صفحات سوريةناهد بدوية

ست سنوات من اختفاء السياسة في سورية


ناهد بدوية *

لم يكن مفاجئاً ما نشهده الآن من غياب كامل للسياسة في التعامل مع الانتفاضة السورية، وحضور فاقع للوجه الأمني، فالإناء ينضح بما فيه. فمنذ ست سنوات في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، أعلن للمرة الثانية، بعد فترة الثمانينات، أولوية المسألة الأمنية على عملية الإصلاح في سورية. وتمت العودة على نحو سريع الى السمات الشمولية التي حاول عهد الأسد الابن التخفيف منها وتغييرها. فبعد أن كان الكلام يدور على فصل الحزب عن الدولة وازدياد المشاركة وتخفيف المظاهر الشمولية للدولة من صور وشعارات ولغة خشبية… عادت هذه المظاهر على نحو مستفز أكثر من السابق. اعتُقل الناشطون ورُموا في السجون وعادت الصور والدبكة والرقص لإثبات الولاء وعادت اللغة الخشبية المقيتة الفارغة. عاد التشديد على شرط الانتماء البعثي في توزيع المناصب ووقف توسيع الاستعانة بالمستقلين الذي كان قد تم التوجيه به منذ 2000. وأعلنت التعبئة العامة للحفاظ على السلطة والعودة الى تجفيف منابع مقاومة المجتمع وحيويته، ما أدى الى تصحر سياسي عميق حكمت البلاد في ظله مافيات اقتصادية وأجهزة أمنية.

توافق الاحتكار المافيوي للسلطة وميلها إلى امتلاك رأسمالها الخاص وأعمالها التجارية مع توجهات الأسواق العالمية باتجاه تحرير الخدمات واقتصاد السوق. لذلك استمرت القوانين الاقتصادية الجديدة في الصدور، وقد بدأت منذ تسلم بشار الأسد، وأحدثت في السنوات الست الأخيرة تغيرات عميقة في بنية الاقتصاد السوري باتجاه اقتصاد السوق وانتعشت الطبقة الوسطى نسبياً مقارنة بالسابق. إلا أن ذلك أدى، في ظل حالة غياب لسيادة القانون ولحرية الصحافة والرأي والقضاء المستقل، الى ظاهرتين بارزتين يمكن اعتبارهما من أهم عوامل الانتفاضة السورية الحالية، أولاهما انتشار الفساد على نحو غير مسبوق في تاريخ سورية، بحيث لم يعد توزيع وظائف أو مناصب الدولة يدرس على أساس إرضاء قطاعات مختلفة من حلفاء النظام، بل بات الأمر يخضع فقط لديناميات شبكات الفساد وسعر السوق، وقد وصل سعر بعض المناصب في الدولة إلى عشرات الملايين من الليرات السورية. والظاهرة الثانية هي أن احتكار القوة أدى الى احتكار الاقتصاد في أيدي قلة قليلة من أفراد العائلة المالكة، وازداد عدد الفقراء وحدَّة الفقر في المناطق المحرومة من مشاريع التنمية إذ تركزت المشاريع والأعمال في العاصمتين الأولى (دمشق) والثانية (حلب) وتعرضت المناطق الأخرى للتهميش والإفقار والنهب، ونشأ الآلاف من الشباب المتعلم في هذه المناطق يتامى من دون دولة ترعاهم، ومن دون أية آفاق، ومن دون أي أمل بالمستقبل أو الحصول على فرصة عمل وحياة كريمة. هؤلاء الشباب الذين اكتشفوا عبر وسائل الاتصالات الحديثة أنماطاً أخرى من الحياة واكتشفوا أن هناك خياراً آخر غير الاستسلام لليأس والاكتئاب والسكوت على الإهانات، وهو أنهم يستطيعون تغيير مصيرهم بأيديهم فنزلوا إلى الشارع يحملون أحلامهم بالحرية والحياة الكريمة وأعتقد أنهم لن يعودوا قبل تحقيقها.

كذلك أدى اختفاء السياسة وغياب خطط الدولة الوطنية الشاملة إلى إهمال كبير لمعظم أنحاء سورية، وشمل في ما شمل المناطق المختلطة طائفياً، لأن مافيات المال الناشئة عن احتكار السلطة كانت تتحالف مع أصحاب رؤوس الأموال في مراكز المدن ضاربة عرض الحائط بالبشر من جميع الطوائف، بما فيها الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس. وفي ظل غياب مركزية قوية في الحكم يعمل الجميع لحسابها كما كان سائداً في ظل حافظ الأسد، صار كل مركز قوة صغير يعمل لحسابه الخاص ويشكل المافيا الصغيرة التي تسيّر أعماله ورزقه، وصارت الأماكن المختلطة كبانياس وتلكلخ وجبلة اماكن لمعارك اقتصادية غير موجهة من المركز بين البشر المهملين. ونتيجة نقص الفرص والموارد ظهر احتكار للفعاليات الاقتصادية المحدودة المتوافرة على نحو فظ من مراكز القوى القريبة من النظام، مما أوجد حال احتقان ظهر جلياً في الانتفاضة الحالية. وليس الالتفاف الحالي للكثير من هؤلاء المنتفعين حول النظام إلا دفاعاً عن احتكار الفعاليات الاقتصادية والخوف من خسارة الامتيازات مهما كانت صغيرة، بخاصة أن النظام عمل جيداً على إثارة كل أنواع المخاوف لديهم بإيهامهم أن من يملك عربة خضار أو يسكن غرفة في المخالفات سيخسر هذه الامتيازات إذا ذهب النظام.

ساهم غياب السياسة من نظام الحكم الحالي واللهاث وراء الأرباح والأعمال والأموال أيضاً في إهمال مناطق وقطاعات لطالما كانت حليفة للنظام، ما أدى إلى خروجها من سلسلة التحالفات الداخلية التي كانت أحد منابع قوة الأسد الأب مثل درعا والرستن، لا بل أدت سيادة أجهزة الأمن وغياب السياسة المركزية القوية الى التعامل الصلف والمتعالي والإفراط في التنكيل وعدم الاحترام حتى مع أصحاب المناصب السياسية السابقة والزعامات التقليدية. ففي درعا مثلاً اضطر الكثير من أولاد هؤلاء للعمل أجراء عند الرأسماليين الجدد الذين اشتروا مساحات كبيرة من أراضي درعا وريفها، ما أدى الى تزايد الاحتقان في مثل هذه المناطق.

تشهد أفلام الفيديو أيضاً، كونها مصورة من كاميرات الهواتف الخليوية، على غياب السياسة وعلى الطابع المافيوي للنخبة الحاكمة التي تعتبر البلاد مزرعة لها ومن حقها إغلاقها للشهر الرابع على التوالي في وجه البعثات الإعلامية والمنظمات الحقوقية والإنسانية من دون حاجة الى أي تفسير أو تبرير. لذلك، فإن أي توقع لسلوك سياسي في إدارة الازمة الحالية هو توقع بأن ينضح الإناء بما ليس فيه. ولا يمكن الذهاب باتجاه السياسة إلا اذا ضعف المركز المافيوي تحت ضغط توسع الانتفاضة جغرافياً وانضمام فئات جديدة إليها، ما قد يؤدي إلى ظهور ميل سياسي جديد عند قسم من رجالات النظام يريد أن يدرأ انهياراً مدوياً للنخب الحاكمة.

* كاتبة سورية

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى