صفحات العالم

سفاح جلق

 

ميسر الشمري

سورية تحترق. الشعب السوري يُذبح بالمُهل والمؤتمرات. عدم توافق المجتمع الدولي أعطى نظام الأسد عشرات الفرص لارتكاب المجزرة تلو الأخرى. أبشع الأنظمة عبر التاريخ لم تضع الأطفال دروعاً بشرية. الأسد فعل ذلك بخِسَّة. حرائر سورية اغتُصبن. علماء المسلمين يناقشون جواز إجهاض المغتصبة من عدمه. حصل ذلك في التاريخ البعيد. الأسد لا يعيد إنتاج التاريخ، لكنه يريد أن يزيد عليه صفحة من البشاعة واللانسانية.

صحيح أن هناك أصواتاً عدة حاولت – ولا تزال – أن تقول للمجتمع الدولي إن هناك جريمة يندى لها جبين الإنسانية، لكن هذه الأصوات اصطدمت بجدار العهر السياسي الذي تقاسمته – في هذا العصر الذي أصبحت فيه السياسية تدار كما المواخير – كل من روسيا والصين وإيران.

شعوب العالم تغلي وهي تتابع ما يجري في سورية. الناس تغتسل بماء الصبر على حكام توضأوا بالقذارة السياسية. أميركا تنتظر قرار إسرائيل. أوباما رهين لونه. الاتحاد الأوروبي الذي تدين غالبية شعوبه بالمسيحية ما زال يتعلم كيفية صلاة الاستخارة لدى المسلمين. الأتراك يراقبون تحركات حزب العمال الكردستاني من أعالي الأناضول وعيونهم على جبال قنديل. العالم العربي مشغول بصعود «الإخوان المسلمون» في دول «الربيع العربي»، وعيناه على ما يكتبه جيل تحرر من عبودية الرقابة بفضل مواقع التواصل الاجتماعي. عروش أصبحت ترى في «تويتر» قبورها وفي «فيسبوك» أكفاناً لعروش أينعت ولم يحن وقت قطافها بعدُ.

الأسد يدرك كل هذه المعطيات. الذين حوله يعيدون عليه مشاهد مقتل القذافي كلما لاحظوا أنه تراخى في الحل الأمني، وهو بلا شك لا يريد مصيراً مثل مصير زميله القذافي، فيزداد حباً للدم فيعمل آلته الحربية في الشعب الأعزل. الأسد ليس دموياً أو سيئاً كما يقول من عرفوه، لكنا عرفنا – خلال الثورة السورية – أن السوء يتبرأ منه، ولو أنه استعاذ من الشيطان لخرج إبليس وقال له: لم أفعل ما فعلته يا فخامة الرئيس.

الثورة السورية مرحلة مفصلية في تاريخ الأمة، ونجاحها يعني – في ما يعني – انتصار المقاومة العراقية واجتثاث أزلام إيران من العراق ولبنان، وبالتالي تجنيب المنطقة صراعاً طائفياً مهدت له الثورة الإسلامية في إيران منذ أن وصل الخميني إلى الحكم في شباط (فبراير) 1979. نجاح الثورة السورية هو نهاية التجاذب الطائفي الذي جعل شعوب المنطقة يتمترسون خلف مذاهبهم، خوفاً من ضياع الهوية. ثوار سورية يصنعون اليوم كفن القلق الذي انتابنا منذ أكثر من ثلاثة عقود. السوريون سيكنسون المد الصفوي الذي وصل إلى شواطئ المتوسط بتواطؤ من نظام الأسد الأب أولاً والابن لاحقاً. ثوار سورية اليوم يكتبون التاريخ بدم عربي. تماماً كما فعل العراقيون في حرب السنوات الثمان. المحابر والأقلام التي سيكتب بها التاريخ من الآن فصاعداً ستكون أقلاماً عربية لا أعجمية. ثوار سورية سيجعلون أبو الطيب المتنبئ يخجل من كل كلمة مدح قالها في بنات فارس وأعياد النيروز.

ثوار سورية يصنعون سفينة خلاص الأمة. أتمنى صادقاً أن يبقى المجتمع الدولي متردداً حيال الثورة في سورية، ليفاجئه الثوار ذات صباح أغر وهم يقرأون البيان رقم واحد عبر إذاعة دمشق. عندها سترتفع بساطير الثوار فوق رؤوس المتخاذلين.

لا يساورني شك في أن دمشق قاب قوسين أو أدنى من أيدي الثوار. الدم ضريبة الحرية، والدم السوري الذي استباحه الأسد وزمرته الفاسدة سيكون ثمنه غالياً، ليس على الأسد فحسب، بل على المجتمع الدولي الذي ترك «سفاح جلق» (وجلق منه براء) يعربد في دماء الشعب السوري لأكثر من عامين من دون أن يرف له جفن. أخيراً أقول لثوار سورية من درعا جنوباً إلى إدلب شمالاً ومن دير الزور شرقاً إلى اللاذقية غرباً: إن «النصر صبر ساعة» وقد صبرتم شهوراً. أنتم الآن تكتبون بيان الثورة الأول بدماء أطفالكم. هذا كله سيصبح جزءاً من تاريخ أنتم من أراد أن يصنعه، وعليكم ألا تدعوا الآخرين يصنعون تاريخكم بعد انتصار الثورة. تسامَحوا. تسامَوا على الجراح. أعطوا من تخاذل عن اللحاق بالثورة فرصة ليكفر عن خطئه. العلويون والدروز والأرمن والسريان والتركمان والأكراد والمردلية جزء من نسيج سورية فلا تمزقوا هذا النسيج الذي حماه أجدادكم بالدم كما تفعلون أنتم اليوم.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى