صفحات العالم

سعي الى تخريب المجتمع السوري بعد تخريب الدولة!

 


مرزوق الحلبي

عندما كتبت هنه أرنت كتابها عن التوتاليتارية فإنها قصدت النموذج الغربي منها كما تجسّد في فظائع الأنظمة الشمولية في أوروبا. ومع هذا فقد أوضحت الخطر الاحتمالي في انزلاق المجتمعات البشرية – كل المجتمعات – إلى حالة البربرية التي تصادر فيها الأنظمة والبيروقراطية الحريات والحقوق وصولاً إلى العزل والإقصاء والتصفية. وقد تكون في الشق الأول من أطروحتها التي تحوّلت إلى مصدر علمي أكاديمي في هذا المجال في كل مؤسسة أكاديمية تحترم ناسها، سعت إلى توثيق حقبتها، وهي المثقفة الهاربة من أتون النازية المحايثة للتجربة الستالينية. لكنها في الشق الثاني، استشرفت الآتي من احتمالات لأنظمة وبيروقراطيات تكرّس نموذج الحزب الواحد والحقيقة الواحدة. وها هو النظام السوري، على جموده وتعنته ودمويته، يثبت صحة أطروحة أرنت وتنظيراتها. ولو أنها بيننا الآن، ترى ما نراه في سورية، لاعتذرت وبكت من ثبوت أطروحاتها، وأضافت فصلاً خاصاً عن سورية!

لقد استطاع مواطن درعاوي أن يثبّت في فضاء «العربية» مقولة لا تزال قابضة على محاولاتي الهروب من قسوتها، ولو إلى أمام. قال: «ألفت نظركِ – وكان يخاطب المذيعة – إلى أن قوات النظام قتلت في بضع أيام العشرات من السوريين وهو ما عجزت عنه إسرائيل التي تحتل الجولان منذ 44 عاماً». لو قالها ممثل الحكومة الإسرائيلية لقلنا إنها دعاية وديماغوغية، وإن صحّت موضوعياً، لكن عندما يقولها مواطن سوري من درعا لم يستطع لأيام طويلة دفن أعزائه، بعد تصفيتهم داخل مسجد أو على أطراف تظاهرة، فإن الحقيقة ستكون أكثر من صاعقة! وهي تختزل المشهد الدموي الحالي المرسوم في سورية ببيروقراطية النظام الأمني، باستبداد على الطريقة العربية السورية، بجمود النظام وتخندقه داخل النسق. وكلها مجتمعة تُفضي، وفق منطق النظام المتكئ على حالة طوارئ دائمة لا على الشرعية المكتسبة من مواطنيه، إلى إعمال القوة لدى بروز السؤال، أي سؤال. فالنظام السوري كغيره من الأنظمة الأمنية الاستبدادية يتحرك بفعل استجابات بافلوفية ودفاعية أوالية نزقية وعصبية حيال كل صوت أو حركة أو «وجود» غير وجوده. وهو وجود يستشعر «الخطر» الدائم عليه، ليس فقط بفعل نمط التحشيد والتجنيد والتعبئة تجاه الخارج كاستراتيجية بقاء، بل لكونه نظاماً لا شرعياً في نظر نفسه كانعكاس للا شرعيته المتراكمة طبقة فوق طبقة في أعين الشعب. وهو قادر بالغريزة وسليقة المستبدّ على تفسير وتأويل كل ما ليس مألوفاً أو غير معروف له على أنه التهديد الذي لا بدّ من إزالته فوراً!

إن إطلالات بثينة شعبان التي اختارت أن تلعب دور المثقف المنافح عن السلطة حتى في أسوأ أداء وأكثره عنفاً، أثارت حفيظة الشعب أكثر مما طيبت خاطره. وهكذا كل استراتيجيات احتواء غضب الناس وانتفاضة المجتمع ضد الدولة الأمنية والنظام الشمولي. فماذا تعني أخبار صدور مراسيم رئاسية بتشييد مشاريع في بانياس أو اللاذقية أو الرقّة، سوى أنها بؤس على بؤس واستخفاف بعقول الناس على إقصاء مستدام؟ وماذا يفيد الآن بعد خراب البصرة – حقيقة ومجازاً – الحديث عن إصلاحات وتعديلات وتصحيح سوى أنها عودة على كلام سوفياتي في الوقت الضائع؟ وماذا يعني تسيير تظاهرات تأييد للنظام والرئيس – وقد لا تكون بالإكراه – سوى نوع من إقناع الذات والعالم أن ثمة مَن يقول «نعم» وعليه، فإن الدنيا لا تزال بألف خير، وأن هناك مَن يقدّر فضل الأب والابن! وأعتقد أنه نوع من حديث النظام لنفسه ليس أكثر، ونوع من القول: «أنني ليس بهذا القبح» بعد النظر في المرآة التي تطالعه من أصوات الناس.

قدّم النظام في سورية نفسه على أنه اختزال للوطن والدولة والمصلحة العامة والخاصة. وصوّر نفسه على طريقة، وصفتها أرنت وغيرها، من أن كل ما يعتريه ينعكس على تلك الكيانات المنفصلة عن بعضها وإن ارتبطت ضمن عقد دستوري وفي حيز جغرافي. بمعنى، أن وجودها من وجوده هو! وهولا يزال على هذه الصيغة من الاعتقاد والأداء. وكلما اتسعت موجات الاحتجاج المطالبة بالحريات والكرامات المهدورة استشرست أجهزة النظام في «إقناع» الناس ببطلان دعواهم وهتافاتهم، لأن «الحقيقة» في نهاية المطاف في الرئيس ورهطه، وإذ لم تكن هناك ففي احتكاره القوة! أما تحدي الناس لهذه القوة (التي يخالها النظام مطلقة!) بتضحيات جسام، فإنه يكشف جنيولوجيا النظام بعرض مقطع عمودي وصولاً إلى نقطة ارتكازه. فالنظام في تعامله مع الهبات المتماوجة يعتقد أنه لا يمتلك القوة والمال والأجهزة الضابطة كلها فحسب، ولا الحقيقة السرمدية مذ قال لها «كوني فكانت» فقط، بل الفرد على أدقّ تفاصيل حياته ومشاعره وخلجات صدره وأمانيه ومصيره! النظام يمتلك الدولة والمجتمع ومقدراتهما، كما يمتلك الأب في المجتمع البطريركي أولاده وبناته وداره. ومن هنا، هذا اليُسر الظاهر في الأشرطة المهرّبة، في قصف أعمار الناس لأنهم قالوا «كفى» أو سألوا سؤالاً أو قالوا «لا»! هذه السهولة المُهلكة في قنص المتظاهرين كي لا تتضح حيثيات الجريمة، في دق أعناقهم، وجلدهم وإذلالهم – كما في كتاب مصطفى خليفة «القوقعة» الصادر عن دار الآداب – وفي إنهاكهم على عتبات المعتقلات ودوائر الأمن – كما في «أرجوحة» محمد الماغوط و«سياف الزهور» و«سأخون وطني».

أما وقد أخفق النظام الآن في تصريف أزمته ونقيضها، حريات الناس وكراماتهم وحقوقهم وحياتهم، فإنه شرع يُصدّر الأزمة إلى خارجه في المسار ذاته الذي صدّر فيه فائض قوته في العقود الأربعة الخيرة! فقد شرع في الأيام الأخيرة يردّد وقوف جهات لبنانية وراء موجة الاحتجاج في المحافظات الشمالية محاولاً أن يلقي على لبنان، الحلقة الأضعف إخفاقه وسوء أدائه وسقوط هيبته – (وهي، ليست الشرعية في أي حال)! وكان وجّه مثلها إلى جهات في الأردن والمملكة العربية السعودية، من قبل. أي أنه يحاول الآن جاهداً تكوين طبقة أخرى من نظرية المؤامرة الوافدة من الخارج، وهي هذه المرة «طبقة عربية»! ولنفترض جدلاً أن في هذا الكلام صحة لجهة أن أطرافاً عديدة معنية بخروج النظام من المسرح، فهل هذا وحده يفسّر امتداد الاحتجاج من درعا في الجنوب وصولاً إلى بانياس واللاذقية مروراً بريف الشام ودمشق وحمص وحماة وسائر المحافظات؟

من عادة الأنظمة الاستبدادية – بصيغتها العربية، أيضاً – أن تنتهي انكساراً لا اختياراً. ولا نعتقد أن النظام في سورية الأسد يشذّ في منتهاه عن هذا المسار. ويبدو لي أنه اختاره بملء إرادته كونه كان على هذا النحو، منذ كان. أي، أنه استنفد كامل الاعتماد الممنوح له من جيلين أو ثلاثة من الشعب السوري وانكفأ الآن يُعمل معوله في تفكيك المجتمع وضربه ببعضه طائفياً وعرقياً ودينياً مخلفاً وراءه – أو هكذا يعتقد – خراباً في المجتمع بعد أن أفسد الدولة وأهدر مواردها. هذه هي أداتنا الوحيدة لتفسير ما قاله المواطن الدرعاوي لمذيعة «العربية»!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى