صفحات العالم

سقوط وسط ما بعد الـ١٩٨٩ الأميركي/ سامر فرنجيّة

 

 

 

إذا صحّت استطلاعات الرأي، ويبدو أنّها لن تخطئ، فسيكون مرشح الجمهوريين للانتخابات الرئاسية دونالد ترامب، على رغم الاعتراضات المتأخرة والخجولة للمؤسسة الحزبية الجمهورية. فالمرشح الذي استبعده الجميع في بداية الموسم الانتخابي، لتطرفه المخيف وقلة خبرته السياسية، تحوّل خلال أشهر إلى عنوان رئيسي للمعركة الانتخابية، من خلال الانقسامات والتجاذبات التي أدخلها على الساحة السياسية.

فبغض النظر عن أيلولة الأمور، نجح ترامب في أن يحوّل منطق السياسة الداخلية الأميركية، من خلال إدخاله عنصراً جديداً في الانتخابات، وهو «الرجل الأبيض الغاضب»، وزعزعته خطوط الانقسام السياسي التقليدية. بهذا المعنى، يشبه صعود ترامب ظاهرة «داعش» في استعماله التطرف كتقنية سياسية تهدف إلى تحويل شروط اللعبة السياسية وفرض واقع جديد يؤكد بأثر رجعي أحقية تطرّفه.

يعلّق البعض آمالهم على «حكمة» المؤسسة الحزبية الجمهورية للوقوف في وجه ترشيح ترامب، وبالتالي في وجه التصويت الشعبي له. غير أنّ آمالاً كهذه باتت متأخرة، ويبدو أنّ أي اعتراض مؤسساتي قد ينتهي بانقسام الحزب، وبالتالي انتهاء نظام الحزبين في الولايات المتّحدة مع إمكان ظهور حزب ثالث متطرف. وتنّم صعوبة كهذه أيضاً عمّا لحظه الرئيس الأميركي باراك أوباما، من أنّ ترامب، على رغم تطرفه الظاهر، لا يشكّل استثناءً في الحزب الذي باتت أكثرية مرشّحيه من صفوف المسيحيين الجدد وحزب الشاي والشق الشعبوي منه. فالتحالف بين يمين اقتصادي ومحافظة اجتماعية ومصالح الأثرياء، الذي قام عليه الحزب الجمهوري، بات على وشك الانهيار تحت وطأة الموجة الشعبوية التي أطلقها الحزب نفسه.

وهناك بوادر لأزمة حزبية مماثلة في الضفة المقابلة، وإن كانت أقلّ حدّة، حيث تواجه مرشحة «المؤسسة» الحزبية أكبر تمرّد يساري في الحزب الديموقراطي منذ عقود. وقد تستطيع كلينتون، ومن ورائها الحزب، صدّ التحدي الذي تطرحه سيطرتهم على ساحة اليسار الليبرالي، غير أنّها خسرت الكثير نتيجة حملات خصمها بيرني ساندرز، وتحوّلت إلى مجرّد مرشحة لـ «الوسط» تواجه «متطرفين»، أو مرشّحة للأمر الواقع والمؤسسة في وجه «المراهقة السياسية»، وهذا بعد رئاسة لباراك أوباما قامت على شعارات معاكسة تماماً. ويتكرّر هذا المشهد في باقي الدول الغربية، حيث يجد «الوسط السياسي» نفسه، كما يسميه الكاتب فريد زكريا في مقالته في الواشنطن بوست (٢٥/٠٢/٢٠١٦)، محصوراً بين صعود يمين متطرف ومعارضة يسارية متجدّدة. فإذا كان صعود اليمين تحوّلاً لا عودة عنه، بخاصة مع تفاقم مسألة الهجرة والأزمة الاقتصادية، فالجديد كان في صعود يسار خارج عن تسوية الحرب الباردة، تمثّل بصعود تحالف سيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا، وربّما الأهم، سقوط «حزب العمال» البريطاني، الحزب اليساري الرئيسي في تسوية ما بعد الـ١٩٨٩، في يد يسار قام على رفض مشروع توني بلير ويساره الوسطي.

قد ينجح «الوسط» في البقاء في الحكم في وجه الاعتراض المتزايد، لكنّه فقد براءته ليصبح الدفاع عنه دفاعاً عن شر لا بدّ منه في وجه تطرف غير معروف النتيجة. وهذا هو الدفاع الذي قدّمه فريد زكريا للوسط السياسي كأحد مكتسبات انتهاء الحرب الباردة والمعقل الأساسي لعقلانية سياسية تستبدل الأوهام ببراغماتية تقنية. فمشكلة «الوسطيين»، وفق الكاتب، هي في أنّهم يدفعون ثمن عقلانيتهم ونجاحهم اللذين يخلوان من أي إثارة أو رومانسية سياسية. فالديموقراطية تحتاج إلى أحاسيس، والوسط لا يلهم المشاعر.

إذا كان دفاع زكريا غير مقنع، فهو قد يكون محقاً في وضع الانتخابات الأميركية الحالية والتحديات الأوروبية في سياق مرحلة ما بعد الـ١٩٨٩ وأزمتها. التسوية الأيديولوجية التي أسسّت لنظام ما بعد الحرب الباردة بدأت بالانهيار، أكانت لناحية الآمال التي أحاطت بالعولمة والنظام العالمي، أو شقها القائم على انتهاء الصراعات الأيديولوجية والقومية واستبدالها بمسائل ثقافية و «جامعة». وهذا الانهيار ليس نتيجة مراهقة يسارية أو شعبوية يمينية، أو بكلام آخر، رومنسية تحاول العودة إلى السياسة بعد أن طردها العقل. بل هو مرتبط بترنح القواعد الفعلية لهذه التسوية، أكانت الأزمة الاقتصادية العالمية التي جاءت في أعقاب عدد من الأزمات المالية في العقدين الأخيرين، أو أزمة النظام العالمي التي بدأت مع حرب العراق وتفاقمت مع الأزمة السورية أو أزمة المؤسسات الأوروبية واستمراريتها.

سينجح هذا الوسط في المستقبل القريب في صد الاعتراضات المتزايدة عليه. غير أنّ عملية إعادة تقييم مرحلة ما بعد الـ١٩٨٩ بدأت. وقد لا تكون البدائل عن هذا النظام مغرية، بيد أنّ التمسّك به وبوسطه لم يعد يوفّر مهرباً من إعادة التقييم هذه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى