عمار المأمونمراجعات كتب

سلافوي جيجك ينتقد الابتزاز الأوروبي للاجئين الهاربين من الموت/ عمار المأمون

 

 

يشهد العالم الآن أزمة نزوح لم يعرفها من قبل؛ مئات الآلاف من المهاجرين يتركون أوطانهم التي تدميها الحروب والتشدد الطائفي، بحثا عن بلاد تحتضنهم وتحفظ حياتهم، إلا أن هذه الهجرات وحركة اللجوء التي تعتبر الأكبر في العصر الحديث منذ الحرب العالمية الثانيّة، تطرح الكثير من التساؤلات والمشكلات على صعيد الاحتكاك المباشر بين ما يسمى الغرب والشرق؛ منظومتان للقيم تحاول كل منهما استيعاب الأخرى أو تهديمها، هذه التغييرات وما يرافقها من أحداث عالمية هي محط انتباه الكتاب والمنظرين، وخصوصا في ما يتعلق بـ”سلوك” اللاجئين الجدد و”ممارسات” البلدان المضيفة حكومات وسكانا.

تهديد لم يأت من فراغ

يقارب سلافوي جيجك في كتابه “ضد الابتزاز المزدوج، اللاجئون والرعب وبعض القضايا مع الجيران” القضايا المتعلقة باللاجئين الوافدين على أوروبا، والتشدد الديني بمختلف أنواعه، وهيمنة رأس المال العالمي ودوره في ما يحصل، ويرى أن الحل بأيدينا نحن، علينا أن نقف في وجه هذه السلطة العابرة للقارات، لنكون حسب تعبيره تمثيلا حيا للتغيير، الذي يمكن لنا أن نقوم به عبر وسطاء لتحقيق تغييرات جذرية في منظومة عمل المجتمع وتعريفاته.

ويعتبر الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني جيجك من مشاهير عالم الفكر في القرن العشرين، هو أشبه بجوني ديب في هوليوود؛ أفكاره وكتبه اليساريّة ومواقفه التي يطغى عليها الطابع الماركسي واللاكاني مازالت تثير الجدل وشهية وسائل الإعلام، وخصوصا في ما يتعلق بتعليقه على القضايا المعاصرة والآنية.

الابتزاز المزدوج

سلافوي جيجك يقارب القضايا المتعلقة باللاجئين الوافدين على أوروبا، والتشدد الديني بمختلف أنواعه، وهيمنة رأس المال العالمي

يرى جيجك، في كتابه الصادر عن “منشورات ألين لاين”، بالمملكة المتحدة، أن أوروبا تعيش في بيت زجاجي صنعه رأس المال العالمي من أجل عزلها عن العالم، فهي تشاهد فقط ما يحصل، وأن اللاجئين الجدد، الذين يعبرون البحر، هم تهديد لهذه البنية الزجاجية، إذ من الممكن لهؤلاء “الوافدين” أن يغيّروا الحياة اليومية للأوروبيين ويؤثروا عليها، وهنا يستخدم جيجك اعتداءات باريس الأخيرة كمثال، فما حدث هو اعتداء على التفاصيل الاعتيادية للأوروبيين، أو على “نمط العيش” بصورة أدق.

ويعتقد المؤلف أن مواقف الأوروبي تجاه هؤلاء الوافدين، تحمل ابتزازا مزدوجا، وكلا الفريقين الداعمين لفتح الحدود أو الداعيين إلى إغلاقها يمارسان دورا ضد اللاجئين، وكل حسب منطقه، فبالرغم من أن الداعين إلى إغلاق الحدود وترك “الآخرين” ليغرقوا في البحر كي يحموا “نمط حياتهم” قد يبدون الأسوأ والأكثر عنصريّة، إلا أن الأخطر، هم أولئك الداعون إلى فتح الحدود، بالرغم من أن دعواهم تبدو إنسانية، إلا أنهم ضمنيا يعلمون أنه من المستحيل فتح الحدود بصورة كاملة، وهذا المنطق يجعلهم يحافظون على التفوق الأخلاقي أمام غيرهم.

كما أن منطق “الحدود المفتوحة للضحايا” يعبر عن اختلاف جوهري في القيم بين الاثنين؛ بين صورة الإنسان الأوروبي عن نفسه، وصورة القادم الجديد الذي يسعى إلى تدمير هذه الصورة، وهنا ينطلق جيجك من موقفه اللاكاني، مؤكدا أن هذه الصورة التي يمتلكها الأوروبيون عن أنفسهم هي ليست حقيقية، بل هي محض كذب، أنتجتها الصناعة الثقافية الرأسمالية، وهي التي خلقت وهم التفوق الأخلاقي والمنتجات و”التصرفات اليوميّة” المرتبطة به.

التشدد الديني

يناقش جيجك لاحقا مفاهيم التشدد الديني والعلاقة بين الدين والسياسة، ومعظم الأحداث المرتبطة بذلك، سواء تلك التي تمثلها إسرائيل أو الدولة الإسلامية وغيرهما، ويذكر أن السبب الأول لقوة داعش وحضوره هو تركيا التي تتحكم في الحدود، فهي تتحكم في عدد اللاجئين بل وتدعم داعش بوصفه يحارب الأكراد، يأتي ذلك في سياق موقف جيجك مما يحدث في المنطقة، بوصفه حربا دينيّة، سواء بين المسيحية والإسلام، أو بين تيارات المسيحية نفسها وتيارات الإسلام نفسه.

سرد مثير للقصص المرعبة لعابري البحار

ويرى أن هذه الحروب والتكتلات ليست إلّا سعيا إلى الهيمنة الرأسمالية التي تأخذ من الدين وسيلة لبسط نفوذها، وأن المهاجرين واللاجئين ليسوا سوى نتيجة لهيمنة رأس المال العالمي والتصنيفات الدينيّة والمؤسساتية، ويخص الموقف اليساري تحديدا الذي ينتقد الإسلاموفوبيا، لكن يجعل من انتقاد الإسلام نفسه تابوها يمنع الخوض فيه، وكأن الإسلام كدين لا كمؤسسة منيع ضد رأس المال العالمي.

أين الطاغية

الملاحظة الأكثر أهمية حول كتاب جيجك الذي من المفترض أن يتناول قضية اللاجئين، هي الغياب الكلّي للطاغية، أو الدكتاتوريات التي شهدتها وتشهدها المنطقة، هو فقط ينوه بأن “الحروب” هي نتيجة فشل نموذج الدولة المعاصرة الذي عاشته المنطقة العربيّة، بل ويكتب بدقة أن سبب مشكلة اللاجئين هو رأس المال العالمي وهيمنته السياسية أو تدخله العسكريّ، فهو يتعامل مع الطاغية ووجوده كحقيقة لا تناقش.

كما أن مفهوم الثورة أو “الربيع العربي” لم يحضر ولو في جملة واحدة تصف “المهاجرين عبر البحار”، وكأن أنظمة القمع والبطش التي عايشها هؤلاء اللاجئون لم تكن السبب الرئيسي لرحيلهم وتهجيرهم. كما نراه لاحقا يقدم تفسيرا غرائبيا لأحداث كولونا في ألمانيا، بوصفها ظاهرة كرنفاليّة، مقاربا مفهوم باختين عن الكرنفال.

ويصف جيجك ما حدث بعدميّة وتمرد؛ فهو لا يهدف إلى أي شيء، بل هو تعبير عن إحباط أولئك الأقل حظا، الذين يغيظهم “نمط الحياة” في أوروبا، وحقوق المرأة فيها التي يرى أنهم مدركون لها بدقة، لكنها تختلف عن مفهومهم للمرأة ودورها، ويرى أن اختيار الكثيرين منهم للدول الأسكندنافية هو سعي إلى العيش في اليوتوبيا الأوروبية التي لن يجدوها، وهذا ما يشكل المصدر الرئيس للإحباط الذي يؤدّي إلى هكذا ظواهر.

العرب

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى