صفحات مميزةعارف حمزة

يقولون أزمة أخلاق!: عارف حمزة

عارف حمزة

طوال حرب الإبادة هذه خرج علينا ناصحون كثر، لم يلمسوا قطرة دم واحدة من شلال الدم الذي تمّ إراقته بدم بارد. لم يستمعوا لطفل أو شابة أو رجل، ولا لحجر، ولا انتبهوا لمعاني الإبادة التي كان ينطقها “المبجّل”، خلال مهاتراته الصحافيّة الطويلة. وبانتشار ظاهرة الخطف والسرقة وسلب الناس، وقطع الأشجار، والزيادة الجنونيّة في الأسعار بعد احتكار السلع المختلفة.. بعد توالي إصدار مراسيم العفو عن المجرمين، وليس عن سجناء الرأي، صار الموالون للنظام، البعثيّون والمستفيدون من بقائه على وجه الخصوص، والذين خافوا من نطق كلمة “ثورة” نفسها حتى في مناماتهم، يقولون بأننا صرنا نعاني من أزمة أخلاق في مجتمعنا!! وبأن كلّ هذه الأزمة الدمويّة والوجوديّة هي أزمة أخلاق ليس إلا. وكأنهم يوجهون الاتهام الكامل للشباب الحرّ، الذين طالبوا بالتغييّر السلميّ في البلاد المنتهَكة والمنهوبة، بأنهم وراء تغييب الأخلاق، أو تأزيم وجودها، في سوريا.

ولو عدنا إلى الوراء لوجدنا كم كان النظام “البعثيّ” يعمل طوال عقوده في السلطة على تخريب كلّ شيء في البلاد، وعلى رأس تلك الأشياء الأخلاق. ففي طريقه نحو القضاء على وجود الطبقة الوسطى في المجتمع، وهي الحامل الأساسي للسياسة وصنع رجالات الدولة، قام النظام بإفساد كلّ شيء، لكي يظلّ المواطن السوريّ قاصر التفكير، ومهتما ً فقط بلقمة العيش. لقمة العيش التي يجب أن تكون مغمّسة في دم المواطن الآخر، ومغمّسة في الذل. لدرجة أن الكثيرين لا يتوانون عن القول بأن النظام البعثيّ، طوال نصف قرن من الحكم الواحد المستبدّ، قد صنع شعبا ً فاسدا ً. أو أوجد، على الأقل، أربعة أجيال مشوّهة من كلّ النواحي، ومن ضمنها ناحيتي الركض الأعمى وراء المصلحة الشخصيّة وعبادة رأس السلطة.

هناك الكثير من الأسئلة التي أسالت حبرا ً كثيرا ً حول بنية هذا النظام الأمنيّ. والكثير من الأسئلة التي تكشف أجوبتها هشاشة هذا النظام، وبنيانه الغريب والمتفرّد؛ الذي جعل حزب البعث هو القائد الفعليّ لحرب القضاء على بنية المجتمع السوريّ. واختراع الدولة الأمنيّة التي لابدّ أن تنقلب على صنّاعها في الوقت المناسب، ولو بالتخلّص شخصيّا ً من رأس النظام. وهذا مبحث يمكن التوسّع فيه لاحقا ً بشكل تفصيليّ.

وإذا عدنا إلى الأسئلة المؤرّقة للمواطن العادي نجدها كثيرة وفاضحة لبنية هذا النظام، المتخذ لحزب البعث كقناع لا أكثر، وكثوب لا كجسد (وفق وصف الشاعر اللبناني عباس بيضون على ما أتصوّر)، الذي شرع في نهش البلاد، بكلّ هدوء وبطء، منذ عام 1963 ولحدّ الآن.

كيف يمكن لدولة أن تنهض أو تتقدّم، أو تحترم نفسها، ومَن يسمّي ويضع قادتها، من ضباط وقضاة ووزراء ومحافظين ورؤساء النيابة العامة ومدرّسي الجامعات ووكلاءها وقادة النقابات المهنيّة والسفراء والقناصل وأعضاء مجلس الشعب ومدراء الشركات العامة ومدراء الصحف والإذاعة والتلفزيون ورؤساء وأعضاء المجالس المحليّة ورؤساء أحزاب الجبهة الوطنيّة التقدميّة … هو التقرير الأمنيّ الذي يكتبه عنصر أمن متطوّع من فروع الأمن السياسي والأمن العسكريّ وأمن الدولة؟ إذ أن الكفاءة لا تعود لقدرات صاحب المنصب أو الوظيفة، بل لتزكية عنصر متطوّع لا يمكن له أن يملك ربع الشهادات التي حازها مَن يكتب فيه تقريره الأمنيّ للقيادة. تصوّروا وزيراً يضعه عنصر مجند متطوّع من الأمن السياسي. ووزيراً يتمّ إقصاءه عن المنصب بنفس بالطريقة نفسها.

تصوّروا كذلك أنّ رئيس المحكمة الدستوريّة العليا، وقضاة التمييّز والحكم والنيابة العامة، لكي يستلم منصبه الحسّاس هذا، لا بدّ أن يكون مقبولاً من عنصر الأمن ذاك أولا ً، ثمّ يتمّ البحث في كفاءاته. وتصوّروا منتخبا ً لكرة القدم يُسمّي أسماء لاعبيه ومدربيه مكتب الأمن القومي في حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ.

ولأنّ هؤلاء العناصر المتطوّعون لم يُفلحوا في أي مهنة أو علم أو منحى من مناحي الحياة، لم يجدوا “مهنة” سوى التطوّع في فروع الأمن كي ينهشوا جسد الوطن بالفساد والرشوة والمحسوبيّة وإساءة استعمال الوظيفة، حيث المنصب هو مَن يصنعهم وليس العكس. ولأنّهم كذلك، وأكثر من ذلك في الوصف الشخصيّ، فإنّهم سيضعون أسماء مَن يفوقهم فساداً وجشعاً وعدم انتماء سوى لمصلحته الشخصيّة الآنيّة، أو أن يكون شريكهم في الفساد، لأنّه من المستبعد أن يفكّروا بالصالح العام على حساب الصالح الشخصيّ بكلّ تفرّعاته السلبيّة. لذلك كنّا نعرف سلفاً بأنّه عندما يتم تغييّر محافظ سيّء سيأتي الأسوأ منه، ولا يأت الأقل سوءاً أبداً.

إن ترشيح السيئين له هدف واضح؛ وهو أن يكون من السهولة التخلّص منهم بوجود ملفّاتهم السيئة أصلا ً في أدراج القيادة المسؤولة عن ترشيحهم، عندما تشكّ القيادة بإخلاصهم لها.

وهذا المبدأ، بترشيح السيء ثم الأسوأ، يحدث بالنسبة لكلّ مناحي الحياة في سوريا بدءاً من قيادات فروع الحزب؛ حيث يضم فرع الحزب مسؤولين عن مناحي الحياة في الثقافة والنقابات والتعليم والتنمية والشباب والطلبة والمرأة والرياضة …الخ، لتخريب تلك المناحي وليس لتقدمها وتطويرها؛ فالمسؤول عن مكتب الرياضة لا عمل له سوى تخريب الرياضة وسرقة الأموال العامة المستثمرة في ذلك المجال، وكذلك الحال في التعليم؛ حيث تمّ إعطاء ميّزات لأعضاء حزب البعث العاملين والمتّبعين لدورات الصاعقة والمظلييّن لدخول فروع في الجامعات لا يستحقونها وفق علاماتهم في الامتحانات، وإمكاناتهم العلمية الشخصية. وتمّ فتح الباب على مصراعيه لأبناء الشهداء، مع احترامنا الكامل لتضحيات آبائهم، لدخول الفرع الذي يرغبون به وليس الذي يستحقونه؛ فهناك مَن كانت دراسته أدبيّة أو تجاريّة أو صناعيّة ودخل كليّة الطب أو الهندسة!! وكذلك تمّ تثبيتهم في الوظائف العامة من دون اختبارات أو مسابقات. وتعالوا نفكر بالجرائم التي حصلت، وتحصل، على يدي مَن لم يستحق ويتقن مهنته من أولئك. ثمّ كيف قامت وزارة التعليم العالي بجعل علامة الدخول لكليّة الحقوق، وهي التي يتخرج منها رجالات الدولة والنظام والسياسة والقضاء وحقوق الإنسان والشرطة والأمن، من أدنى الدرجات في النجاح، لدرجة أن أكثريّة الناجحين في الفرع الأدبي بإمكانه الدخول بسهولة لكليّة الحقوق؟ وكذلك الأمر بالنسبة للناجحين في الفرع العلميّ. ولا أدري لحدّ الآن مَن الذي جعل الدارس في الفرع العلميّ أعلى درجة من الدارس في الفرع الأدبيّ. ومن أين أتى هؤلاء الدكاترة في الجامعات الذين لا همّ لأكثرهم سوى بيع المقررات لمن يدفع لهم ؟

كيف يمكن فهم أن يكون محافظ محافظة ما أقلّ قيمة من عضو قيادة شعبة حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ولماذا يكون أكثر المحافظين ضباطاً في سلك الأمن ثم الجيش؟ ومَن الذي أفقد المحافظ وظيفته واختصاصه وهيبته لدرجة أن نقيباً في الحرس الجمهوريّ، عندما سأله أهالي المخطوفين، في 20/1/2013، إن كان هناك من داع ٍ لمراجعة المحافظ بعد لقائه لشرح مطالبهم، قال لهم : يكفي أنكم التقيتم بي، وشرحتم لي، ثمّ لا تجعلوني أستدعي المحافظ في هذه اللحظة وأدوسه بقدميّ أمامكم!

مَن الذي جعل كلّ القوانين شكليّة، ولا سيما دستور البلاد؟ أليس القائمون والساهرون على حُسن تطبيقها واحترام تنفيذها؟. مَن الذي جعل منظومة الفساد هي التي تضع قوانينها الخاصة بحيتان نهب الاقتصاد السوريّ؟

مَن الذي طرد كلّ المستثمرين من الاستثمار في البلاد لرفضهم أن يشاركهم أحد رجالات النظام، في القائمة التي كان يعرضها عليهم رئيس إدارة المخابرات العامة، في رأس المال والأرباح فقط، وليس الخسارة من دون أن يدفع الشريك من جيبه قرشا ً واحدا ً؟. وإلا من أين جاء المسؤولون في الدولة والحزب والطائفة، وأبناؤهم وأقرباؤهم من بعدهم، بكلّ هذه الأموال والشركات والاستثمارات في الداخل والخارج؟

مَن الذي كان يضربنا في الشارع، من دون سبب، ليقول لنا بوحشيّة : “اعرف مع مين عم تحكي ولاك”.؟؟.

مَن الذي سرق أعمار السورييّن في السجون والمعتقلات والفروع الأمنيّة والمنافي من دون أدنى شروط المحاكمات العادلة؟. مَن الذي استعمل حكمة “فرّق تسد”، بين القوميات والأديان والطوائف، كي يسود؟

لماذا تحوّل السوريّون، وفق مذكرات الراحل جمال عبد الناصر وقول كيسنجر المأثور، من سياسييّن محترفين إلى أناس صامتين وجامدين وفاسدين؟

مَن كان يُغلق ملفات الناهبين الكبار في الإدارات العامة، ويقوم بتوقيف المفتشين، أو حتى طردهم من الوظيفة، إذا تجرّأ أحد منهم على كتابة تقريره التفتيشيّ بأحد الناهبين المرتبطين بالقيادات العليا في أعلى هرم النظام؟

الكثير والكثير من الأسئلة والأمثلة والتجارب أصبحت معروفة وسهل الإجابة عليها. لدرجة أنه بات من البديهيّات القول بأنّ كلّ المجرمين الكبار تحوّلوا، بدعم لا محدود من النظام وأجهزته الأمنيّة المتسلّطة، إلى رجال أعمال وأصحاب جوازات سفر دبلوماسيّة. وقبل الثورة كان مصطلح “الشبّيحة” معروفاً لدى السورييّن بأنه يُطلق على أقرباء المسؤولين الكبار، المنتمين للطائفة الحاكمة خاصّة، الذين كانوا يعملون في مجالات التهريب، من تهريب الألماس إلى تهريب الدخّان. ومعروفة لدى المواطنين أفعالهم القذرة والوحشيّة بحقّ كلّ مَن يقف في وجه أعمالهم اللاقانونيّة، من ضباط نزيهين وقضاة وحتى مواطنين عادييّن.

إنّ هذا الكلام ليس دفاعا ً عن الثورة، ولا تعرية للنظام، لأنّ الحقائق باتت واضحة حتى قبل اندلاع الثورة السوريّة بسنوات، ولكن كي يكفّ الناصحون عن نصحنا بتجميل صورة الفساد والديكتاتوريّة، وكأنّ الذين كانوا يحكموننا كانوا عصبة من الملائكة ليس إلا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى