صفحات الثقافة

سروال سوبرمان الداخلي


فارس البحرة

كانت قصص سوبرمان محظورة في بيتنا، كيلا نقلده، فنرمي بأنفسنا من الشرفة، كوننا أطفالاً معرضين للتأثر. هكذا تماماً شرح لنا أبونا و عاضدته أمنا. ربما لهذا السبب كان سوبرمان الشخصية الأحبّ بالنسبة لي، أختلس قراءته عند أبناء الجيران و الأقارب، أرتدي المايو فوق الكولون مدلياً وراء ظهري خرقة بيضاء كانت حتى بضع سنوات خلت تستخدم كحفّاظات لي شخصياً، أنا، سوبرمان الأصلي، كما كنت أصيح معلناً هويتي و أنا أسقط في الهواء، لا عن شرفة الطابق الخامس، حيث كنا نسكن، و إنما عن مسند الرؤوس الخشبي لسرير أمي و أبي باتجاه فراشهما القديم المحشو بصوف مرصوص يهدّ البدن

شعوري بأنني قادم من كوكب آخر أو ربما بأن الآخرين يستخفّون بهذا العربي الذي يظن نفسه أكاديمياً، أطلق سوبرمان مجدداً في فضاء مخيلتي ما إن جئت برلين طالباً العلم. لا أحد يعلم أن الصحفي الهادئ الرزين المتمدن ذا النظارات، هو ذاته البطل الجبار الذي لا يحتاج لأكثر من قمرة تصوير أو مرحاض، ليبدل من هيئته في أعشار الثانية قبل أن ينفر إلى السماء كالشامبانيا و الذكورة

أظن هيئات الألمان و الألمانيات الذين كنت أصادفهم في الأوساط الأكاديمية، يبتسمون بثقة و معرفة و ظهور منتصبة مكتّفين سواعدهم إلى الصدور ساهمت أيضاً في بعث رؤاي السوبرمانية الكامنة. بينهم كنت أشعر أنني العادي الوحيد. من منا سوبرمان إذاً؟ تارة أخبئه في جوفي ليحلق في دخيلتي الحالكة، و تارة يظهر في ملامح و وضعات الآخر، الأوربي، المتأكد العاطف المنقذ البادئ بالخلاصة، لا إله إلا هو. سوبرمان كان حاضراً، سواء كنته أم كانه الآخر، يقطع المسافة الفاصلة بيننا كالدبور، و يختفي

إغراء العرض السوبرماني واضح مكرر في كل الإعلانات. المظهر أهمّ من المخبر، إدعاء القوة هو القوة. لا مكان للأسئلة الجوهرية في بلد الأبطال. المحاضرات الأسبوعية تذكرني باجتماعات رابطة العدل: سوبرمان و الوطواط و البرق و زكّور و الرجل المطاطي و السهم الأخضر و المرأة الجبارة إلى آخر القائمة، يتداولون الآراء السديدة، و أنا أزداد شعوراً بأن العمق الانساني و الفكري الذي أرتجيه للنقاش غائب، يبدو لي أشبه بالسراب، أمام يقين أعضاء الرابطة بآرائهم الجوفاء. عندما استشرت سوبرماناً يقيم إلى جواري في سكن الطلبة و يدرس علم النفس حول رأيه بهذه المخاوف، أكد لي، و هو يهبط باسماً بعد تأدية شقلبتين في أبعد غور من سماء برلين الغائمة، أن ما أفتقده ليس إلا وهماً من أوهام العالم الثالث

لسوبرمان بالمناسبة نقطة ضعف، حجر الكريبتونيت الآتي من كوكبه الأخضر كفيل بإيهان قواه لدرجة كفيلة بإثارة شفقة الأعداء. صرت أراه مدمناً على الكحول، و الأخطر من ذلك، تعذبه الشكوك بأنه واهم، أنه ليس سوبرمان، بل يعتقد بذلك فحسب: فسوبرمان، إن وجد، مجنون مثله يعتقد أنه سوبرمان. و هكذا أخذت ألبس العالم النفسي لصانع هذه الشخصية، ببؤسه و ضعفه و شعوره المرير بالغبن، و محاولته لتبديل ذلك بمعكوسه، بشخصية وهمية يضع فيها عكس ما يذلّه. من الآخِر: سوبرمان وليد أحلام يقظة و مشاعر عجز يومي معاض عنها بالخيال

السروال الداخلي فوق الخارجي هو من جهة إشارة رمزية إلى القلب للضد الذي تجسده شخصية سوبرمان، و من الأخرى إشارة ذات طابع جنسي خصائيّ. فلا يعقل أن يرتدي سوبرمان سروالاً داخلياً آخر، أي سروالاً إضافياً تحت السروالين الظاهرين، فهل هو عار تحت البذلة الزرقاء؟ كيف نقول عار مع أنه يرتدي سروالين؟ هو يؤكد لنا إذاً أنه يرتدي سروالاً داخلياً بأن يرتديه خارجاً، لكنه بذلك يؤكد أنه لا يرتدي سروالاً داخلياً، فهو لم يعد داخلياً عندما صار خارجياً. هذيان حول السروال، حول الداخل و الخارج، حول العري و الستر، وجود الشيء و غيابه، تداع خصائي، تستحضره ظهورات سوبرمان

عالم داخلي مقلوب للخارج، أوهام مسكوبة على العالم الواقعي. يطير في سمائ(نا) الحديثة نفسها، في سماء نيويورك. في الترجمة العربية يسمونها تارة مدينة سالم، و أخرى مدينة سوبرمان. مدينة في رأس سوبرمان، في رأس صانعه، المرعوب المهدّد المحكوم بمثنوية الأسود و الأبيض، الأزرق و الأحمر، الداخل و الخارج، الخارق و العاجز، الحقيقي و الزائف

في نهاية الكثير من قصص سوبرمان يتضح للقارئ أن بعض الأخيار و الأشرار في القصة كانوا مزيفين، العدو صلاح مرتدياً قناعاً، الحبيبة لويس لين، رندة في النسخة العربية، متنكرة، لتلقن سوبرمان، عشقها الأزلي، درساً. كل شيء مزيف، العالم الذي لا يعترف بنا مزيف، فلنكن نحن أيضاً مزيفين، فنبدو بهذه الدعة و تحت جلودنا تلطئ قوانا الخارقة، مثل نبيل فوزي، النسخة العربية من كلارك كينت، الصحفي، عاشق رندة، الذي يتوارى بطل الأبطال وراء نظارته، بين البرنيطة و البذلة الأنيقة

يجرجر سوبرمان في الليل عباءته الحمراء، ثملاً محني الظهر تملأ الدموع عينيه المعشيتين من أضواء السيارات لدى مفترقات شوارع واسعة مهجورة تقريباً تحت المطر. يخترق فتحة مجاري واسعة كالنافذة. أخبرتني صديقة قبل مئة عام أن المعلمة في أبو ظبي حذرت الصف من أن المشاهير أصحاب الأسماء التي تنتهي بمان يهود، و على سؤال إحدى التلميذات: هل سوبرمان يهودي؟ لم تعرف المعلمة بم تجيب. عندما زرت المتحف اليهودي في برلين الصيف الماضي صحبة صديقي العزيز هاني عرقسوسي اكتشفنا أن مبتكر شخصية سوبرمان يهودي فعلاً

نيتشة المتوحد واهن الجسد المخنوق بعبقريته استخدم تعبير السوبرمان مدرجاً فهمه للرجل المتفوق في فلسفته الشاعرية المجنونة. بعد بضع عشرات سنين سيستعير يهودي المصطلح من الألماني المحبوب من النازيين لاحتقاره الضعف، و يضعه في سياق أبعد ما يكون عن الشعر و الفكر، إسماً لنبي العصر، الجبار، الذي ببدلة ممهورة بشعار يروّج به لنفسه يحلّق حارساً المدينة حيث يتناول السكان الآمنون شطائر برغر كينغ و يرتدون بناطيل ليفايز و ربما قمصان تصور سوبرمان، معكوس المسيح، عابراً السماء اللازوردية

التفتت سيدة خمسينية إلى راكب إلى جوارها يتكلم العربية بصوت خفيض بالغ التهذيب عبر هاتفه المحمول و أخبرته أن صوته يزعجها. اعتذر الرجل بأدب، و قام إلى زاوية المقطورة، حيث أنهى المكالمة، و بقي صامتاً أحمر الوجه واجم الابتسامة حتى نزل في محطته. يشبه هذا المشهد في ظني ما خبره يهود أوروبا. لا أقصد أصحاب المصارف، و النافذين منهم، بل البشر العاديين الذين أحرقوا تارة و أذلوا أخرى. قبل أن يدخلوا إلى المرحاض أو قمرة التصوير، و يقذفوا منها بسوبرمان المجنون، الذي يعتقد أنه سوبرمان، و لا يريد أن يتذكر أن سوبرمان مجنون يعتقد أنه سوبرمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى