بكر صدقيصفحات مميزة

سقوط الدولة وبقاء النظام


بكر صدقي *

منذ دخل مقاتلو الجيش الحر مدينة حلب غابت شرطة المرور تماماً عن المدينة التي باتت تعيش فوضى مرورية عارمة. الاتجاهات الممنوعة أصبحت سالكة، والإشارات الضوئية تنقطع بانقطاع الكهرباء. ربما شكل هذا الوضع المثال الأبرز على انهيار الدولة في سورية.

ولكن، هل كانت الدولة موجودة أصلاً حتى أمكنها الانهيار؟

لا نأتي بجديد إذا قلنا إن الشيء الذي كان يحكم سورية هو «نظام» يشبه الدولة بمعناها المألوف. كانت لدينا مؤسسات حكم كمجلس الشعب الذي يشبه المجالس التمثيلية (البرلمانات) في معظم دول العالم، ومجلس وزراء يشبه نظراءه في العالم، ووزارات ومديريات محلية تابعة لها، وإدارة جمركية، ومؤسسة قضائية وأخرى تعليمية وصحية وبلدية وجيش وشرطة وسجون… بل أكثر من ذلك، تضخمت الدولة في سورية بسبب اقتصادها الاشتراكي، فكانت النتيجة أن أكثر من ثلث السكان يعيشون على الرواتب التي يحصلون عليها من «الدولة». ولأن سورية دولة مقاومة وممانعة وضع نظامها الحاكم نصب عينيه هدف تحرير الجولان المحتل ودحر إسرائيل والمساهمة في تحرير فلسطين التي مضى على إقامة الكيان الاستعماري الإسرائيلي على أرضها 64 عاماً، فقد تطلبت هذه المهمات الجسام إقامة جيش متضخم يبلغ عديده نحو نصف مليون عسكري. ولأن هذه المهمات تحولت من برنامج عمل قابل للتحقيق إلى «قضايا» مزمنة تصلح لأن تكون موضوعاً للشعر أكثر منها هدفاً للعمل، خرج النظام الذي تنكبها من الزمن التاريخي ودخل الزمن الأسطوري الدائري. وللخروج من هذا المأزق الذي يقوم على نظام ديكتاتوري شديد الواقعية إلى درجة الابتذال يلبس مع ذلك لبوس الأسطورة، كان لا بد من تدعيمها بأجهزة شديدة الخشونة نسميها بـ «المخابرات» التي تضخمت باضطراد كلما ارتفع عدد السكان وتزايد الطلب على الضبط والمراقبة والعقاب والفرمتة الاجتماعية، وكلما ازدادت القضايا تعقيداً وأزمنت.

ومنذ مبدأ الثمانينات حشر نظام حافظ الأسد الأقلوي نفسه في زاوية البحث عن شرعية، فوجدها في شخصنة الحكم وتأليه الحاكم الفرد على مثال الأخ الأكبر الأورويلي الذي تراك عينه البصيرة أين ما اتجهت، فانتشرت التماثيل والصور المرعبة في كل مكان، وحدث ما يسميه مثقفو المعارضة بحق «ابتلاع النظام للدولة». أي أن النظام أكبر من الدولة، يغطيها ويفيض عنها.

حين اندلعت ثورة الحرية والكرامة منتصف آذار (مارس) 2011، ضحى النظام قبل كل شيء بالدولة ووظائفها العامة، من خلال اعتماده الكبير على عصابات الشبيحة المأجورين في قمع التظاهرات السلمية. أي أن الدولة تخلت عن احتكار العنف المشروع وعملت على خصخصته على نطاق واسع. وأرغم موظفون في مؤسسات الإدارة، بما في ذلك معلمو المدارس، على المشاركة الفاعلة في قمع الثورة السلمية، في حين بات توفير الكثير من الخدمات العامة خاضعاً لخطط أجهزة الأمن وسياساتها، كالاتصالات التي يتم قطعها حين يتعلق الأمر بمداهمة حيّ لاعتقال ناشطين أو مشتبهين بنشاطهم المناهض للنظام. ومثل ذلك في قطع الكهرباء والماء وتوفير الاحتياجات المعيشية الأساسية.

بموازاة تصاعد الثورة السلمية واتساع نطاقها الجغرافي وتضخم ميليشيات الشبيحة، ارتفعت وتيرة البناء المخالف لمصلحة الشبيحة والمؤيدين. وعموماً أصبحت مخالفة القوانين هي القاعدة. وأدى زج الجيش في الصراع الداخلي إلى انشقاقات متصاعدة لجنود وضباط من الجيش هرباً من تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم بمواجهة التظاهرات السلمية بالعنف المنفلت. فتشكل ما بات يعرف باسم الجيش الحر الذي انضم إلى صفوفه أيضاً مدنيون حملوا السلاح دفاعاً عن أحيائهم وقراهم وأهاليهم. وفي المناطق المحررة التي سيطر عليها الجيش الحر، تخلى النظام عن وظائف أساسية أخرى للدولة أبرزها ترحيل النفايات. وانتقلت هذه المهمة إلى متطوعين من السكان أو من مسلحي الجيش الحر وتنسيقيات الثورة. ومثل ذلك في ما يتعلق بتشغيل الأفران وتأمين الخبز للسكان.

بيد أن الانهيار المشهدي للدولة المخطوفة من النظام تجلّى في تحرير مقاتلي الجيش الحر المعابر الحدودية مع تركيا والعراق، فباتت الحدود سيالة وخارج سيطرة الدولة والنظام معاً. كان رد النظام على ذلك معبّراً جداً: انسحب من الشريط البري المحاذي للحدود مع تركيا لمصلحة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، في حركة تشبه تخلي ديكتاتور السودان عمر حسن البشير عن جنوب السودان مقابل التخلص من ملاحقة محكمة الجنايات الدولية. وكان النظام عقد، منذ بداية الثورة السورية، مع قيادة الحزب المذكور المتمركزة في جبل قنديل على الحدود العراقية – التركية، اتفاقاً سرياً منحه بموجبه حرية الحركة في المناطق ذات الغالبية الكردية، مقابل منع المشاركة الكردية في الثورة وتصعيد العمليات العسكرية ضد تركيا التي انحازت حكومتها إلى الشعب السوري. ومضى الحزب الكردستاني في إقامة حواجزه المسلحة ورفع علمه الحزبي وإقامة مؤسساته والقيام ببعض الوظائف الحكومية. وقام بإجراء انتخابات تشريعية وبلدية انبثق منها «مجلس شعب غربي كردستان» ومجالس محلية بلدية ولجان شعبية لضبط الأمن ومحاكم ومعتقلات ومراكز ثقافية لتعليم اللغة الكردية، استخدمت أكثر لتجنيد الشبان الكرد في صفوف الجناح العسكري للحزب.

هكذا، تخلى النظام بروح رياضية عالية عن مبدأ السيادة الذي طالما أكده مندوبه في الأمم المتحدة بشار الجعفري كلما تعلق الأمر بانتهاكات حقوق الإنسان. وهذا على أي حال موقف «مبدئي وثابت» للديكتاتوريات العربية التي لا تتمسك بمبدأ السيادة إلا حين تتلقى انتقادات دولية لانتهاكاتها وفظاعاتها، في حين أنها شديدة المرونة أمام كل الانتهاكات الحقيقية والصريحة لسيادة دولها، كما حدث مثلاً حين حلقت طائرات إسرائيلية فوق قصر الرئيس السوري في اللاذقية قبل بضع سنوات. والمفارقة أن نظامه طالما اختزل الدولة وسيادتها في شخص الرئيس «سيد الوطن».

استيقظ السوريون والعالم، قبل أيام، على مفاجأة من العيار الثقيل: انشقاق رئيس الوزراء رياض حجاب وهروبه، ولم يمضِ على تعيينه على رأس «حكومة الحرب والمصالحة الوطنية» أكثر من شهرين. حاول أبواق النظام وجمهور مؤيديه التقليل من شأن هذا الانشقاق، مرةً بإعلان «إقالته» من منصبه (ولا نعرف لماذا) ومرة بالاعتراف الصريح بأن رئاسة الحكومة منصب هامشي لا قيمة له في نظام قائم على قيادة أجهزة المخابرات «للدولة والمجتمع».

على أنقاض «دولة» العائلة الحاكمة، تقوم اليوم نُوى دولة سورية الجمهورية الوليدة: جيش وطني جديد يكبر بتناسب عكسي مع تضاؤل حجم جيش النظام وتفككه، مناطق محررة تتسع باضطراد من احتلال النظام، متطوعون يقومون بوظائف بلدية متنوعة، تضامن اجتماعي وطني يزداد قوةً باضطراد، مقابل ارتفاع وتيرة تفكك النظام وقفز فئرانه من السفينة الغارقة.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى