صفحات مميزةعزيز تبسي

ساعة تتحول البيوت إلى قلاع

      

عزيز تبسي

        ترقب الخائفون في منازلهم لما بات في الشارع المجاور

        منذ ساعات الصباح المبكرة،وعن يقظة غير رائقة تأتي أصوات المطارق والمثاقب والسحاجات النيرانية وشراراتها من أدوات الحدادين الناهضين بهمة لإنجاز مهمات بدت غير نهائية بعد شدة الطلب عليها،من تمتين أبواب العمارات،وصناعة أبواب حديثة لمن أهملوا بوابة عمارتهم في ما مضى من سنين الأمان النسبي،وتركيب أسوار حديدية منيعة على النوافذ المنخفضة،ويتدخل الكهربائيون لتركيب الضواغط الآلية للأبواب وكاميرات المراقبة على زوايا بواباتها الرئيسية ،والأنترفون البصري،ليرى السكان زائريهم المعلومين و المجهولين قبل فتح البوابة،معززين وسيلة مقاومتهم الوحيدة:أن لا يفتحوا لمن لا يعرفوه،بعد أن تأكدوا أن الشرطة لا تجيب على الهواتف الإغاثية،ومن يستجيب يأتي ليكمل على ما أبقاه اللصوص بلاسرقة عن سهوة وإستعجال.

        وتعاين بعدها بدقة أبواب الأسطحة،وأقفال خزانات المازوت،الأبواب المنزلية الخشبية،النوافذ المفتوحة على المدى والنوافذ المفتوحة على الجوار والنوافذ التي لم تفتح يوماً،إعادة نظر بكل أنظمة الآمان….لينتظروا بعدها ما لن يتحقق على الإطلاق:

        دخول اللصوص المسلحين من البوابات الرئيسية،كضيوف زائرين، أو كجباة الكهرباء والمياه وسعاة البريد ….،متناسين لوهلة المشاهد التي تقدمها التلفازات”المعادية” عن خلع الأبواب بالمهدات والمطارق الضخمة،وعن رشق الأقفال الموصدة بدفق من الطلقات النارية،وعن القفز من فوق الأسوار،مما يحفز مباشرة لتحديد من هم اللصوص المقتحمين في عز النهار، ومن هي العصابات المسلحة.

        ومن يخطف الأثرياء من التجار والأطباء وأبنائهم لايخطفهم من بيوتهم المحمية بالكاميرات!! بل من الشوارع ومن أماكن عملهم حيث الطمأنينة والإندماج التام بحيثيات العمل وهمومه، وبعدها يفاوض عليهم بالمال ،لكن هذه كلها أسئلة مؤجلة عند الفئات المتوسطة،ولا تريد أن تصدق لحظة يهمس في أذنها بوقائع يقينية تحصل في المدينة.

        تعمل بصبر وأناة على طرد أشباح الخوف بتعازيم وقائية وتبدد ريح ما يشوش سعيها إلى أمان ذاتي،يدخل في قلوبها الطمأنينة والنوم الرائق إلى وقت معلوم.إذاً لابأس أخيراً من سلاح خفيف يجهلون إستخدامه،وبضعة عصي كهربائية تكون الأولوية لسيدات المنزل وآنساته ليضعونها في حقائبهن الملونة الأنيقة،بعد التأكد من البائع أنها لاتقتل”تحدث شللاً مؤقتاً فحسب”.

        لتنتقل بعدها إلى هذيانات ووساوس الطعام وهلوساته،بعضهم أفرغ غرفة من البيت للمؤونة من المواد الجافة البرغل والأرز والسكر والعدس والفاصولياء…والسائلة من الزيت والسمن والمنظفات…….،في الأسواق الكبيرة الخاصة بالألبسة والأحذية تخف حركة الناس ويميل التجار للحديث عن الكساد،ميول جديدة تعتمد على تغيير في نظام الأولويات،تدفعهم إلى توفير أكبر كمية من الأغذية وهي شكل آخر من إستبدال العملة التي تتهاوى قيمتها الشرائية بالسلع ،ترى الزبائن في الدكاكين الكبيرة وفي أيديهم ورقة بالمطلوب شراؤه،ومن بعيد يأتيهم صوت البائع ليحذرهم شكلاً ويحفزهم على مزيد من الشراء،”هذه” ويشير بيده لسلعة كان سعرها—وصار سعرها—فيأتيه هدير الزبائن بصوت واحد كجوقة:أوووووووووووووف!!

        بينما هو يتابع وكأنه لم ينتهي من رسالته التوجيهية بعد،وأخبروني اليوم صباحاً أنه سيرتفع سعرها،أي أن البضاعة التي ستأتيني غداً ستكون بسعر جديد،بعد دقائق سيفرغ الرف منها ومن غيرها ويتحول إلى أكياس الزبائن،اللاهثين خلف توازن لن يتحقق بين قدرتهم الشرائية التي تتآكل كل يوم وبين حاجات أسرهم في حيثيات صراع يأخذ بعض محرضاته من العناصر البيولوجية،الرغبة بالبقاء على سجلات الحياة وعدم تبديد جنى العمر فروق أسعار، صنع الكثير منها تجار الحروب المحميين من الأجهزة الأمنية،والأزمة الإقتصادية البنيوية التي تضرب الإقتصاد السوري وتتعمق منذ زمن،دوامة إستنزافية طويلة ومدمرة للشرائح المتوسطة،التي ما تزال تمتلك قدرة شرائية وتقاوم بها إنهيار شروط حياتها .

        لا الأغلبية الشعبية التي غادرت منذ زمن تلك الخيارات التفضيلية والوقائية،الأغلبية الشعبية تخوض معركة وجودها بطريقة أخرى،ما تزال بيوتها مفتوحة من الجهات الأربعة في مناطق المخالفات العقارية،لا تمتلك ثمن الحديد والكاميرات وأجور الحدادين والكهربائيين ……ولا تعرف ماذا سيفعل اللصوص في بيوت لا تتوفر فيها بعض من الأسباب التي تطيل الحياة ولا تجددها،كالمازوت والغاز والزيت والسكر…..وينتظر سكانها عودة آبائهم من العمل آخر النهار ليلتفوا حولهم على مائدة من أكداس الخبز والشاي الحلو والبطاطا المسلوقة…….يستوجب على اللصوص منح هذه البيوت بعضاً من مسروقاتهم،وتقدم هذه الفئات زهرة أبنائها إلى الأعمال النافلة من مسح السيارات والأحذية وبيع أوراق اليانصيب والتسول…والى الأعمال الأخرى التي سيقودهم إليها تواجدهم الدائم في الشوارع ويضعهم وجهاً لوجه مع أولاد الحرام.

        الشوارع أوائل الليل

        المدينة التي كانت لا تنام،وبعض من شوارعها وأسواقها يلتصق ليله بنهاره ،هي الآن شبه خالية من أول ساعات المساء،وساعة تكون وحدك ستشعر بثقل العتمة والخوف الآتي من عدوانية الصمت،لكنها فرصة جديدة لم تتح قبلاً في أوقات الهدير البشري والزحمة الخانقة والتدافع اللجوج على الأرصفة الضيقة،وأمام باعة الحلويات وعربات شواء اللحوم وأكباد الخراف والذرة الصفراء.

        فرصة لتلتقي وجهاً لوجه مع أفواج العاهرات المضرجات بالألوان والخلاخيل،ولتكتشف عن قرب دلع الشاذين جنسياً ورنين كعوب أحذيتهم العالية وهم يتأولون أحدث الطرق في لي عنق العلكة ونفخ بالوناتها قبل تفجيرها المجفل في زوايا شوارع مظلمة وخالية،والقوادين بصريف أسنانهم الذهبية ويقينهم البهيج بإمتلاك مؤخرة العالم وثقة تامة بالقيمة التداولية لأثدائه،والخوف من المزاج الوحشي للشبيحة قبل سريان مفاعيل حبوب الخدر في أبدانهم،وهم يتحلقون حول بعضهم وبأيديهم علب البيرة يتبادلون الأنخاب ويتقاسمون الغنائم المسروقة،ونظراتهم النيرانية إلى العابرين،وهناك النائمون على الأرصفة وفي زوايا الحدائق العامة،وكذلك لابد من مصادفة من لا يتركون الشوارع إلى ليسلموها إلى غيرهم.

        أخلى الناس شوارعهم ليلاً وإستلمها هؤلاء بسكاكينهم الصقيلة وأسلحتهم الحربية وكبسولات الليبريوم…

        بسطات تبقى في ثقيل حمولاتها رابضة في مكانها مغطاة بقماش بلاستيكي لتظهرها كفيلة منقرضة ،وورشات يديرها فصيل آخر من الشبيحة المؤتمنين على المدينة،ترفع ليلاً بيوت بلا عمد،لتلتوي بعد أسبوع كرجل مصاب بالكساح المزمن…

        وهناك كذلك من يكتب على الجدران،بعيداً عن أعين هؤلاءوبحماية من رفاقه عبارات لن يرضى عنها الفاشيون،من مثل :الحرية للأبد .

        حلب حزيران2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى