صفحات العالم

سجال الداخل والخارج


حازم صاغيّة

في بيئة الانتفاضة السوريّة ومؤيّديها خيبة أمل صريحة بعد مؤتمر تونس، عزّزها استيلاء قوّات النظام على بابا عمرو في حمص. والخيبة تلك توصلها إلينا التصريحات والتلفزيونات وصفحات الفايسبوك، فضلاً عن الخلافات والعنعنات الصغيرة بين المعارضين أنفسهم. وكما يحصل في معظم خيبات الأمل، تتحوّل الأخلاق والأخلاقيّة مفتاحاً في تأويل الكون، مع ما ينجرّ عن ذلك من ذمّ للزمان ونعي للعالم وتعويل بطوليّ على الذات.

وهذا مُبرَّر ومفهوم من زاوية الألم الذي يعانيه السوريّون، والشجاعة التي يُبدونها، وهما يكادان يلامسان الأسطوريّة في مدينة حمص. لكنّنا كنّا سمعنا أصواتاً مشابهة من سائر الشعوب التي انتفضت طلباً للحرّيّة أو الحقّ وتُركت وحدها. وربّما كان البوسنيّون أصحاب آخر الصرخات هذه فيما كانوا يرون البلدان الأوروبيّة والولايات المتّحدة تتلكّأ عن إنجادهم وتكتفي بإطلاق المواقف والتصريحات. بيد أنّ الأمر ما لبث أن اختلف حين حصل التدخّل العسكريّ الذي أنهى سلوبودان ميلوسوفيتش وعهده.

بالطبع لا نخترع البارود حين نقول إنّ الأخلاق، بهذا المعنى المجرّد، لا تحكم العالم، مثلها مثل الحقّ الذي خبر الفلسطينيّون، وخبرنا معهم، كم أنّه بذاته محدود الفعاليّة. أمّا العون الخارجيّ فلا ينفصل بالطبع عن المصالح، من دون أن يقتصر عليها. وأمّا الذي يطلب دعم نظام ديموقراطيّ فعليه أن يتحمّل قسوة ذلك، أي بطء اشتغال هذا النظام وطول مداولاته اللذين يسبقان اتّخاذ القرار، لا سيّما إبّان المواسم الانتخابيّة. وهذا ناهيك عن أنّ قضايانا الكبيرة تصغر كثيراً حين يُنظر إليها من العالم الخارجيّ ومن عواصمه الكبرى.

لكنّ واقع الحال يُلزم بالتعويل على نقاط التقاطع بين المصالح المحليّة ومصالح العالم المشوبة بالانتهازيّة والغرض، وعلى محاولة تكثيرها ورعايتها، والانتباه إلى تجارب التدخّل السابقة وكيف أنّ الطريق إليها اختلطت طلعاتها بنزلاتها، كما طرأت عليها عناصر غير متوقّعة ولا محسوبة كانت تجعل المستَبعَد ممكناً.

وهذا ليس خياراً كماليّاً: ذاك أنّ إقدام الانتفاضة على إلغاء دور الخارج بأكثر ممّا ألغاه الخارج نفسه يعني التعويل المطلق على الداخل. والداخل، في ما يتعدّى البطولة النادرة، لا يستطيع أن يقدّم الكثير. أبعد من هذا، فإنّ الداخل ليس صحّيّاً إلى الحدّ الذي يحتمل التعويل الأحاديّ عليه، بدلالة تفتّت المعارضة، ووجود من يريدون التسوية مع السلطة، وعدم حصول انشقاقات كبرى في النظام، بما في ذلك سفاراته وبعثاته الديبلوماسيّة. وهذه ظواهر لا يكفي الخوف من البطش، على أهميّته، في تفسيرها. فهي انشطارات تغرف من بحر التناقضات الأصليّة، الطائفيّة والإثنيّة وسواها، ممّا يزخر به المجتمع السوريّ، والتي فاقمها النظام وإن كانت سابقة عليه.

فالتعويل على الداخل، في هذا المعنى، لا يفتح إلاّ على إطالة زمن الألم مصحوباً بأنواع من العسكرة المتشرذمة التي تكتمل بها عناصر الحرب الأهليّة. ويجد هذا التعويل غطاءه التعويضيّ في ارتفاع اللغة البطوليّة، المسكونة بالتعفّف والتطهّر وبضيق الأفق المحلي، والتي قد تزكّي نزعة انتحاريّة يصعب الحدّ منها.

وهذا، على عمومه، كلام سهل يعيد إدراج اللغة السياسيّة الجديدة للانتفاضة السوريّة في لغة عربيّة قديمة جدّاً، أكلافها ضخمة وأفقها مسدود.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى