صفحات الرأيمصطفى كركوتي

ست سنوات «ربيع عربي» والمواجهة مستمرة/ مصطفى كركوتي

 

 

صحيح أن انتفاضات «الربيع العربي» لم تحقق أهدافها النهائية بعد، لكنها من دون شك غرست بذوراً لتغيير مقبل في المنطقة يصعب الآن تحديد مداه، حتى لو استغرق ذلك زمناً أطول مما تتمناه الشعوب. فما وقع من هزات قبل ست سنوات في أكثر من بقعة عربية على امتداد الشرق الأوسط، حدثٌ تاريخي بامتياز في جميع أبعاده. وفي ما عدا تونس، حيث حقق «ربيعـ» ـها تغييرات فائقة الأهمية، فالعرب عموماً يعيشون في أسوأ حالاتهم يرجع إلى قرن على الأقل، حيث تعاني بلدانهم مشاكل تبدو مستعصية ومؤلمة في آن، وتجدُ شعوبُها نفسها عالقة في مصيدة مآسٍ غير مسبوقة تهدد في شكل واسع، وإن بدرجات متفاوتة، مصادر عيشهم اليومية ومستقبلهم الغامض.

فالذين خرجوا إلى الشوارع تلقائياً في عواصم عربية عدة بحثاً عن الحلول لمآسيهم، فعلوا ذلك بالدرجة الأولى رداً على ظلم استبداد عاث فساداً في المنطقة لعقود عدة. كل ذلك حدث إثر ما حققته الانتفاضة الأولى من «ربيع» العرب للشعب في تونس من نجاح في إطاحة سريعة نظام زين العابدين بن علي الاستخباراتي الجائر، الذي حكم البلاد نحو عقود ثلاثة.

ولا تزال المناقشات الجادة والمحيرة مستمرة منذ ذلك الحين في المنطقة والعالم حول هذا «الربيع»، وما حققه من نتائج. فهو عبَّرَ عن نفسه بسلسلة من الاحتجاجات المفاجئة أخذت في غالبها طابعاً مدنياً، وإن خطفت بعضها تمردات عسكرية فاشلة، أو تحشيدات طائفية وقبلية تدعمها قوى أجنبية من الإقليم وخارجه، ما ساهم في تعقيد حجم المأساة وتحويلها إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. وشيء محزن أن تقف قوى الغرب الكبرى كالمتفرج على هذا المشهد المأسوي المتفاقم نتيجة الصراع على النفوذ في المنطقة بين إيران وتركيا وروسيا.

هو مشهد كأنه يقول لنا أن التاريخ يكرر ذاته الآن بعد مئة عام. فبريطانيا وفرنسا في عهدهما الكولونيالي، تقاسمتا النفوذ في 1917 واقتطعتا حصتهما من المشرق بعد الحرب الأولى وقدمتا خريطة جديدة للمنطقة والعالم. وما يحصل الآن من مسعى لتقاسم النفوذ بين قوى مختلفة، يأتي في أعقاب انتفاضة تلقائية هزت أركانَ نُظمِ حكمٍ ديكتاتورية/ أسرية دامت من دون انقطاع لفترات تتراوح بين ثلاثة وخمسة عقود تقريباً.

تلك الانتفاضات سُمِّيَتْ «الربيع» العربي، تشبيها بالانتفاضات الشعبية الكبرى التي هزت حكومات دول أوروبا الشرقية في 1989، وأدت إلى إسدال الستار نهائياً على التجربة السوفياتية. فما بدا قبل ذلك العام تكتلاً شيوعياً صامداً، بدأت دوله تهوي بسرعة مثل أحجار الدومينو بفعل حركة الاحتجاج الجماهيرية التلقائية في تلك الدول. ولكن، على عكس ما حدث في العالم العربي، هرع الغرب إلى احتضان الانتفاضة الشعبية في أوروبا الشرقية بتوفير الظروف السياسية والاقتصادية ودمج دول «ربيعها» بسرعة في الديموقراطيات الأوروبية وتبني نهج التجارة الحرة وأنظمة اقتصاد السوق ومبادئها.

ولا شك في أن وجود منظومة قوية مثل الاتحاد الأوروبي، ساهم إلى حد كبير في عملية الاستيعاب، وهذا حال مفقودة طبعاً في العالم العربي الذي لا يجمع بين دوله سوى منظومة جامعة الدول العربية المهترئة، وما يتفرع عنها من هيئات مشتركة تُعطِّلُ عملها خلافات وتنافسات الدول الأعضاء فيها.

في كل الأحوال، «ربيع» العرب يبدو أنه اتخذ وجهة أخرى وهو ينتقل كل يوم إلى حالة من الغموض الخطر، ما يضع المنطقة برمتها تحت وطأة ظلام قاس قد يدوم طويلاً. ويجد كثيرون أن ذاك «الربيع»، في ظل غياب نظام سياسي بديل يقدم الحلول لأزمات المنطقة وغياب قيادات محلية راشدة لقيادة عملية التغيير، جلب معه مآسي متنوعة في أحجامها الكارثية إلى المنطقة.

ويكفي إلقاء نظرة سريعة على واقع الحال لإدراك ذلك. فقط تونس وضعت نفسها على طريق الانتعاش نتيجرة وعي قياداتها النسبي للظروف الاستثنائية الراهنة، على رغم ما يتهددها من عدم استقرار اقتصادي وأمني خطر. في اليمن، تحولت أزمتها السياسية الداخلية إلى حرب دموية مؤلمة ناتجة أساساً من تدخلٍ إيرانيٍ مباشر بدعمها القوي والخبيث لقبائل الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح.

ليبيا وسورية جُرّتا بسرعة نحو منحدر كارثي غير مسبوق جعل البلدين يعيشان في حال حرب مستدامة متوحشة وتدميرية على مدى ست سنوات. ومسؤولية إيران و «حزب الله» في حماية النظام في دمشق لا تقل عن مسؤولية روسيا عن تراكم المآسي الإجرامية في سورية. هذه الحال، إضافة إلى التحشيد الطائفي الخبيث في العراق بدعم إيران الواضح، يترك آثاره الواضحة على استقرار دول المنطقة الأخرى ومستقبلها.

ظروف قيام «الربيع» العربي كانت موجودة لسنوات عدة قبل الانتفاضة العارمة، لكن حدوث ذاك «الربيع» تأخر كثيراً، لا سيما في ظل أوضاع اقتصادية صعبة للغاية ووجود أنظمة فاشلة وفاسدة وظالمة عجزت عن تقديم الحلول. أضف إلى ذلك أن فئة الشباب في المنطقة التي تمثل غالبية سكانها، كانت معزولة ومهمشة ومبعدة من المساهمة في الحكم، ما أدى إلى إشعال فتيل الانتفاضة التي انتظرتها الشعوب طويلاً. فانتفاضات 2011 أتت رداً غاضباً على الحكم الأوتوقراطي وأجهزة أمنه الظالمة، وعلى ارتفاع الأسعار وانتشار غول الفساد الذي أصبح يشكل مصدراً رئيسياً لدخل الشرائح الغالبة من موظفي الدولة وأفراد المجتمع.

والذي يزيد من سوء طالع العرب، وعلى عكس «ربيع» أوروبا الشيوعية في 1989، أنه لم يكن لـ «ربيعهم» رؤية موحدة لعملية الانتقال السياسي والاقتصادي من الوضع الراهن إلى المستقبل المنشود، ولا قيادات محلية واعية تستوعب ذاك الانتقال الحاسم. أضف إلى ذلك الفروقات الكبيرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بين نماذج الحكم في الدول العربية، ما يوضح التباين في أهداف «ربيع» تلك الدول ونتائجه.

فهل يحق القول أن «الربيع» فشل؟ للتبسيط، الإجابة نعم، وذلك اعتماداً على افتراض أن ذاك «الربيع» لم يحقق أهدافه السياسية والاقتصادية حتى الآن. لكنه في الحقيقة أطلق شرارته التي لن يُطْفأَ لهيبُها حتى يتحقق التغيير المراد.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى