صفحات الثقافة

أكثر من ثقافة.. اللغة والهوية/ عبد الرحيم الخصار

 

 

قبل أيام سألتُ كاتباً لبنانياً يعيش منذ ستة عقود في فرنسا ويكتب بالفرنسية عن كاتب مغربي معروف كان هو الآخر قد اختار الفرنسية كلغة كتابة، فأجابني أن ذلك الشاعر والروائي الذي أسأل عنه كان مشغولا أكثر باللغة. دفعتني هذه الملاحظة التي تحتمل الصواب والخطأ إلى سؤال آخر يبدو لي جوهريا: حين نتحدث اليوم عن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، ونبحث عن تلك المقارنات التي عادة ما يريدها النقاد والمهتمون بين هذا الأدب ونظيره المكتوب باللغة العربية، هل نكون في هذا البحث والتنقيب مشغولين بالأدب أم باللغة؟

إذا كان الهاجس هو اللغة، فإن البحث سيقودنا في الغالب إلى جهات توجد خارج الأدب، أي أننا نبحث عن أسباب اختيار الكاتب للغة الأخرى، وعن رهاناته الكامنة أيضاً وراء هذا الاختيار، وعن مدى تداول وتأثير كتاباته في الوسط الذي اختار أن يكتب بلغته.

أما إذا مال اهتمامنا إلى الأدب، بغض الطرف عن الشكل اللغوي الذي اختار أن يظهر به فإننا سننظر بعين النقد إلى القيمة الأدبية لكل عمل مغربي لا إلى قيمته اللغوية. فما يعنينا من رواية أو مجموعة شعرية أو سردية جديدة هو مدى أدبيتها، ومدى تمكنها الفني من الموضوعة أو التيمة التي تحملها سواء كتبت بالعربية أو الفرنسية أو بلغة أخرى.

الجزائري كاتب ياسين صاحب تلك الجملة الشهيرة «الفرنسية غنيمة حرب» قال يوماً: «سرعان ما اكتشفت أنه لإيصال صوتي إلى أكبر عدد ممكن من الناس، كان علي أن أتجه إلى باريس (فم الذئب) كما يقال. «هذا يعني أن الذهاب إلى الفرنسية كان بحثاً عن فضاء أرحب للتلقي بالنسبة لكاتب يريد أن يكون صوته مسموعاً، لكن ذلك لم يكن أمراً يسيراً، فالفرنسيون ظلوا لفترة طويلة ينظرون إلى الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية بوصفه أدباً من درجة ثانية، أما الأدب المكتوب بالعربية خلال الفترة ذاتها في المغرب فكان يعتبر شيئاً غير ذي قيمة سواء من لدن الفرنسيين أو من لدن المشارقة.

وأعتقد أن محمد شكري الذي كتب «الخبز الحافي» بالعربية والرائد إدريس الشرايبي الذي كتب «الماضي البسيط» بالفرنسية كان لهما الفضل في أن يجعلا العالم – وليس الفرنسيين والمشارقة فحسب – ينظر بعين جديدة إلى الأدب المغربي المكتوب باللغتين معاً. فإذا كنا لا نستطيع الحديث عن أدب عربي مكتوب بالعربية من دون أن نذكر محمد شكري ومحمد زفزاف وغيرهما، فإننا بالمقابل لن نستطيع الحديث عن أدب عربي مكتوب بالفرنسية من دون ذكر إدريس الشرايبي، عبد الكبير الخطيبي، محمد خير الدين، عبد اللطيف اللعبي، الطاهر بنجلون وفاطمة المرنيسي وغيرهم.

أدب المهاجر

وإذا كان الجيل الأول قد اختار الفرنسية إما بحثاً عن «إسماع الصوت» أو لضرورة تاريخية، فإن الجيل الجديد في غالبيته من الذين اختاروا الفرنسية وغيرها من اللغات الأجنبية لم يكن لمعظمهم الحق في الاختيار أصلا، ذلك أنهم ولدوا هناك في المهاجر ولم يتلقوا فضلا عن لهجاتهم سوى لغة البلد الذي يقيمون فيه، وحتى أولئك الذين لم يولدوا هناك إنما ذهبوا في بداية شبابهم من أجل الدراسة في الجامعة، وبالتالي فاللغة التي درسوها هي أقوى بالضرورة من لغة البلد الذي تركوه خلفهم، ويمكن استحضار بعض الأسماء كمحمد حمودان، سهام بوهلال، عبد الله الطايع وغيرهم.

هناك فئة أخرى لم تولد في أوروبا ولم تهاجر إليها. ففي مراكش مثلا، وهي المدينة التي بوسعك أن تسمع فيها جميع لغات العالم بحكم الرواج السياحي، يمكن أن نقف عند مجموعة من التجارب التي اختارت أن تبقى في المغرب وتكتب بلغة الفرنسيين مثل محمد ند علي وعبد الإله حسبي والصديق الرباج، هذا الأخير يرفض أن يتم النظر إلى الأدب المغربي المكتوب بغير العربية على أنه أدب دخيل أو غريب عن المغاربة :«بالنسبة لي الأدب المغربي هو، بكل بساطة، الأدب الذي يكتبه مواطن مغربي مهما كانت لغته، فقط ينبغي أن ينقل لنا المعيش المغربي ويسلط الضوء على النقط المعتمة في حياة المغاربة، وعلى التابوهات، وعلى السري وغير المتداول في أحاديثنا اليومية».

بالنسبة لهؤلاء ليس هناك فرق بين الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية ونظيره المكتوب بالعربية، إن الأمر لا يعدو أن يكون اختلاقاً في لغة الكتابة فحسب. مرة ذهب الأكاديمي مبارك ربيع إلى فصل كل ما كتب بالفرنسية عن انتمائه المغربي رغم كونه قد كتب من لدن كتاب مغاربة: «الأدب ينسب إلى لغته، حتى الفرس الذين كتبوا بالعربية ندخل إنتاجهم في الأدب العربي، والذين يكتبون بالفرنسية يدخل إنتاجهم في اللغة الفرنسية كإبداع، ولكن أدخل في أذهاننا أن هذا أدب مغربي مكتوب بالفرنسية، والأولى في نظري أن يقال إنه أدب فرنسي كتبه مغاربة».

لكن هذا الرأي يبدو قاسياً لا سيما إذا اخذنا بعين الاعتبار أن جزءاً مهماً من هذا الأدب قد كتب بمشاعر مغربية وأفكار مغربية وتجارب حياتية مغربية أو تجارب لكائن مغربي في بلد المهجر. فؤاد العروي كان يرفض أن يسمى كاتباً فرانكفونياً، كان يؤكد أنه كاتب مغربي وعربي يكتب بالفرنسية. إن اللغة قد تكون عاملا أحيانا في مدى انتشار الكتابة وتداولها، لكنها ليست عاملا في تحويل هذه الكتابة إلى أدب، مرة قال محمد خير الدين: «ليس كل من كتب بالفرنسية هو بالضرورة أديب، ونفس الشيء يقال عمّن يكتب بلغة الضّاد».

أريد أن أشير في النهاية إلى أن الأدب المغربي اليوم لم يعد موزعاً بين لغتين فحسب هما العربية والفرنسية، بل إن عدداً من الأعمال تكتب اليوم من لدن كتاب مغاربة بالهولندية والاسبانية والانكليزية وغيرها، من دون أن نغض الطرف عن أدب آخر يكتب بالأمازيغية التي حولتها الدولة في السنوات الأخيرة بشكل رسمي ودستوري من لهجة إلى لغة. أما بخصوص الهولندية فعلى الأوساط الثقافية المغربية والعربية أن تجد طريقاً للتواصل مع الأدب المغربي المكتوب هناك من طرف أسماء تحظى بالتقدير الكبير في هولندا وتنال كبريات الجوائز تباعاً، وأذكر هنا عبد القادر بنعلي، مصطفى ستيتو، حفيظ بوعزة، بالإضافة إلى رشيدة لمرابط التي تكتب بالفلامية وتقيم في بلجيكا.

(شاعر مغربي)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى