صفحات الناسمالك داغستاني

ساعدني يا إلهي… ما اسم زوجة خالي؟/ مالك داغستاني

 

 

عكس ما يجري مع البعض في الفروع الأمنية، فإن أحداً لم يطلب مني أن أملأ استمارة المعلومات الشخصية لشعبة المخابرات العسكرية لحظة دخولي الفرع (ليتهم ما تأخروا). كان لدى الضباط ورئيس الفرع ما هو أهم من هذه المعلومات الروتينية التافهة.

بعد ثلاثة أيام من التعذيب المتواصل كان على فرع حمص ترحيلي إلى فرع فلسطين، صباح اليوم التالي (طبعاً حينها لم أكن أعلم بذلك). كنت منهكاً بشكل لم أعرفه من قبل، ولم يعرفه جسدي طوال سنوات عمرنا، حيث كنا متلازمين أنا وهو في هذه الحياة. تحولات استثنائية غير مسبوقة تعرفت عليها أنا وهذا الجسد الذي أرهقته معي، خلال الأيام الثلاثة الماضية، فلم يحدث سابقاً أن ساقيّ قد عاكستا طبيعتهما، فهما منذ ثلاثين عاماً ثخينتان عند الفخذ وتنحفان نزولاً إلى الركبة ثم الربلة حتى نهايتهما عند القدم. في هذه المرة ارتأى ضباط الفرع الذين تناوبوا على تعذيبي، أن يجعلاهما ثخينتان جداً عند القدم ثم تنحفان شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى الفخذين.

إذا أردت إيراد مثال آخر، فلم يحدث من قبل أن اتفقت كل فتحات جسدي أن تنز دماً في فترة واحدة. كانت إحداها، لسبب مرضي ما، تفعل ذلك منفردة وفي حالات نادرة، أما أن تجتمع كلها على النزف في وقت واحد، فهذه أيضاً من المنجزات التي يجب حفظها (إنصافاً) باسم رئيس الفرع في مدينتي حمص. وحدها الكهرباء لم تترك على جسمي أثراً بادياً للعين، لكن في الحقيقة، كنت في كل لحظة أشعر بوجودها في دماغي المشوش. كنت أحسّ أنها تتجول داخل رأسي لتقوم بقطع بعض السيالات العصبية فيه، ما جعلني أفقد بديهتي الطبيعية (على تواضعها)، وأفقد حتى المحاكمة المنطقية لما يجري أمامي، ثم لأكتشف في ما بعد، أنها ربما قد أثّرت في قدرتي على استحضار المعلومات المخزنّة في ذاكرتي.

حسناً، في اليوم الثالث، وأنا في تلك الحال المهلهلة لجسدي الذي استُبيح على نحوٍ أشعرني بالخزي، تذكًّر أحد الضباط أنه لم يملأ استمارتي التعريفية. أجلسني الرائد محمود على كرسي قرب الطاولة، ووضع أمامي أوراقاً بقياسات كبيرة، وأعطاني قلماً وطلب مني، باللطف المعهود لضباط المخابرات، ملء الاستمارة بالمعلومات المطلوبة في كل حقل. طبعاً بطبيعتي المسالمة، لم أخيب ظنه وبدأت الكتابة، فمن غير اللطيف، حسب خبرة الأيام الثلاثة الماضية، أن تُخيّب ظن ضابط المخابرات بك. كانت تلك الاستمارة تتطلب مني أن أكون على معرفة بشجرة العائلة من الجدود إلى الأحفاد مع عمل كل منهم وشهاداته التعليمية وإن كان قد اعتقل في فترة ما، طبعاً إضافةً لمعلومات الزوجات والأزواج من خارج العائلة.

كان الأمر يسيراً، ولا يحتاج لأي جولة من التعذيب كي أُقرّ بمعرفتي لاسم ابن أخي مثلاً. لكن فجأة وبشكل غير مفهوم، وصلت إلى الحقل الذي يجب أن أدوّن فيه اسم زوجة خالي الأصغر! يا الله. لقد نسيت اسمها الأول. تذكرتُ كنيتها، لكن ماذا كان اسمها الأول؟ مستفيداً من تجارب الامتحانات الجامعية، حين كانت تستعصي عليّ الإجابة عن أحد الأسئلة، تركتُ الحقل فارغاً وقفزت للمعلومات التالية، لأعود إليه في ما بعد. حسنا ها أنا انتهيت، ومازال حقل اسم زوجة خالي فارغاً. خطر لي أن أُكنّيها باسم ابنها كما نناديها عادة «أم سامي» إضافة لكنية عائلتها، لكني تراجعت فوراً عن تلك الفكرة. فماذا لو استفزّت كتابتي الاسم على هذا النحو الرائد محمود. اللعنة، ضباط المخابرات لا يحبون المزاح. مرت عدّة دقائق وأنا في صراع لاستحضار وتذكّر الاسم ولكني فشلت. دخل الرائد وسألني إن كنت قد انتهيت. أخبرته بأني كتبت كافة المعلومات ولكني نسيت اسم زوجة خالي. مع ابتسامة لطيفة ومتسامحة، نظر إليّ قائلاً بكل تهذيب: «ولك جحش. في بني آدم ما بيعرف اسم مرة خاله؟». اللعنة، إنه أنا الجحش الذي لم يعرف اسم زوجة خاله، وتساؤله لو أردنا الإنصاف هنا، كان محقاً. توجب عليّ بسرعة تفسير هذا الخلل كي لا يعتقد أن في الأمر محاولة خبيثة مني لإخفاء المعلومات. أخبرته أنني أعرفه بالطبع، ولكني نسيته الآن، وقد أتذكره في أية لحظة، وعرضت عليه فكرتي بأن أكتب كنيتها بعد اسمها الشائع «أم سامي». فابتسم من فكرتي الغبية: «لا. لا… العمى بعيونك شو جحش… نحنا منجيب اسمها واسم اللي خلفوها». ثانية وجدت نفسي الجحش الذي لم يتوصل للحل السليم الذي يستطيع مجاراة الذهنية الإدارية المنضبطة لفروع المخابرات في سوريا.

اللعنة. اللعنة، كنت قد نجوت وتملصت خلال التحقيق من ذكر العديد من المعلومات التي يمكن أن تحرجني أمام معارفي، خاصة تلك المربكة عائلياً، وها أنا الآن أسقط هنا بهذه الطريقة السخيفة. اليوم، وبعد ثلاثين سنة، ما زلت أذكر (مبتسماً من غفلتي حينها) تلك الليلة الفارقة في الزنزانة، وأنا أقلّب الاحتمالات. ماذا لو أرسلوا دورية إلى منزل خالي؟ اللعنة. فخالي، كباقي السوريين، يعرف ما هي مخاطر مجرد الاحتكاك مع مخابرات حافظ الأسد. أي رعب سوف يصيبهم؟ هل سيكون مقنعاً لهُ أو لزوجته أن الأمر لا يعدو نسيان الاسم؟ هل سيظنون بأني ربما ثرثرت بكلام سخيف عنهم؟ أي كلامٍ مما يتداوله السوريون عادة في جلساتهم العائلية الخاصة. اللعنة. اللعنة على أفعال الكهرباء اللئيمة. بعد سنتين، سوف يعزيني عن نسياني المُخيّب ذاك، أن زميلاً وصل إلى سجن صيدنايا مُرحّلاً من سجن تدمر، سأله مساعد الشرطة العسكرية أثناء تسجيل بياناته، عن اسم أمه، فصفن لدقيقةٍ ثم صرخ بشكل هستيري: «نَسّيتوني اسم أمي يا ولاد الكلب».

كانت قد مرّت عدة أيام على وجودي في فرع فلسطين، تعرضت فيها لبعض التحقيقات السريعة والسطحية، عندما دخل إلى غرفة التحقيق التي أُحتجز فيها محققٌ لم أره من قبل، حاملاً إضبارتي التي رافقتني من فرع حمص، بما فيها استمارة المعلومات اللعينة التي لم تُستكمل باسم زوجة خالي بعد. أخبرني الضابط بالخلاصة المهمة التي توصل إليها: «شوف ولا.. هدول بفرع حمص جحيش.. جحيش وما بيعرفوا يحققوا..» ثم تابع وهو يمزق أوراق تحقيقي والاستمارة ضمنها «تحقيقك هادا حقو نص فرنك مصدي.. وهلق هات لنشوف.. من الأول».

يا الله. أخيراً تنفستُ الصعداء.. نجت زوجة خالي «منال».

٭ كاتب سوري مقيم في اسطنبول

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى