صفحات سورية

ساحة العاصي في حماه : هل ستكون ميدانَ تحرير سوريا؟

 


محمد حيان السمان

في جمعة ارحل وصل التظاهرُ في ساحة العاصي بحماه إلى نقطة جديدة على صعيد العدد وعلى صعيد التنظيم جميعاً, مما يعكس تراكماً رائعاً في الوعي والخبرة لدى الجمهور,  والتصميم على متابعة الحراك الثوري السلمي حتى تحقيق كامل المطالب الإصلاحية الجذرية للمجتمع السوري. ويمكن القول إن نموذج مظاهرة حماه في جمعة الرحيل هو النموذج الأمثل والأكثر تنظيماً و فاعلية – حتى الآن –  في التعبير عن الحق العام والشرعية الشعبية أمام عنف و لا شرعية النظام التسلطي. إنه النموذج الأقوى بحشده المليوني… بسلميته… بتنظيمه وملامحه الحضارية… وبشعاراته الواضحة المتزنة التي تذهب مباشرة إلى مركز الهدف : إسقاط النظام التسلطي تمهيداً لتأسيس وإطلاق الدولة الديمقراطية المدنية. تبعاً لذلك كله أتوقع أن نموذج تظاهرة حماه المليونية في جمعة الرحيل بملامحها التي شاهدها العالم أجمع ( التنظيم والوضوح المطلبي والشجاعة المرتكزة إلى العقلانية والوعي…وأخيراً – وهو الأهم – سلميتها المطلقة ) ستكون بمثابة النموذج المثال لتظاهرات قادمة قريباً في جميع المناطق السورية.

لقد قدمت درعا مثال الجرأة على كسر حاجز الخوف الرهيب, وقدمت حمص مثال المبادرة السريعة والنبيلة لمؤازرة درعا, وكان حراك حمص في الشهر الأول من الثورة مؤشراً ناصع الدلالة على الانتقال من مطالب محددة إلى مطلبٍ مشروع وحيد : إسقاط النظام. أما ريف دمشق فقد تلقف هذا المطلب ودفع به إلى مستوى الشعار الواضح العلني العام. وكان حراك ريف دمشق بمثابة الصوت الذي انطلق مؤذناً باشتعال الثورة في سوريا كلها. إدلب وريفها والأثمان الباهظة التي دفعتها جعلت السلطة تفكر بشكل أوّلي مبهم بجدوى الحل الأمني, وتضع مسألة فاعلية تحريك الجيش من مكان إلى آخر للمشاركة في القمع موضع تساؤل.

مظاهرة حماه المليونية في جمعة الرحيل هي نتاج تراكم هذا المسار الثوري العظيم الذي يمثل أنصع الصفحات في تاريخ سوريا على الإطلاق , وهي – أي مظاهرة حماه –  ليست مجرد حاصل جمع مجمل تلك المواقف العظيمة الشجاعة التي انطلقت من درعا, وإنما هي تعبير عن انتقال نوعي : في الوعي والممارسة, في شكل الحراك وآلياته ومحتواه, وفي  مستوى الإصرار الشعبي على التغيير, وفي وضوح الهدف والطريق الأنسب للوصول إليه, مستفيدة بذلك من مجمل نجاحات الثورة في جميع المناطق, ومن مجمل أخطاء النظام التسلطي التي استدرجه إليها وهْمُ صلاحية الحل الأمني, وتنمّر رموز الفساد والقتل في النظام, وركونهم إلى وهم القوة التي لا يمكن أن تقهرها إرادة الشعب.

في مظاهرة حماه المليونية, كأنما الحراك السلمي المشروع للمجتمع السوري, بعد سنوات طويلة من القهر والإذلال والظلم الفادح , قد اهتدى أخيراً, وبعد أكثر من مائة يوم على انطلاقته, إلى شكله الأكثر تعبيراً عن عدالة وشرعية ثورته, في مواجهة كل أشكال العنف العاري والقتل الوحشي والتشويه الإعلامي التي أطلقها النظام التسلطي.

إن مظاهرة حماه في جمعة الرحيل في حال تعميمها على باقي مناطق سوريا العظيمة, ستجعل من آلة القمع الرهيب للنظام التسلطي, المتنقلة من مكان إلى أخر أملاً في لجم الحراك الشعبي , ستجعل ذلك بدون معنى أو فائدة على الإطلاق, وبشكل واضح وعملي . وسيفهم النظام التسلطي ذلك قبل غيره. وبكلام آخر فإن شيوع الحشد المليوني في ساحات الوطن بشكله السلمي المنظم الجريء والعارف بأهدافه و وسائل تحقيقها جيداً؛ سيجعل من آلة القمع غير ذات جدوى أبداً. ستحيّد جزءاً كبيراً منها. أما الجزء الباقي, وبخاصة قطعان الشبيحة القتلة, فإن ضآلتهم وجبنهم وانعدام الهدف المبدئي والأخلاقي لديهم, كل ذلك سيجعلهم يتوارون مذعورين عاجزين عن ممارسة القتل البشع بحق أخوتهم في الوطن.

كما أن الكذبة البشعة للنظام حول وجود تنظيمات – كذا ؟؟! – إرهابية تهاجم المدنيين والعسكريين وتعيث فساداً وترويعاً – كما يزعم إعلام النظام – ؛ هذه الكذبة سوف تسقط حتماً ويتكشف زيف هذا الزعم. وقد ثبت ذلك في حماه نفسها , حيث لم يُسجل خلال عدة تظاهرات حاشدة وجود مندسين أو تنظيمات إرهابية مسلحة . لقد أشرتُ في مقال سابق إلى أن كذبة التنظيمات المسلحة استُخدمت من قبل السلطة لتبرير قتلها المدنيين المتظاهرين من جهة, وقتلها للعسكريين الشرفاء الذين رفضوا خيانة الوطن وشرف الدفاع عنه, من جهة ثانية. في حالة مظاهرة مليونية كتلك التي شهدتها حماه في جمعة الرحيل, لن يكون بوسع النظام الأمني التسلطي استخدام العنف الهمجي العاري كما فعل في درعا وجسر الشغور, لأنه لن يستطيع تغطية ذلك بوجود عصابات مسلحة, فضلاً عن إدراكه عدم جدوى العنف في مواجهة الملايين. وبذلك فإن مسلسل القتل الذي شهدته سوريا منذ أن قرر أهلها المطالبة بالحرية والكرامة سيتوقف في حق المدنيين والعسكريين على السواء, لأن القاتل سيدرك, أمام حشود مليونية, لا جدوى اللجوء إلى الحل الأمني, وعبثية العنف العاري.

إن ورقة الاستقواء بالخارج واستدعاء التدخل الخارجي, كخيار قد يراود ولو بشكل احتمالٍ بعيد, تفكيرَ بعض قوى المعارضة- وبخاصة في الخارج – , أو كتهمة يوجهها النظام إلى الحراك الشعبي عموماً في سياق حملته لتشويه الثورة؛ إن هذه الورقة تسقطها ساحة العاصي نهائياً من التفكير و من التداول. إن تعميم مشهد ساحة العاصي على ساحات مدن الوطن ومناطقه كفيل بإظهار ضآلة النظام وضعفه وعجزه أمام الحشد الجماهيري وإصرار الثورة على تحقيق مطالبها. ولن يكون بالتالي وارداً التفكير بالحاجة إلى أي دعم أو مساندة , وبخاصة من الخارج الذي يعرفه الشارع السوري تماماً, ويعرف معنى وأبعاد الدعم الخارجي, وبخاصة في هذه المرحلة التي تمتاز بحساسية وطنية و محاذير تترك تأثيرها على شكل التغيير المطلوب في سوريا ومستقبله.  إن المخاوف من تحوّل سوريا إلى النموذج الليبي ستكون نافلة أيضاً, بحيث أن قوة الحراك إذ يتحول بالتدريج إلى نموذج ساحة العاصي بسلميته وزخمه وتنظيمه, سيجعل من الاحتكام للسلاح والحرب بين الأهل أمراً مستبعداً بالمرة من قبل جميع الأطراف. وستفشل محاولات النظام المستمرة بتحويل التظاهر السلمي إلى مواجهات مسلحة. سيكون رفعُ اليد كافياً لإسقاط كل تلك العظَمة الزائفة والمتآكلة على حد تعبير الشاعر العظيم أوكتافيو باث.

ساحة العاصي إذا اتسعت لتشمل سوريا البهية الرائعة كلها.. مدناً و مناطقَ و قرىً , ساحاتٍ وشوارع لطالما حوصرت بالخوف والذل؛ ساحة العاصي كما شهدناها في جمعة الرحيل, إذا ما تمّ تلقفها من باقي المدن والساحات وتمثلها من جماهير الشعب الثائر لكرامته وحريته ومستقبل أبنائه؛ فإن الثورة ستكون قد اتخذت أخيراً سَمْتها المفضي حتماً إلى إسقاط النظام التسلطي, وبأقل ما يمكن من التكلفة على الصعد كافة, بما في ذلك تكلفة الوقت.

إن صدور مرسوم رئاسي بإعفاء محافظ حماه من مهامه صبيحة يوم جمعة الرحيل, يعكس ارتباكَ النظام أمام النموذج الذي طرحته ساحة العاصي , نموذج الحشد الهائل المنظم والسلمي تماماً والحضاري بوقائعه ومطالبه. فالنظام يعرف تماماً أن المحافظ لم يكن ليستطيع أن يفعل شيئاً حيال الحشد المليوني الذي جاء معبراً تماماً عن جوهر الموقف الشعبي السوري في كل المدن والمناطق. والنظام يعرف تماماً أن المحافظ والأجهزة الموضوعة بتصرفه إدارياً وأمنياً هي أضعف وأقل شأناً من أن تستطيع فعل شيء. لكن عدم اتخاذ النظام أي إجراء حيال مظاهرة ساحة العاصي سيكشف ارتباكه أمام الساحة وعجزه عن إيجاد رد ممكن, مما يغري بقية الساحات بتطبيق وقائع جمعة ارحل في ساحة العاصي. الارتباك والعجز هما ما يعمل النظام جاهداً على إخفائهما بحيل إعلامية تارة, وباللجوء إلى أقصى أشكال العنف تارة أخرى. من هنا جاء مرسوم إقالة المحافظ ليوحي بقدرة النظام على الرد واتخاذ إجراءٍ ما, لكنه بذلك فضح عجزه وارتباكه فعلاً.

أعيد القول: إن مدينة حماه, وما تختزنه من دلالة تاريخية وإنسانية شارفت تخوم الرمزية الدالة على قبح أنظمة الاستبداد و توحشها في التاريخ, مدينة حماه وعبر ساحتها البهية, وأبنائها الخارجين من رحم المجازر وظلم ذوي القربى الفظيع؛ حماه قدّمت يوم جمعة الرحيل النموذجَ الأكمل والأجدى  – حتى تاريخه – لما يمكن أن يتخذه الحراك الشعبي التاريخي في سوريا عموماً من أشكال وتوجهات. وهو بالتأكيد نموذج سيتطور ويتكامل خلال التطبيق المتكرر والمتنوع على مساحة سوريا العظيمة.

عندئذ لن يستطيع النظام التسلطي خديعة أحد أو المراهنة على الوقت ومحاولة تفتيت المرتكزات السياسية والاجتماعية للثورة, من خلال دعوات الحوار التي يطلقها والتي تستخف كثيراً بوعي الشارع والنخب على السواء. أمام حشود مليونية منظمة وسلمية مالكة للإصرار والعزيمة و وضوح الرؤيا, على امتداد الوطن, لن يكون من الوارد أن تستخف السلطة بما يحدث, أو أن تنكر وجود أزمة, أو أن تدعو بهذا التذاكي المكشوف إلى حوار عبّر عنه الفنان الكبير علي فرزات ببلاغته الحارقة أفضل تعبير: حوار يقف أطرافه بين – بسطارين – وبإشراف عسكري بدون رحمة أو أخلاق مدجج بكل أنواع الأسلحة !.

حتى النخب السياسية من المعارضة ومن الطيف السياسي الوطني الواسع, عندما تجتمع للتنسيق والحوار ووضع تصورات مشتركة للمستقبل, فإنها ستكون أكثر قدرة على التبصر بمسار الأحداث, وإمكانات التحرك المتاحة, وستدرك بشكل أكبر قوة الشارع الذي ترتكز إلى شرعيته في بناء شرعيتها السياسية, إذا ما توجهت إلى اجتماعها على صوت حشود هادرة بالكرامة والحرية وإسقاط النظام التسلطي, كما حدث في ذلك اليوم التاريخي بساحة العاصي بحماه.

كلنا شركاء

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى