صفحات الرأي

أحزاب المثقفين/ عباس بيضون

 

 

كان المثقف هو الضمير العام، هو المعلم، هو العقيدة حين كانت العقيدة تحكم. كان يستند إلى العسكري الحاكم ويعمل له. كانا صعدا سوية إلى الحكم لكن العسكري ما لبث أن صار الأمين على العقيدة وبعد ذلك مثالها فيما صار المثقف مؤدلجها وداعيتها. لم يكن المثقف لسان المثقفين ولم يكن المثقفون استقلوا بجماعتهم بعد. حليفه العسكري هو القوة والمثقف شريك فحسب. المثقف الآخر، المختلف، حامل العقيدة الثانية أو الثالثة هو العدو غالباً. وهو المنافس الذي لا يلبث أن يصبح في السجن، موصوماً بالخيانة متهماً بالانقلاب، أو يغدو هارباً من وجه السلطة مشرداً في المنافي. أحزاب المثقفين تتقاتل وتتصارع وتفترس بعضها بعضاً إلى أن تضعف جميعها وربما تتداعى وتعود تستمد القوة من القبائل والعشائر وحتى الطوائف إلى أن تذوب فيها.

اليوم لم يعد التمويه واجباً. القبائل والعشائر والطوائف تظهر باسمها هي والأحزاب تتلطى بها. بالطبع هناك مثقفون منها ومثقفون في كوادرها وفي قيادتها ولهم تفسيرهم الخاص وتطبيقهم الخاص للدين. للسلفية بأي وجه كانت مثقفوها بالطبع والسلفية تنشئ أحزاباً لمثقفين من نوع خاص، أحزاب عقيدة بالدرجة الأولى ومثقفين دعاة وأحياناً كوادر وقادة ومرشدين ومفتين وفقهاء. انها أحزاب مثقفين أيضاً لكنهم ليسوا خريجي ثقافة عالمية مجلوبة من الغرب. إنهم أبناء حوزات ومجالس دينية، بل هم قد يكونون أبناء التربية البيتية والموروث الديني والشارع الطائفي.

لم يكن مستهجناً أن يطلق اسم المثقف على الذين تلقنوا العلم في مدارس من النمط الغربي ودرسوا فيها مواداً تتعلق في معظمها بالتراث الغربي، لقد درسوا إلى جانبها بعض المواد ذات المرجع العربي لكن العلوم كانت غربية بحتة، وكذلك العلوم الإنسانية، فيما أضيف إلى الآداب جانب عربي وإسلامي، لكن حتى هنا غلب عليها المرجع الغربي. لم يكن ابن رشد هو الذي يبقى في الذاكرة الفلسفية ولكن ديكارت، اما الشعر والرواية فلم يكونا استمراراً عربياً بقدر ما كانا استمراراً للأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي والأميركي. ذلك يعني أن المثقف هنا يواصل ثقافة غربية، ولقد استحق اسم المثقف كما هو اسمه في هذه الثقافة التي منحته ومنحتنا هذا الإسم. لكننا لو رجعنا إلى تعريف المثقف لدى غرامشي الإيطالي الذي وجد أن مثال المثقف العضوي على حد تعبيره في الثقافة الغربية هو الكنيسة، ولذا انتبهنا إلى فرق ما بين الثقافة التي نتلقاها في المدارس والجامعات وبين الحوزات والجامعات الدينية الإسلامية فإننا، بدون أن نبالغ، ننتبه إلى أن المثقف الذي درس في الثانويات والجامعات عندنا بعيد عن أن يكون المثقف العضوي، أي المثقف الذي يصوغ لطبقة أو جماعة او طائفة رؤيتها الجامعة وشعاراتها واستراتيجياتها. لا نملك في هذه الحال أن نطلق على خريجي الثانويات والجامعات ومن يدور في فلكهم اسم المثقف العضوي، حتى ولو انتحلوا بحسن نية في الغالب صفة المثقف العضوي فادعوا تمثيل طبقات لا نعرف حدودها وماهيتها وجماعات لا تتأكد من مدى وجودها. ويمكن هكذا أن نطلق على هؤلاء المثقفين اسم المثقف البراني او المثقف الهامشي. لا يعثر من ذلك الوصول إلى السلطة فالوصول كان نتيجة مؤامرة اشتركت فيها هوامش اجتماعية، العسكر أقواها، ولم يكن الانقلاب سوى هذه المؤامرة البونامارتية لو رجعنا إلى اللغة الماركسية.

الانفجار الحالي الذي يُشعر بأن مرحلة طويلة من الحكم ومن السجال السياسي العنيف، كانت أيضاً برانية ولم تحفر في الواقع وها هي تنقضي بدون أن تترك خلفها مباني وقوى فعلية. لقد باخت بفعل ما يمكن أن يكون مؤامرة مضادة كالاحتلال أو التدخل الخارجي، بينما أطلق غيابها، أيا كان وجهه وإخراجه، قوى زوبعت بسرعة وتشكلت بما يشبه الخطف ووجدت هنا أو هناك أرضاً جاهزة، أرضاً من التراث والتربية والمباني الموروثة والقائمة في تأسيس المجتمع وفي جذوره. فضلاً عن قواعده واهافته وذاكرته الجمعية.

لقد فوجئنا بالسرعة التي تكونت بها التنظيمات الإسلامية المسلحة، فوجئنا أيضاً بالقوة والانتشار اللذين أكسبتهما في شكل خاطف. ولم نكن انتبهنا إلى أن شروط وجودها كانت جاهزة ولم تكن بحاجة إلى أكثر من هذا الانفجار لتخرج إلى العلن، لقد كان هذا الانفجار هو المناسبة بل هو المؤامرة التي أتاحت لهذا النمط من المثقفين «العضويين» أن يجد شروط انتفاضة وأن يستطيع، طبعاً بدعم من دول محيطة، الانتشار والنجاح النسبي.

مثل أحزاب المثقفين التقليدية لجأت تنظيمات المثقفين الجديدة إلى الاستبداد والترويع فهي مثل سابقتها تعتبر اظهار القوة وممارستها شيء من العقيدة. انها هكذا تناقض عضويتها وتنقلب على شروط وجودها، لا نعرف كثيراً عن واقعها في مناطقها التي تسيطر عليها لكننا لا نحسب أن سياسة الترويع تخدم عضويتها وتبقي اللحمة بينها وبين الجمهور. حتى لو اعتبرت أن الترويع جزء من الدعوة نفسها وقامت دعوتها، في جانب منها، على ذلك. هل يمكن أن نفكر أن أحزاب المثقفين العضويين لم تتعلم كثيراً مما أصاب أحزاب المثقفين البرانيين ولا تزال بذات الاستعداد إلى تلقي مصائرها.

خلال الانفجار وربما قبله وجدت، من خريجي الجامعات والثانويات، جماعات لا تبشر بأي عقيدة وتدعو فقط للديموقراطية والمجتمع الحر. حققت هذه الجماعات في البدء نجاحاً باهراً لكن استمرار الانفجار وتفاقمه العنيف أو انحساره وخبوه تارة أديا إلى إبعادها لمصلحة القوى المسلحة. في السلطة وخارجها، مجرد ظهور هذه الجماعات علامة على وجود استعداد اجتماعي يمكن التعويل عليه في مرحلة لاحقة.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى