها مع المعارضة، باعتراف الأخيرة بشكل واضح “بحقوق الأكراد التاريخية”، ومنها قضايا إشكالية عديدة، مثل تغيير اسم الدولة وعلمها ودستورها، وهو ما لم يكن في وسع المعارضة تقديمه، خصوصاً في تلك المرحلة المبكرة.

“أي دويلة كردية قد تغري الفوضى السورية الحالية بالإعلان عنها لن يكون مصيرها أفضل من مصير جمهورية “مهاباد” الكردية التي أعلنت في منتصف أربعينات القرن الماضي”

ومع انكفاء المظاهرات السلمية، حيث رفعت شعارات الإخاء العربي الكردي والدولة الديمقراطية التعددية التي تستوعب جميع مواطنيها، وبروز العمل المسلح الذي استند إلى خلفياتٍ متعددة إسلامية وعشائرية ومناطقية، بدأت تنمو بشكل أوضح التطلعات القومية الكردية، محاولة الإفادة من الظروف الصعبة للمعارضة والنظام معاً، ومن التناقضات الدولية والإقليمية في المسألة السورية.

ومن الواضح أن الصراع بين القوى الكردية التي تنادي بـ “الانتماء السوري”، وتحاول حل “المشكلة الكردية” في الإطار السوري عبر منح المواطنين الأكراد حقوق المواطنة الكاملة، مثل التجنيس والاعتراف بهم قومية ثانية في البلاد، والاعتراف بلغتهم وثقافتهم، وتلك التي تنظر إلى أكراد سورية، جزءاً من شعب كردستان الموزع في أربع دول، حسم فيما يبدو لصالح الخط “الأوجلاني” الذي فرضه بقوة السلاح الحزب الديمقراطي، بقيادة صالح مسلم، وتمثل أولاً في إقامة “إدارات ذاتية للحكم الديمقراطي” في التجمعات الكردية الثلاثة الرئيسية، الجزيرة وعين العرب (كوباني) وعفرين، وصولاً إلى إعلان النظام الاتحادي. لكن، ما لم يحسم حتى الآن، وما يحاول هذا الحزب فرضه بالقوة، كما يبدو، هو تحقيق التواصل الجغرافي المقطوع حالياً بين هذه التجمعات، بالاستيلاء على الأراضي والبلدات العربية والتركمانية الفاصلة بينها.

ولعل أكبر خدمةٍ أسديت لـ “المشروع الكردي” في سورية، حتى الآن، ظهور ما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، والذي يحاول الحزب الديمقراطي الكردي، بذريعة محاربته، ترسيم حدود الكيان الكردي المنشود، بدعمٍ شبه مفتوح من الولايات المتحدة، على الرغم من الاعتراضات التركية المتكرّرة، ومن ثم دعم روسيا، ربما نكايةً بهذه الاعتراضات، فضلاً عن الجانب الوظيفي لقوات الحزب الديمقراطي، خدمة للنظام السوري الذي صرّح كبار المسؤولين فيه أن مقاتليه يتدربون وينسقون مع الجيش النظامي.

ولا يخفي أكرادٌ كثيرون قلقهم من أن جميع الأطراف التي دعمتهم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا والنظام السوري، قد تخذلهم لاحقاً، حالما ينتهي دورهم المرحلي، ووفقاً للتفاهمات الدولية والإقليمية الجديدة. وعندها سيكون الأكراد وحيدين في مواجهة جيرانهم من العرب والتركمان، فضلاً عن الأتراك المغلولة أيديهم حالياً، بسبب الخلافات مع إدارة الرئيس باراك أوباما.

وفي غمرة “انتصاراتهم” المصطنعة بفضل عوامل مؤقتة ومتبدلة، يجدر بالأكراد أن يتذكّروا أيضاً أن “المظلومية التاريخية” التي نمت وترعرعت لديهم، في ظل حكم “البعث” المديد في سورية، كانت جزءاً من العنف والقهر الذي مارسه الحزب، ومن ثم النظام الأسدي، ضد جميع مكونات الشعب السوري، ولم يخص به الكرد وحدهم، وأن خلاصهم يرتبط بخلاص جميع السوريين من هذا النظام، وعليهم أن يتحلوا بالصبر والوعي التاريخي، ولا يصغوا كثيراً لمن يخوفهم من حكم الإسلاميين بعد نظام الأسد، وأنه لن يقبل بقيام دولة تعددية ديمقراطية تحترم فيها حقوق الأقليات، لأن هذا، ببساطة، مطلب الثورة السورية منذ قيامها، ولا يخص الأكراد وحدهم.

وعليهم أن يتذكّروا، أخيراً، أن الدول الكبرى لا تعبأ بمصير الأكراد، بغض النظر عن الخدمات التي قد يقدمونها لها في الوقت الحاضر. وأي دويلة كردية قد تغري الفوضى السورية الحالية بالإعلان عنها لن يكون مصيرها أفضل من مصير جمهورية “مهاباد” الكردية التي أعلنت في منتصف أربعينات القرن الماضي، بقيادة قاضي محمد، ولم تعمر أكثر من عام، بعد أن تخلت روسيا عنها في مقابل حصولها على الغاز الإيراني.

العربي الجديد

 

 

 

 

عن «شيطان» اسمه اللامركزية أو الحكم الذاتي/ محمد مشموشي

ليست اللامركزية، أو الفيديرالية، أو الكونفيديرالية، أو حتى الحكم الذاتي شراً يقتضي إبعاده والابتعاد عنه في كل حال. الشيطان هنا يكمن فقط في العصبوية الأحادية الانعزالية، عرقية كانت أو دينية أو طائفية، التي تدفع في هذا الاتجاه، كما في الظروف السياسية والأمنية (فضلاً عن الإقليمية والدولية) التي تتم فيها أو تجري الدعوة لها. فأنجح الأنظمة في العالم، أو أقلها سوءاً على الأقل، هي التي تقوم على حد ما من اللامركزية أو حتى الفيديرالية، بغض النظر عن تجانس المجتمعات أو تنوعها عرقياً ودينياً ولون بشرة. كما ليس جديداً القول، في ما يعنينا تحديداً، أن فشل الأنظمة هو المسؤول أكثر من أي شيء آخر عما تعاني منه المنطقة العربية من انقسام إثني وطائفي ومذهبي في المرحلة الحالية.

مناسبة الكلام ما رددته الولايات المتحدة وروسيا في المدة الأخيرة، تارة تحت عنوان التقسيم باعتباره «الحل الوحيد الممكن» للحرب في سورية بعد أن بلغ تقاسم الأرض فيها ما بلغه من كانتونات صافية إثنياً وطائفياً ومذهبياً، وتارة أخرى باسم التباعد السائد بين مكونات الشعب ودخولها (اختياراً أو قسراً) حروباً أهلية ذهب ضحيتها مئات الآلاف من ناحية، وأنتجت فرزاً سكانياً في الداخل وإلى بلدان العالم في الخارج على حد سواء من ناحية ثانية.

ليس ذلك فقط، بل إن إحدى شرائح هذا الشعب (الأكراد، أو بعض أحزابهم) ذهبت، ومن جانب واحد، إلى إعلان ما وصفته بـ»حكم ذاتي» فيديرالي في المناطق التي أمكن للحزب الأقوى تسليحاً بين أحزابها (حزب الاتحاد الديموقراطي) أن يسيطر عليها في خلال الأعوام الـ5 الماضية. ومع أن أحداً في سورية، أو في الخارج، لم يؤيد الخطوة الكردية هذه لا علناً ولا حتى سراً، فإن أحداً في الآن ذاته لم يعتبرها انفصالاً عن الوطن الأم، وبالتالي تقسيماً له، لا سيما أنها تفترض للشريحة الكردية هذه ثلاثة أجزاء من الأرض متباعدة عن بعضها بحيث لا يربط أحدها بالآخر رابط جغرافي، فضلاً عن أنها ليست صافية إثنياً ولا دينياً بل تحتوي على أقليات عرقية وطائفية ومذهبية مختلفة. في أي حال، لا بد من القول إن ما تشهده شعوب المنطقة حالياً، من انقسام عمودي وأفقي، لم تشهد مثله في أية مرحلة من تاريخها. وعودة بالذاكرة إلى ما كانت عليه الشعوب هذه من وحدة موقف، أو حتى تمازج واندماج اجتماعيين، في ماض لم يمر عليه الزمن، ينبغي الاعتراف بالحقائق التالية:

أولاً، وقوف المسلمين، وإن مع بعض الاستثناءات، جنباً إلى جنب مع المسيحيين في وجه الحكم العثماني «المسلم» شكلاً وشعاراً، وما عرف في حينه بمحاولة تتريك المنطقة وشعوبها.

ثانياً، وقوف المسيحيين كذلك إلى جانب المسلمين ضد الانتدابين الفرنسي والإنكليزي «المسيحيين» وصولاً إلى استقلال بلدان المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية.

ثالثاً، تعايش المسلمين والمسيحيين واليهود (قبل قيام إسرائيل) في هذه البلدان، وإن مع بعض الشكوى التي كانت في أسبابها قبلية وعشائرية أكثر من أي شيء آخر.

لم يكن الاندماج الاجتماعي بين الطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل في أحسن حال، إلا أنه لم يكن في المقابل ولا في أي يوم بالسوء الذي يبدو عليه الآن. وفي بلدان محددة، كلبنان، لم يكن ممكناً إنشاء دولة المواطنة على حساب المحاصّة الطائفية، أو حتى الديموقراطية التوافقية، التي شكلت تعويضاً عن المخاوف المتبادلة من تراجع «الاستثناءات» في الحالتين العثمانية والفرنسية، لكن ما سبق قيام إسرائيل على حدوده، وبالتالي بدء المقاومة الفلسطينية، كان بالنسبة له عصراً يمكن أن يوصف بأنه ذهبي إلى حد كبير. لم يكن لبنان يومها نموذجاً للعيش الواحد، ولا للحداثة بمعانيها آنذاك، إلا أنه كان على طريقهما من دون شك… لا سيما في ما يتعلق بالحريات الفردية والعمل الحزبي والنهضة التعليمية والإبداع الفكري، فضلاً عن المبادرات الاقتصادية والاجتماعية.

وفي البلدان العربية الأخرى، على تفاوت تعليم أبنائها وتقدم أو تخلف أنظمتها، لم تكن الحال مختلفة كثيراً على مستوى العيش بين مكوناتها، على رغم تمسكها التقليدي بالدين وكون معظمها ينتمي إلى الدين الإسلامي. ما الذي حدث منذ النصف الثاني من القرن العشرين وأدى، في ما أدى، إلى ما نحن عليه الآن؟.

ليس من المبالغة اعتبار أن أنظمة الحكم التي استولت على بلدان المنطقة، بالقوة المسلحة والبلاغ الرقم 1 وباسم التقدم ومحاربة الرجعية من جهة، وبادعاء السعي لتحرير فلسطين وأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» من جهة ثانية، وتحت شعارات الحرية والوحدة والاشتراكية من جهة ثالثة، هي التي تتحمل المسؤولية الكبرى عما آلت إليه الأمور… من المظلومية لدى البعض، إلى الشعور بالتهميش لدى البعض الآخر، إلى بدء الكلام على الأقليات والأكثرية، إلى عودة الجميع تقريباً عملياً إلى مرتكزاته العرقية والدينية، وحتى المذهبية بعد الثورة الشيعية في إيران.

وغني عن القول إن هذه الحال هي التي تجعل نظريات مثل اللامركزية الإدارية أو الفيديرالية أو حتى الحكم الذاتي، وصولاً في بعض الحالات إلى التقسيم الكامل والنهائي، تجد قبولاً لدى أعراق أو أديان أو طوائف معينة.

لكن مهلاً مع ذلك كله!. هل جاءكم خبر الحكم الذاتي في كردستان العراق، وما يشهده منذ آب (أغسطس) 2015 حتى الآن، حيث يتمسك رئيسه مسعود بارزاني بمنصبه رافضاً إجراء انتخابات رئاسية كما ينص الدستور، ومعطلاً بالتالي أحد أسس الإقليم الكردي وما يسمى النظام الفيديرالي في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين الديكتاتوري؟.

وهل هي الفيديرالية والحكم الذاتي، أو حتى حقوق الإثنيات والطوائف والمذاهب، أم أنها الديكتاتورية مجدداً تحت مثل هذه الشعارات؟.

الحال، أن أنظمة الحكم هي الشيطان الأكبر في المنطقة. كانت كذلك، وتبقى كما تدل تجربة إقليم كردستان، سواء كان اسمها أنظمة وحدوية عابرة للحدود أو فيديرالية أو ما شابه. والقضية تبدأ عملياً من العصبوية الإثنية أو الدينية أو المذهبية التي تثيرها القوى الحاكمة ويتلاعب بها خصومها أكثر من أي شيء آخر.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

فيديرالية الأكراد ومسؤولية المعارضة/ إيلي القصيفي

لم تبقَ جهة في سوريا إلا ورفضت إعلان الأكراد قيام “النظام الفيديرالي في منطقة روج آفا (غرب كردستان أو كردستان سوريا) في الشمال السوري”. ناهيك بأنّ الأعلان هذا لم يحظَ بدعم أي دولة في العالم، بما في ذلك روسيا التي كان نائب وزير خارجيتها قد أمل أن “يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية”. وإن كان الرفض الروسي وكذلك الأميركي لخطوة الأكراد رفضاً لـ”أحاديتها” لا لمبدئها.

لكنّ الحكم على خطوة أكراد سوريا وتفسيرها بإظهار الرفض الذي جوبهت به غير كافٍ. إذ من البديهي أن يكون هؤلاء مدركين أنّ خطوتهم هذه لن تلقى استحساناً عند أحد في هذه اللحظة بالذات، لا محلياً ولا اقليمياً ولا دولياً.  فغالب الظن أنّ الأكراد “حسبوها ذاتياً”، بمعنى أنّ هذه اللحظة مؤاتية لهم لإعلان “النظام الفيديرالي”، لا بل هي اللحظة الأنسب على الإطلاق، فإن فوّتوها لن يحصلوا على فرصة ثانية أبداً. فهم لم يعلنوا خطوتهم لتنفيذها بحذافيرها في وقت  تخضع مناطقهم أصلاً لـ”الحكم الذاتي”، وفي حين لا يمكن لأي كان تصديق أن خطوة كهذه يمكن إعلانها من طرف واحد. إنما هم أعلنوها لسببين، الأول أنها “خطوة تفاوضية” بعد استبعادهم من مفاوضات جنيف، ثانياً أنهم في لحظة انعقاد هذه المفاوضات أرادوا القول إنّ “سوريا القديمة” انتهت ولا يمكن العودة إليها تحت أي شكل من الأشكال. أي أنّ الأكراد أرادوا أن يشاركوا في المفاوضات عن بعد من خلال التأثير في مساراتها ومضمونها. ويمكن القول إنهم نجحوا في ذلك، إذ جعلوا الحديث عن “لامركزية النظام الجديد” بنداً أساسياً في أروقة المفاوضات، بعد أن كان النقاش حول هذه النقطة مؤجلاً إلى حد ما. وها هو دي مستورا يضمّن أسئلته في شأن “الانتقال السياسي”، أسئلة عن حدود الأقاليم و”ما إذا كانت سياسية ام إدارية في سورية الجديدة”! وهذا ما يريده الأكراد في المرحلة الراهنة، أي الاعتراف الضمني من قبل الجميع بأن النظام المركزي بنسخته البعثية “الانصهارية” ذهب إلى غير رجعة، وإن كان لكل طرف رؤيته للنظام اللامركزي الذي سيخلفه.

من هنا يمكن الاعتبار أنّ طرح أكراد الشمال السوري الآنف الذكر هو طرح أولّي قابل للتفاوض، وهو ما أشّر إليه أكثر من متحدّث باسمهم. وبالتالي لا ينفع كثيراً التوقف عند الالتباسات التي تضمنها اقتراحهم لجهة تأكيدهم قيام الفيديرالية على أساس المكونات، أو لجهة حديثهم تارة عن “شعوب سورية” وتارة أخرى عن “الشعب”، أو حديثهم عن “نموذج الأمة الديموقراطية، والفيديرالية الديموقراطية”، وكلها أمور حمّالة أوجه وتحتاج إلى تفسير. فالأساس هو أن النقاش حول اللامركزية انطلق، وهو نقاش لا يمكن للأكراد وحدهم تحديد عناوينه كالحديث عن فيديرالية المكونات، وهو أمر صعب التحقّق لا بل مستحيل في سوريا، وينذر بصراعات دموية مفتوحة. فالثابت الوحيد الذي يمكن الانطلاق منه هو أنّ “الدولة القومية” المركزية باتت منعدمة القابلية في سوريا. أما معايير النظام الجديد فخاضعة للتفاوض بكليتها، والأكراد سيكونون جزءاً من هذه العملية عاجلاً أو آجلاً وبغض النظر عن طبيعة مشاركتهم فيها.

ثمة نقطة أخرى أثارتها خطوة الأكراد، وهي تأكيدها أنّ الصراع في سوريا لا يمكن أن يختصر بثنائية النظام والمعارضة أو بعلاقته الجدلية مع الصراع الاقليمي السني الشيعي، إذ أنّ إثارة الأكراد لأزمتهم التاريخية لا بل الوجودية بهذه “الحدّية”، تشير إلى بعد آخر من الأزمة السورية، وهو سؤال التعددية الاجتماعية والسياسية وكيفية إدارتها وتنظميها في سوريا المستقبل. وهذا لم تتلقفه المعارضة السورية ولم تأخذه على محمل الجد حتى الآن، بحيث يمكن اعتبار الخطوة الكردية رسالة  إليها أولاً. فصحيح أن همّها طيلة سنوات الأزمة كان اسقاط النظام، لكن هذا غير كافٍ إن لم يقترن بطمأنة الخصوصيات السورية واستيعابها في خطاب يستوعب السوريين جميعاً، وفي مقدمهم المكون الكردي، وهذا ما لم يحصل. وقد كان لافتاً اتفاق النظام والمعارضة على رفض خطوة الأكراد، حتى وصل الأمر بـ70 فصيلاً معارضاً إلى حد تهديد الأكراد بالقوة العسكرية. طبعاً هذا ليس لسان المعارضة جميعاً، لكنّه سبب كافٍ لتنبّه المعارضة إلى مسألة التعددية السورية وإيلائها الأهمية اللازمة، إذا كان الهدف الوصول إلى حل مستدام للأزمة لا حل مرحلي على الطريقة اللبنانية. فاتفاق الطائف وضع حداً للحرب لكنّه لم يعالج الأزمة اللبنانية معالجة مستدامة، وأي “انتقال سياسي” في سوريا يكون هدفه وقف الحرب وتغيير رأس النظام فحسب، لن يؤدي إلى استقرار متين في سوريا. بهذا المعنى يجب أن تشكّل خطوة الأكراد إنذاراً وتحدياً أساسياً للمعارضة للبحث الجدي في مستقبل سوريا السياسي والإداري، وتقديم تصور للنظام الجديد يراعي مقتضيات التعددية الإجتماعية والسياسية للمجتمع السوري. وهذا أمر صعب ويحتاج إلى جهد جبّار، خصوصاً في ظل التحديات التي تواجه المعارضة سواء من “داعش” أو النظام. لكنّ هذا جهد لا بد منه إلا إذا كان هدف المعارضة الوصول إلى السلطة لا بناء سوريا جديدة خالية من موروثات “النظام القديم”. فهل يتخلّص بعض المعارضة من “بعثيته”؟

المدن

 

 

 

 

مستقبل سوريا ووحدتها بين “لامركزية” و”فيدرالية”/ عبد الوهاب بدرخان

يتوزّع الأكراد على أربع دول، فبعد الإقليم العراقي الذي يستعد للاستقلال، انفرد قسمٌ من أكراد سوريا بإعلان «فيدرالية روج آفا» حتى قبل أن يصبح لديهم إقليم معترف به، وقد تصبح الطريق ممهّدة لإقليم تركي وآخر إيراني. ورغم أن السيناريوين العراقي والسوري يتشابهان، ولو بمقاربة مختلفة، إلا أن ظروف التجربتين قد لا تفضي إلى النتيجة نفسها. فما كان لأكراد العراق من وجود على الأرض ومحاربة مباشرة للنظام وانتزاع للحقوق وممارستها وتنظيم للموارد وللحياة العامة، لم يكن متوفّراً لأكراد سوريا. وثمة فارق مهم يكمن في أن أكراد العراق كانوا جزءاً من المعارضة، التي عملت على الإطاحة بالنظام السابق وتفاوضوا معها على «فيدرالية» إقليمهم وتوصلوا إلى إثباتها في الدستور، في حين أن أكراد سوريا ظلّوا خارج إطار المعارضة، وحافظوا على علاقة وثيقة مع النظام ومخابراته، كما أقاموا علاقة مع إيران، وأخيراً تكشّف دعمٌ روسي خاص لهم بالتزامن مع تلقيهم السلاح والإسناد الجوي من الولايات المتحدة لقاء محاربتهم تنظيم «داعش».

من كل المناطق والفصائل المقاتلة في سوريا بدت المنطقة الكردية، وكأنها ملتقى القوى الرئيسة الخارجية المتدخلة، الولايات المتحدة وروسيا وإيران، ومعها نظام دمشق، وسط غضب تركيا وتوترها، واستياء من جانب الدول التي تدعم المعارضة. ف «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وهو الفرع السوري ل «حزب العمال الكردستاني» المناوئ للحكم التركي، وجد في انتشار «داعش» على تخوم مناطق سيطرته فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وما لبثت أن تأكّدت عندما بادر التنظيم إلى مهاجمة عين العرب/ كوباني أواخر 2014 وانبرت «وحدات حماية الشعب»، وهي مليشيا «حزب الاتحاد»، لمواجهته.

عمل هذا الحزب مع الأميركيين، استغلّهم للتسلّح والتموّن والتموّل، وكذلك لتجسيد أجندته القومية، واستغلّوه لحاجتهم إلى قوات على الأرض لمحاربة «داعش» غير مبالين بتعاونه المستمر مع أجهزة نظام بشار الأسد، ولا بتنسيقه المستمر مع الإيرانيين الذين يدعمون الحزب الأم (العمال الكردستاني) لمناكفة تركيا. وقبل التدخّل الروسي كان ممثلو «حزب الاتحاد» بين من حرصت موسكو على دعوتهم إلى الملتقيات التي نظّمتها لما سمّتها «معارضة»، وبعد التدخّل أصبح هذا الحزب في سياق مصالح موسكو في سوريا بل في صلبها، ولعلها هي التي أقنعته، تمويهاً لطابعه الكردي البحت، بالتقارب مع «قوى سوريا الديموقراطية»، وهي تتشكّل من أفراد ومجموعات متنوّعة الهويّات يحظون أيضاً بقبولٍ من الأميركيين، وكذلك من النظام والإيرانيين.

ألّحت موسكو لضمّ «حزب الاتحاد» و«قوى سوريا الديموقراطية» إلى الكيان الموحّد للمعارضة الذي انبثقت من مؤتمر الرياض في النصف الأول من ديسمبر 2015، ولا تزال تصرّ، رغم أن أكثر من مسؤول قيادي في هذا الحزب أقرّ علناً باستمرار التعامل مع النظام، ما يعني عملياً أنه لا ينتمي إلى المعارضة، وليس مستعدّاً بالتالي للرضوخ لاستراتيجيتها التفاوضية أو لتبني مطالبها، بل إن المعارضة طالبت بضمّه إلى وفد النظام الذي استبعد الفكرة كليّاً، فهو يتعامل معه لكنه لا يتبنّاه. وفي المرّتين اللتين قصد فيهما وفدا النظام والمعارضة جنيف للبحث في إطلاق مفاوضات بينهما بادر الحزب الكردي إلى عقد مؤتمر موازٍ في شمالي سوريا، ففي أوائل فبراير طرح مؤتمره فكرة الفيدرالية كشكل للنظام المقبل في سوريا، وهذه أعلنها كمشروع سياسي. وبين المرّتين كان نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف أطلق «بالون اختبار» عندما رمى في تصريح له عبارة «ربما تصبح سوريا جمهورية فيدرالية» قبل أن يضيف «إذا اتفق عليها السوريون» في المفاوضات. ومع تبنّي الأكراد لهذا التوجّه أصبح واضحاً أن موسكو هي التي همست به في آذانهم.

صحيح أن موقفاً أميركيا استباقياً أكّد «عدم الاعتراف بالفيدرالية ما لم تتم مناقشتها والموافقة عليها» (في المفاوضات)، وأن النظام والمعارضة رفضاها جملة وتفصيلاً، إلا أنها كما يبدو ستكون محور المحادثات المقبلة بين الأميركيين والروس، خصوصاً أن المعارضة قدّمت اقتراحاً باعتماد «اللامركزية» الذي قد يعتبر قريباً إلا أنه يختلف جوهرياً، سواء في مكانة «الحكومة المركزية» وصلاحياتها أو في وضعية «الأقاليم» وحدود استقلاليتها، بل يختلف خصوصاً في تأكيد وحدة سورياً شعباً وأرضاً، وهو ما لا يزال هدفاً كرّسه القرار 2254 بغضّ النظر عن الجدل على واقعيته بعد الصراع الدامي المروّع الذي تلوح الآن فرصة ولو هشّة لإنهائه.

الاتحاد

 

 

تقسيم سورية ليس حلاً/ جوناثن ستيفنسون

مرّ على انزلاق سورية إلى حرب شعواء 5 سنوات. وأياً كان مآل المفاوضات على الانتقال السياسي، من العسير تصور أن البلد سيعود إلى حدود ما قبل الحرب في دولة موحدة. فالمفاوضون بدأوا يبحثون في خيار التقسيم. ولمح وزير الخارجية جون كيري الشهر الماضي أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إلى أن التقسيم قد يكون هو الخطة «ب»، إذا أخفقت المفاوضات السياسية وأجهض وقف النار. واقترح الروس حلاً فيديرالياً، وأشار ديبلوماسي في الأمم المتحدة إلى رواج فكرة «مركز (قرار) رخو وصلاحيات واسعة للمناطق» في أوساط القوى الغربية البارزة. لكن هذا الحل ليس الأمثل. فهو يقضي بالإذعان لوحشية بشار الأسد وتجاهل اعتراضات المعارضة، ويترتب عليه مزيد من عمليات النزوح الداخلية بحسب التوزع المذهبي، وربما النزول عن أراض لـ»داعش». وقد لا يطوي التقسيم أو الفيديرالية الرخوة الأطر، الحرب الأهلية والكارثة الإنسانية. فهو يترك دويلة الأسد على حالها في وجه «داعش»- وهذا سيواصل الحشد لمواجهتها- وتبرز دويلة يديرها السنّة قد يسعى العلويون إلى تقويضها.

والتقسيم الناجم عن حرب سيء السمعة: ففي كوريا وألمانيا ترتب على التقسيم فصل شرائح واسعة من السكان بالقوة. وفي الهند، أدى التقسيم إلى قطيعة سكانية ضخمة وعداوة مزمنة. وتقسيم فيتنام في 1954 كان هشاً ولم تكتب له الحياة. وفي حالات استثنائية، قد ينجم عن التقسيم استقرار طويل الأمد في مجتمعات صغيرة ومعزولة. ففي قبرص التي قسمت قبل 40 عاماً، تسير دوريات قوات الأمم المتحدة على جهتي الخط الأخضر الفاصل بين قبرص اليونانية وقبرص التركية في انتظار توحيد شطري الجزيرة. وأرسى التقسيم الاستقرار في شمال إرلندا. وساهم اتفاق تقاسم السلطة في بلفاست في تذليل التوترات. وتقسيم البوسنة في اتفاقات دايتون أنهى حرباً رهيبة بين الصرب والبوسنيين المسلمين، والكروات. لكن نجاح نماذج التقسيم هذه يعود الفضل فيه إلى الدور الأوروبي في نزع فتيل الاضطراب ورعاية السلام. فهذه الاتفاقات رعاها إطار يسمو على الدول، الاتحاد الأوروبي. وهذا الإطار قوض مكانة السيادة الوطنية الاسمية، وكان ضامن غياب استفزاز خارجي. ويُفتَقَر إلى مثل هذا الإطار في سورية. فالحرب الأهلية السورية تدور في جوار إقليمي شائك. وجامعة الدول العربية غير قادرة على أداء دور مماثل لدور الاتحاد الأوروبي. وثمة دول إقليمية بارزة تتواجه هناك في حرب بالوكالة. والنزاع في سورية أكثر دموية مما كان عليه النزاع في قبرص أو إرلندا.

لن تدور عجلة التقسيم في سورية وتكتب له الحياة ما لم تتدخل دول للاتفاق على هدنة تجمد النزاع وتعزل «داعش»، وتوسل القوة بتفويض أممي لحفظها (الهدنة)، وتيسير التقسيم، وثني اللاعبين الإقليميين عن التدخل الجيو- استراتيجي. وهذا يقتضي نشر قوة سلام متعددة الجنسية، تشمل قوات أميركية و»أطلسية» وقوات من جامعة الدول العربية وأخرى روسية. ومثل هذه القوات قد ترعى عملية نقل سكان لا يشعرون بالأمان حيث هم. وإرساء مثل هذا التدبير غير يسير، إذ يفترض تعاون القوى المتباينة واتفاقها على التزامات كل منها وعلى سبل التمويل، وجبه الخسائر المفترضة. وأغلب الظن أن الولايات المتحدة وغيرها من دول «الأطلسي» وروسيا وتركيا، لن تنشر قوات لحفظ التقسيم في سورية إذا ترتب عليه تعاون مع «داعش»- ويتعذر «احتواء» دويلة داعشية من غير التعامل معها- وغيرها من القوى «الجهادية».

والتحدي الشائك والبارز في هذا الاحتمال هو عسر المفاوضات بين النظام والمعارضة المعتدلة على السيطرة على المدن (إلى من تعود السيطرة على أي مدينة؟)، ويرجح أن يصر النظام على الاحتفاظ بدمشق. ويترتب على احتفاظه بهذه المدينة نقل عدد كبير من السنّة (من العاصمة إلى خارجها). وتركيا لن تقبل بكيان يهيمن عليه الأكراد، وستسعى إلى إطاحته وإلا انفرط عقد الإجماع «الأطلسي» على التقسيم. وهذه معضلة عسيرة. فالأكراد قاتلوا بضراوة. وتقسيم سورية، إذا كان دائماً، يخالف اتفاق لوزان 1923، لذا، يجب إسباغ المشروعية عليه عبر اتفاق جديد. وينفخ تقسيم سورية في النزعات الانفصالية في الشرق الأوسط ويؤجج الاضطراب. ويقول دعاة التقسيم أو فيديرالية رخوة أو مرنة أنه الخيار اليتيم المتاح، وأن إرساء وحدة سورية تحت راية تشارك السلطة يقتضي ديبلوماسية سحر أو ساحرة. لكن الديبلوماسية لم تكن يوماً من العلوم البحتة، شأن اقتراح التقسيم. وهذا، كذلك، أقرب إلى السحر منه إلى العلم. احتمال سورية موحدة يعصى على الخيال، لكنه غير محال، ويجب السعي إليه.

* باحث، محلل في المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 17/3/2016، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

المتحد السوريّ ومخزنه الضائع وكائناته الحدودية/ وسام سعادة

المعطيات الجغرافية والسكانية السورية مأخوذة هكذا، «معلقة في الفضاء»، مقطوعة عن سياقات التاريخ والذاكرة والسياسة، لا تحدّد، بصورة «قدرية»، أفضلية مسبقة لنموذج الدولة الوحدوية على الدولة الإتحادية، أو العكس.

والدولة الوحدوية يشاع الإصطلاح عليها بالدولة «المركزية» في العربية المعاصرة، مع أنه يمكن أن تكون مركزية أو لامركزية. وما حصرها ترجمياً بهذا الشكل إلا اقفال لهذا الباب بالتلفيق. واختزال «الوحدوية» (الاونيتارية) في تلك «المركزية» يماشي عربياً المصطلح الرائج فارسياً «حكومت متمركز» في مقابل دقة ترجمية في لسان الأردو «وحداني رياست».

أما فيصل التفرقة بين الدولة الوحدوية وتلك الإتحادية أن الحدود الداخلية في الأولى ستبقى إدارية في تعريفها، بصرف النظر عن محاكاتها للشخصيات المناطقية والحدود الثقافية، وعن انعكاساتها السياسية، في حين أن الحدود الداخلية في الدولة الإتحادية هي حدود سياسية في المقام الأول، حتى لو لم تكن تحاكي القدر نفسه من التمايز المناطقي – الثقافي هنا أو هناك.

بحد ذاتها، جغرافية الكيان الوطني السوري الموجود أكثره في البادية، لا توجد أفضلية مسبقة. هناك كيانات وطنية تكاد تقول لنفسك ما أن تراها على الخارطة بأنها «لا تستوي» من دون فدرالية. ليست هذه حال سوريا. أيضاً التعددية الدينية والمذهبية داخلها، والمرتبطة بلون ديني مذهبي أكثري واضح، ولسان عربي مهيمن، ليست بهذا القدر من «الفيسفسائية» بحيث لا يمكن التفكير فيه إلا في نطاق الإتحادية.

كمعطيات مأخوذة بشكل كمي، سكوني، غير ناطق، ليس هناك ما يسوّغ مسبقاً صياغة سوريا على أساس المبدأ الوحدوي أو على أساس المبدأ الإتحادي. يبقى أن هذه المعطيات ليست خرساء أو سكونية أو ثابتة، وهذا ليس أبداً بشيء عارض.

هناك في سوريا فشلان، لا واحد.

فشل في «الزرع الفدرالي» في المرحلة الكولونيالية. من سماته، فرض نموذج نافر ورجعي من الفدرالية: «الدول الادارية» المسماة بأسماء الأقليات في حالتي العلويين والدروز، أو بأسماء المدن، سلطنةً لحواضرها على أريافها، ثم ارتجال «المتحد السوريّ»، ناقص الإسكندرون، وقبله لبنان بعد فشل «مؤتمر الساحل». فليس صحيحاً أنّ هذه الفدرالية الكولونيالية لم يكن لها ما يسندها من اختلافات اثنية، ومن حرب أهلية شكلت البعد الآخر لما نسميه بـ»الثورة السورية الكبرى»، لكنها كانت منذ البدء سهلة الاستهداف، سريعة العطب، مُبالِغة في «كشف» الطوائف الباطنية، دون أن يكون هناك ما يكفي لتنشئة قومية اثنية جبل-درزية أو جبل-علوية، والأهم متناقضة مع نشأة البرجوازية المدينية ومصالحها، ومع أي «حد أدنى» من «الوظيفة التحديثية» للإستعمار، الذي لا يمكن أن يعمّر طويلاً أو يتوطّد بشكل عميق من دونها.

وفشل في المقابل، في «طرد» هذا التاريخ الفدرالي لسوريا الحديثة، الذي كان تاريخ تكونها، وبرز ذلك في ثنائية التوجهين الاقليميين المختلفين، حلب العراقية الهوى في مقابل دمشق، في فترة انحسار المستعمر. بقي «المخزن» السوري في مقابل الأرياف (بالاستعارة المغربية) ضعيفاً، ببقائه مخزنين دمشقي (الكتلة الوطنية) وحلبي (حزب الشعب)، ثم كان الهروب إلى الأمام بالوحدة مع مصر. وجمال عبد الناصر لم يكذب خبراً: اشترط أن تكون الوحدة بين القطرين مركزية اندماجية خبط لصق (رغم التباعد الجغرافي، ورغم عدم انجاز الوحدة المالية). نُظِر إلى «الاقليم الشمالي» كريف بالكامل (تتمة لمحافظات الدلتا)، وما كادت البرجوازية المدينية الشامية تتنفس الصعداء بـ»الإنفصال» ضداً عن ارادة الجماهير، حتى جاء صعود البرجوازية الصغيرة الثورية البعثية ليجترح معادلة، لم يكن بالمقدور صياغتها بشكل ناجز إلا في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد: سوريا دولة مركزية من دون أن تكون دولة وحدوية. بمعنى آخر: بخلاف الدولة الوحدوية التي لا تعرف حدوداً داخلية إلا ادارية، فإن «سوريا الأسد» هذه مصممة على أساس مبدأ الحدود الداخلية السياسية غير الرسمية، انما المرسوم بشكل واضح ومنهجي، من قبل «الدولة المركزية».

وهذه الدولة المركزية، أي جهاز الدولة الذي أمسك الضباط البعثيون العلويون بزمامه، لهان أمره لو كان يريد تأمين وظيفة واحدة: غلبة الأقلية العلوية. لا، كان يريد صهر الناس أيضاً، وبجدية، لكنه يعود فيميزهم بين قابلين للصهر وغير قابلين للصهر، ومتحمسين زيادة عن اللزوم للصهر، ومتحمسين أقل من اللزوم، ويعتبر أن ثمة «خميرة» ينبغي عدم تبديدها، أي شبكة أمان للنظام تؤمنها عناصر لحمة، «بيولوجية» حقيقية أو متخيلة، غير مطروحة للصهر من الأساس.

وهنا، التناقض المستعر الذي شكلته تجربة بناء دولة مركزية غير وحدوية (اونيتارية)، إلا في الفضاء الأيديولوجي للوحدوية (اونيونيست) القومية العربية، كانت له وجهة محددة في التعامل مع الأكراد: فهم لا يشكلون وفقاً لهذا المنظار جزءاً من الكيان الداخلي، ولا يمكن التعرف عليهم في الحدود الداخلية التي هي «سرّ» مكشوف من أسرار النظام وشبكة مواصلاته ومعتقلاته. بل هم «كائنات حدودية»، هم الحدود نفسها، بين الوطن العربي الكبير وبين خارجه. في حالتي، حرمان الكرد السوريين حقوقهم، وجنسيتهم، أو دعم «العمال الكردستاني» في مواجهة أنقرة، كان هناك اعتبار واحد: الكورد بصفتهم كائنات حدودية، كائنات «بانديتية» طريفة يمكن أن تفرزها أي حدود بين قوميتين في العالم.

هذه النقطة بالتحديد لم يراجعها الخطاب المهيمن على قوى الثورة السورية. بالعكس. جرى الايغال في هذا المنطق، وبدل دعوة الكرد إلى دولة وحدوية لامركزية، تسمح لهم بالحقوق الثقافية كاملة، وبالمشاركة السياسية الواسعة، جاء «رهاب الفدرالية» ليعسكر مجدداً، بخلطات بعثية – إسلامية – ليبرالية متفاوتة المقادير، من «الدولة المركزية اللا-وحدوية»، التي لم تعد حدودها الداخلية سراً لنظام هذه المرة، بل كانتونات للوردات الحرب السورية. وفي سوريا، «رُهاب الفدرالية» هو الناخب الأول للفدرالية.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

بدأت في سوريا.. الفيدرالية سايكس ـ بيكو ثانية!/ صالح القلاب

استمرار هذه «الهدنة» الخجولة التي تعاني من اختراقات يومية مقصودة من قبل النظام، وفي بعض الأحيان من قبل الروس، ورغم تواصل هذه المفاوضات الكسيحة، فإن ما يبدد الأمل في التوصل إلى الحل السياسي المرتقب، إنْ على أساس بيان أو اتفاق «جنيف 1» أو غيره، هو أنّ الأميركيين ما زالوا مترددين ولا يزال موقفهم غير حازم وهم يقدمون رِجْلاً ويؤخرون أخرى، بينما يواصل الروس هجومهم الكاسح، سياسيًا وعسكريًا، في حين أنّ بشار الأسد لم يتوقف عن مناوراته البائسة والسخيفة، وكل هذا بينما بات من الواضح وكأن الأوروبيين قد خرجوا من هذه الحلبة نهائيًا بعد موجة الإرهاب «المشبوهة» التي ضربت باريس وعددًا من المدن الأوروبية الأخرى، وضربت بروكسل في بلجيكا، أول من أمس (الثلاثاء).

كان المفترض، قبل استئناف المفاوضات التي تدور في حلقة مفرغة، أنْ يتوقف قصف النظام للأهداف المدنية والمدارس والمستشفيات، وأن يتوقف أيضًا التحرش المستمر باسم تنظيم داعش بالدول المجاورة بتركيا أولاً وبالأردن ثانيًا، على غرار ما جرى في مدينة إربد الحدودية التي هي ثاني مدينة أردنية، بعد العاصمة عمان، قبل أكثر من أسبوعين.

هناك مثل شعبي مستخدم في بلاد الشام، وربما أيضًا في بعض الدول العربية الأخرى يقول: «لو أنها فعلاً ستشْتي لكانت غيّمت أولاً»، ولذلك، لو أن الروس يريدون حلاً سياسيًا على أساس بيان «جنيف 1» وعازمون فعلاً على التخلي عن «صاحبهم»، على أساس هذا البيان، فلمَ بقوا يتصرفون بهذه الطريقة غير المفهومة، ولمَ حاولوا فرض وقف إطلاق النار من جانب واحد الذي من الواضح أنّ المقصود به هو المعارضة السورية وليس النظام؟!

ولعل ما هو مضحك فعلاً أن بشار الأسد، الذي من المفترض أنه يعرف أن هناك هدنة غدت سارية المفعول وقّعها دون استشارته سيرغي لافروف، لم يتورع عن إطلاق «نكتة» ثقيلة الظل، عندما قال في حديث لإحدى قنوات التلفزيون الألماني ودون أن يرفّ له جفن: «أقترح على مقاتلي المعارضة عفوًا عامًا مقابل تخليهم عن أسلحتهم وتسليمها للحكومة السورية». إن المعروف أن رئيس هذا النظام الذي أصبح كالزوج المخدوع آخر مَنْ يعلم أنه لم يعد بيده أي قرار، لا بالنسبة لهذه الهدنة المتأرجحة ولا بالنسبة للمفاوضات البائسة الحالية في جنيف، لكن ومع ذلك فإن هناك مثلاً يقول: «خذوا أسرارهم من صغارهم»، وأنّ هذا العرض الآنف الذكر إذا كان جديًا بالفعل، فإن صاحبه الحقيقي هو قيصر هذا العصر فلاديمير بوتين، وليس مَن أصبح لا علاقة له بكل ما يجري في بلد من المفترض أنه بلده إلا بمتابعة المواقع الإلكترونية ومشاهدة شاشات الفضائيات العربية والعالمية.

ثم إن ما يدل على أن الروس لديهم «موّال» غير موال «جنيف 1» والمرحلة الانتقالية أنهم تقدموا بعرض على لسان أحد كبار مسؤوليهم، من الواضح أنه عرض جدي، كانوا تحدثوا فيه عن تحويل هذا البلد إلى دولة فيدرالية «اتحادية»، وذلك في حين أن «الصديق العزيز»!! جون كيري، كان قد أطلق تصريحًا استفزازيًا قال فيه إنه «إذا استمر القتال فإن سوريا ستنتهي إلى الانقسام والتقسيم»، وهنا فإنه لا يمكن أن يكون ما قاله وزير الخارجية الروسي وما قاله وزير الخارجية الأميركي هو مجرد «توارد خواطر» بين صديقيْن عزيزين لكل واحد منهما رأسه الخاص به، لكنهما يفكران تجاه هذه الأزمة بعقل واحد هو عقل الماركسي – اللينيني السابق والرأسمالي – الإمبريالي اللاحق!!

وهنا، فإن ما يوجع القلب فعلاً هو أن بعض «الكتبجية» العرب الذين كانوا شاركوا في وفد من الشيوعيين السابقين زار موسكو قبل فترة قد انبروا فورًا للترويج لهذه المؤامرة الخبيثة، والقول دون أي خشية وأي حياء إن الصيغة الفيدرالية هي سمة الدول المتقدمة والناجحة كالولايات المتحدة وروسيا والهند والعديد من الدول الأوروبية الصغيرة والكبيرة، وكل هذا في حين أنّ المفترض أن هؤلاء يقولون هذا الذي يقولونه وهم يعرفون ليس بحكم اطلاعهم المفترض على التجارب الناجحة للشعوب، وإنما بحكم شيوعيتهم السابقة، أن أنماط الحكم الفيدرالي والاتحادي تكون مطلوبة وضرورية عندما تكون الدولة المعنية مستقرة وقوية ومتماسكة، وليس عندما تكون تعاني من حرب أهلية ومن نزعات انشطارية وتقسيمية على غرار الوضع في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

والسؤال هنا أيضًا هو: هل يا تُرى «لا مركزية» بول بريمر المطبَّقَة في بلاد الرافدين هي نمط فيدرالي «اتحادي» متقدِّم على غرار ما هو مطبَّق في روسيا الاتحادية والولايات المتحدة وألمانيا والهند ودول أخرى، أم أنه تشظٍّ مذهبي وطائفي كانت نتيجته هذه الحرب القذرة المدمرة في العراق التي لا يستفيد منها إلا الولي الفقيه في طهران، والتي لا تخدم إلا تطلعات إيران التمددية في العراق وفي المنطقة العربية..؟!

لقد تحول العراق العظيم بـ«فَضْل» هذه اللامركزية، التي أبدعتها عقول مريضة وأسهمت في فرضها على بلاد الرافدين جهات ومجموعات تآمرية، إلى شظايا وطن تتحارب فيه فيما بينها على أساس مذهبي وطائفي وعرقي تنظيمات تتنافس على السلب والنهب، وهذا يعني أن هذا البلد العربي الذي غدا خاضعًا للوصاية الإيرانية المباشرة سيحتاج ربما إلى قرن بأكمله وأكثر ليستعيد وحدة أرضه ووحدة شعبه ووحدة وجدانه ووحدة ترابه.. وأيضًا وحدة لغته العربية.. لغة القرآن الكريم.

ثم كيف من الممكن يا تُرى أنْ تكون اللامركزية ضرورية وصيغة حضارية ومتقدمة في سوريا، وهي تعاني حاليًا من حرب طاحنة مستمرة منذ نحو خمسة أعوام، وأيضًا وهي تعاني من هذا التدخل الروسي المستمر، ومن هذا الاحتلال الإيراني المذهبي، ومن احتلال حزب الله، واحتلال أكثر من أربعين تنظيمًا طائفيًا كلها تأتمر بأوامر الولي الفقيه في طهران.. وتذبح في هذا البلد العربي على الهوية الطائفية والمذهبية؟!

لقد تحدث بشار الأسد بعظمة لسانه عن أنه يريد أن تقتصر دولته المنشودة، التي لن تكون إلا طائفية ومذهبية، حتى وإنْ هو رفع فوقها شعار «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة»، على «سوريا المفيدة» فقط، والواضح هنا أن هذا التهجير، الذي قال حلف شمال الأطلسي (الناتو) إنّ الروس ومعهم هذا النظام السوري يقفون خلفه، هدفه أن تصبح هذه الـ«سوريا المفيدة» الدولة المذهبية المطلوبة التي إنْ هي قامت، ونأمل ألاّ تقوم إطلاقًا، فستشعل نيران حروب طائفية في هذه المنطقة كلها قد تستمر لمئات السنين، وعندها فإنه ستكون هناك مؤامرة العصر التي ستكون بالتأكيد أخطر كثيرًا من مؤامرة «سايكس بيكو»!

الشرق الأوسط

 

 

 

 

لماذا لا يمكن أن يحل التقسيم مشاكل الدول الهشة في الشرق الأوسط؟

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

في ديسمبر/كانون أول عام 2011، وبعد تنفيذ آخر مراحل الانسحاب الأمريكي من العراق، أمر رئيس الوزراء العراقي «نوري المالكي» باعتقال نائب رئيس الجمهورية آنذاك «طارق الهاشمي»، وهو المسؤول السني الأبرز في الحكومة العراقية. كانت عملية اعتقال «الهاشمي» واحدة ضمن عدة عمليات مماثلة استهدفت رموز العراقيين السنة. في الأشهر التالية، تمت الإطاحة بالسنة بشكل منهجي عن مواقع السلطة. عندما خرجت المظاهرات السنية إلى الشوارع احتجاجا على فصل السنة من وظائفهم، فقد تم التعامل معها بقمع وحشي. كانت الولايات المتحدة قد انسحب للتو، بينما كان العراق ينزلق مرة أخرى إلى حرب طائفية.

هل يمكن التغلب على تلك الكراهية العميقة التي تمزق العراق وسوريا والعديد من الدول النامية الأخرى أكثر من أي وقت مضى؟ هل صحيح أن هذه الشعوب لم تكن يوما متلاحمة بشكل حقيقي، وإنما تم إرغامهم، على العيش معا ضمن حدود خطتها القوى الاستعمارية؟ هل سيكونون أفضل حالا إذا ذهب كل منهم في سبيله ليشكل دولة بمفرده ربما تكون أكثر تجانسا أو أكثر سلمية؟ يبدو أن العديد من صناع القرار الحاليين والسابقين الآن يعتقدون ذلك. وفي العام الماضي، صرح رئيس أركان الجيش الأمريكي السابق «راي أوديرنو» إلى الصحافة أن تقسيم العراق على أسس عرقية قد يكون الحل الوحيد، وأن العراق في المستقبل لن يكون أبدا على صورة العراق في الماضي. وفي فبراير/شباط الماضي، قال وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» أن تقسيم سوريا يمكن أن يكون هو الخطة البديلة في حال فشل اتفاق وقف إطلاق النار. «جيمس ستافريديس» هو الآخر أبدى حماسه للفكرة في مقال نشر له مؤخرا في صحيفة «فورين بوليسي» قائلا: «سوريا أصبحت دولة وهمية بشكل متزايد .. تبدو احتمالات الحفاظ على سوريا موحدة مرة أخرى في كيان واحد منخفضة جدا. لقد حان الوقت للنظر في التقسيم».

من السهل أن ندرك مدى الجاذبية التي تتمتع بها اقتراحات التقسيم. إذا كان الأطفال لا يلعبون مع بعضهم البعض بشكل جيد فكل ما علينا أن نقوم بإرسال كل منهم إلى غرفته. ولكن بناء على فحص دقيق، فمن الواضح أن تقسيم البلدان غالبا ما يفرز صراعات جديدة أكثر مما يحل منها، كما يساهم في تأجيج الأحقاد القديمة بين الدولتين المنفصلتين.

اللجوء إلى إعادة رسم الحدود من أجل حل صراع عرقي هي استراتيجية نادرا ما تكون ناجحة. في ورقة حديثة، يشير كل من «نيكولاس سمبانيس» و«جونا شلوفر» أن الحروب الأهلية التي يتم حلها عبر التقسيم غالبا ما تندلع من جديد كحرب بين البلدين المنفصلين. وحتى إذا نجح التقسيم في حل أحد الأسباب المحتملة للصراع فإنه يترك أسبابا أخرى بديلة. غالبا ما يترك التقسيم بعض التجمعات من ذوي العرقيات المختلفة داخل حدود ما بعد التقسيم، وهذا يؤدي إلى اندلاع أعمال تطهير عرقي مع المزيد من العنف. بعد عام من إعلانها الانفصال عن يوغسلافيا، كانت كرواتيا تخوض حالة حرب مع بقايا مواطنيها الصرب الذين شنوا الحرب من أجل الانضمام إلى صربيا. في العراق، فإن دولة كردية مستقلة لن تكون راغبة في التخلي عن سيطرتها على حقول النفط الغنية في كركوك ذات الأغلبية العربية. يمكن للمرء أن يتصور بسهولة ظهور التمرد العربي في كركوك أسوة بالتمرد الصربي في كرواتيا.

يمكن للتقسيم أيضا أن يعيد تنشيط الهويات الكامنة لتصبح مصدرا محتملا من مصادر الصراع، وأن يحول الحلفاء السابقين إلى أعداء يتصارعون لأجل السيطرة على الدولة الجديدة. بعد انفصال جنوب السودان المسيحي عن الشمال المسلم في عام 2011، فقد انزلقت الدولة الوليدة سريعا إلى أعمال عنف ما بين الحركة الديمقراطية في جنوب السودان وجيش تحرير جنوب السودان. في العراق، فإن الدولة الشيعية المنتظرة سوف تجد نفسها سريعا في أتون صراع ما بين القوات الحكومية الموالية لحزب الدولة الذي يتزعمه رئيس الوزراء «حيدر العبادي» وبين الميليشيات الصدرية مثل جيش المهدي. في سوريا، فإنه من الصعب أن نتصور أن المجموعات المختلفة داخل الجيش السوري الحر، ناهيك عن جبهة النصرة، يمكن أن تتفق على تشكيل حكومة في شمال سوريا دون الدخول في حرب أهلية جديدة. باختصار، ما يمكن أن نتوقعه من خطط التقسيم هي فترة جديدة من الصخب والفرز العنيف التي تنتزع بعنف بعض المجتمعات أو تشردها للانضمام إلى أصولها العرقية. بعد تجانس تلك الدول الجديدة، حال حدوث ذلك، فإن قادتها العرقيين سوف يتفرغون للصراع مع بعضهم البعض للسيطرة على المجالات الجديدة.

يجب علينا التخلي عن النظرة الخيالية في التعامل مع الصراع المدنية بوصفها ناجمة عن الكراهية الأولية والبدء في معالجة الأسباب الحقيقية لهذه الصراعات. لا يوجد تلازم جيني ما بين التنوع العرقي وبين العنف. في ورقة تأسيسية تم نشرها في عام 2003، شرح كل من «جيمس فيرون» و«ديفيد ليتون» أن درجة التنوع العرقي في دولة ما لا علاقة لها بانزلاق هذه الدولة نحو حرب أهلية من عدمه. وجدت ورقة أخرى أن السبب الأكثر بروزا لنشوب الحروب الأهلية هو تعرض مجموعات بعينها لاستبعاد متعمد من قبل الحكومات. تحتوي معظم البلدان مجموعات متنوعة من الشعوب التي تعيش داخل حدودها ولكن ليس جميعها أو حتى أغلبها تنحدر نحو العنف. ما يتسبب في اندلاع الحروب الأهلية ليس التنوع العرقي وإنما الدول الضعيفة والإقصائية. عندما تكون مؤسسات دولة ما ضعيفة ويجري استبعاد بعض الفئات الاجتماعية من السلطة فإن أصحاب المشاريع المختلفة يعتبرون أنفسهم أحرارا في استخدام استغلال الانقسامات في المجتمع لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بهم.

النتائج التي توصل إليها «فيرون» و«ليتون» تخبرنا بشكل قاطع أنه لا يوجد ارتباط حتمي بين التنوع والعنف ولكن أي تقسيم اجتماعي يمكن أن يتم استغلاله من أجل توليد العنف. العلويون والمسيحيون والسنة في سوريا وكذا السنة والشيعة والأكراد في العراق قد عاشوا عقودا طويلة من التعايش السلمي أكثر مما عاشوا خلال الحرب الأهلية الطائفية. حدث التحول حينما انهارت قدرة الدولة وترك دعاة العنف أحرارا لاستغلال التنوع من أجل من أجل تحقيق الأغراض السياسية الخاصة بهم.

الطريق إلى السلام في سوريا والعراق لا يكمن في التقسيم، ولكن في استعادة سيطرة الدولة. سوف تكون عملية استعادة سيطرة أي حكومة على المناطق المتنازع عليها في سوريا والعراق أمرا صعبا للغاية وسوف يتطلب الأمر بالتأكيد مشاركة قوات دولية لحفظ السلام. ولكن ينبغي ألا نسمح لفكرة التقسيم أن تصرفنا عن العمل الحقيقي من أجل التوفيق بين الناس الذين يعيشون داخل حدود هذه الدول.

المصدر | ناشيونال إنترست

 

 

 

الخلاف الروسي ـ الإيراني بشأن الفيدرالية في سوريا/ علي حسين باكير

مع تزايد الحديث مؤخراً عن الخطة الأميركية (ب) لسوريا، وعن الطرح الروسي بشأن تفضيل النظام الفيدرالي، لا سيما مع إعلان نائب وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي ريابكوف بأنّ موسكو تأمل بأن يتم التوصل إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية في سوريا، ظهرت نظريّة جديدة تقول بأنّ هناك خلافاً بين روسيا وإيران حول هذا الموضوع.

الحديث عن خلاف روسي- إيراني ليس جديداً، وسبق وأنّ تمّ ترويج نظريات وأساطير حول وجود خلاف بين الطرفين، إزاء إدارة الملف السوري ومصير الأسد ومصالح إيران في سوريا، وقد تبيّن حينها بأنّ شيئاً من هذا الكلام لم يكن صحيحاً، لا بل إنّ الطرفيّن كانا مكمّلين أحدهما للآخر، في المواقف وفي الأداء على المستوى السياسي أو العسكري، في المفاوضات أو على الأرض.

اليوم يعود الحديث مجدداً عن الخلاف ولكن حول شكل سوريا، وتحديداً حول الطرح الفيدرالي. المروّجون لهذا الطرح يعتمدون على تصريحات للرئيس الإيراني حسن روحاني، يقول فيها بأنّ إيران تدافع عن وحدة سوريا وسيادة الدولة على كامل أراضيها، وأنّها أبلغت جميع الأصدقاء والجيران بمن فيهم روسيا بأن سيادة بلدان المنطقة على أراضيها ووحدة ترابها أمر مهم بالنسبة لإيران.

لكنّ، وكما عوّدنا الإيرانيون أنفسهم، لا يمكن الركون إلى تصريح كهذا لنبني عليه نظرية وجود خلاف مع روسيا، خاصّة أنّ مثل هذا التصريح لا يخرج عن الخط الكلاسيكي المعتاد لإيران، فهم يؤكدون دوماً احترامهم سيادة الدول الإقليمية، ومع ذلك لا يفوّتون أي فرصة لانتهاكها مراراً وتكراراً، ويؤكّدون حرصهم على السلام والاستقرار الإقليمي ولكنّهم لا يوفّرون أي لحظة للعمل على تقويض هذا الاستقرار وإشعال الحروب والفتن في محيطهم، كما أنّ حديث الإيرانيين عن أهمية الحفاظ على سيادة ووحدة سوريا لا يعني بالضرورة أنّهم سيعارضون الفيدرالية، بدليل أنّهم ينتهكون هذه السيادة التي يتحدّثون عن أهمية صيانتها.

أضف إلى ذلك أنّ الحديث عن وحدة سوريا لا يتعارض مع طرحهم أو تأييدهم للنظام الفيدرالي بالضرورة، بدليل أنّ الطرح الروسي عن الفيدرالية في سوريا الذي قدّمه ريابكوف نفسه، تمّ تغليفه في التصريح نفسه أيضاً بحديث عن الحفاظ على وحدة سوريا!

من هذا المنطلق، فإن الكلام لا يعني شيئاً، وغالباً ما يكون كلام الروس والإيرانيين متناقضاً مع أفعالهم، لكنّ بعضهم يصرّ على وجود الخلاف بين الطرفين في هذا الشأن من باب آخر، وهو تخوّف إيران من أن يؤدي تحويل سوريا إلى فيدرالية إلى فتح الباب واسعاً أمام انتقال هذه العدوى إلى إيران، خاصّة إذا ما كان مشروع الفيدرالية برمّته يهدف في الأساس إلى مكافأة العنصر الكردي.

تصوّر وجود مثل هذه المخاوف الإيرانية أمرٌ مشروع لدى المحلل، لكن العبرة بالنسبة إلى النظرة الإيرانية ليست في حقيقة الأمر حول شكل النظام السياسي، بقدر ما تتعلّق بمدى قدرتها على تحقيق نفوذها ومصالحها، لا بل إنّ الحقيقة تقول إنّ النفوذ الإيراني غالباً ما يؤدي إلى إضعاف الدولة التي يوجد فيها، وتفتيتها بحيث يصبح هذا التفتيت بذاته عنصراً ضامناً لديمومة النفوذ الإيراني، وفي الحالة السورية، فإن فيدرالية من النوع المقترح قد تضمن لإيران أكثر من بوابة نفوذ مستقلّة داخل البلاد، عبر العلويين والأكراد وربما أيضاً عبر غيرهم.

النموذج اللبناني يصلح دوماً للتعبير عن التجارب الإيرانية في المنطقة العربية، وعلى الرغم من أنّ لبنان ليس دولة فيدرالية، لكنّه عملياً أصبح كذلك – إلى حد كبير – بدفع من السياسات الإيرانية التي غذّت وعززت النَفَسَ الطائفي، وعملت على تسليح حزب الله حتى أسنانه، فأصبح لديه مناطقه ومدنه ومحمياته، وكل منها لها حدود وينشر فيها قواته الخاصة وعناصر من جيشه الصغير، مما حوّل لبنان إلى دويلات طائفيّة صغيرة؛ إما تابعة للحزب أو تحت حمايته أو مستسلمة له.

يجب علينا ألا ننسى أيضاً أنّ إيران كانت أول من دعم الحكومة التي أتى بها الاحتلال الأميركي في العراق، ولم تبد أية مخاوف حينها من تحوّل العراق إلى دولة فيدرالية، فهل من المنطقي القول إنها ستخاف من فيدرالية في سوريا ولا تخاف من فيدرالية في العراق؟! لا بل الثابت أنّها إذا كانت تخاف فعلاً مثل هذه الإشكال، فكان من الأرجح أن تخشى الفيدرالية العراقية أكثر من نظيرتها السورية المقترحة، وإذا كانت تعارض فعلاً فيدرالية في سوريا فالأَولى أن تعارض الفيدرالية العراقية.

وعليه، لا أرى حقيقة وجود خلاف روسي- إيراني، على كل حالٍ، فإذا فرضت روسيا نموذجها هذا على السوريين، لن تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة إلى الجانب الإيراني، فإذا قدّر لسوريا أن تكون دولة فيدرالية، يكفي إيران حينها أن تحرص على أن تكون سوريا نموذجاً فيدرالياً فاشلاً، حتى لا تنتقل العدوى إليها، بمعنى آخر يكفي أن تحرص إيران على وجود دولة فاشلة في سوريا، أي كالعراق اليوم، حتى تكون هي بمأمن وتضمن في الوقت نفسه مصالحها.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى