صفحات الرأي

الإسلام السياسي يتحول إلى شعبي/ إبراهيم غرايبة

 

 

تحوّلت فكرة الإسلام السياسي، بمعنى برنامج تطبيق الشريعة الذي حملته جماعات إسلامية سياسية، وشاركت في الحياة السياسية على أساسه، أو دخلت في مواجهات مع الأنظمة السياسية، تحوّلت إلى “إسلام شعبي”، تحمله فئات كبيرة من المجتمعات والأفراد، من دون ارتباط بجماعة أو حزب. وفي بعض الدول، تحول أيضا إلى مظلة اجتماعية وسياسية لفئات سكانية، ترى نفسها محرومة أو مهمشة، أو لها مطالب سياسية أو اجتماعية خاصة بها، وتبحث عن شركاء وحلفاء يحملون مطالبها. ولم يعد “الإسلام السياسي” برنامجاً يخص جماعة محددة، أو تدعو إليه مجموعة من أعضاء الجماعات المؤمنين بجماعتهم وبرنامجهم، لكنه أصبح فكرة اجتماعية وسياسية سائدة ومنتشرة، يؤمن بها ناس كثيرون من غير الجماعات، وحتى معارضو “الإخوان المسلمين” ومخالفوهم، بل وتنتجه وتطوره مؤسسات رسمية واقتصادية واجتماعية لا علاقة لها بـ “الإخوان” أو غيرهم من الجماعات. وباعتقادهم أنه، باقتباس أسلوب ونموذج “الإخوان” وتقليدهما، يمكن أن تكتسب الفكرة المؤيدين أو الشرعية. وقد ساهمت الحكومات والمؤسسات الرسمية والاجتماعية في نشر النموذج الـ”جماعاتي” وتمكينه، وصارت الجماعات الإسلامية تحصد مكاسب وأرباحاً صافية مما تنتجه وتقدمه الوزارات والمؤسسات الرسمية والاجتماعية، وهي تحسب نفسها تقدم بديلا للجماعات، لكنها في إغفالها أن “الإخوان” مدرسة وفكرة ونموذج (soft ware) وليست جماعة وأشخاصا (hard ware) فقد أعادت في الواقع إنتاج “الإخوان” وحزب التحرير و”القاعدة”، وساهمت في خدمة الجماعات الدينية وانتشارها، وإكسابها المؤيدين والبيئة الآمنة والملائمة.

وفي تحديثها الخطاب الديني بالمشاركة مع أنظمة سياسية كانت متحمسة لتقديم “إسلام عصري” يلائم الدولة الإسلامية الحديثة، دمرت الحكومات والجماعات الدينية الحداثوية اتجاهات التدين السابقة وأوعيتها، وهذه كانت مظلة شعبية واجتماعية للمتدينين والمجتمعات بشكل عام، مثل جماعات ومؤسسات التدين الروحي والتصوف، والعلمي (المذاهب الفقهية)، فقد قدمت جماعات الإخوان المسلمين ثم حزب التحرير والجهاد والسلفيات الحداثوية نفسها نموذجاً عصرياً لتطبيق الدين يجمع بين المعرفة العلمية والالتزام الديني، واستعانت بها حكومات عربية عدة لتحديث المناهج الدينية، وتخفيف غلو الجماعات التقليدية السابقة، ومواجهة السلطة الدينية والاجتماعية للجماعات الصوفية والمؤسسة الدينية الرسمية، واستطاعت الجماعات الحديثة، أو ما صارت تسمى الإسلام السياسي، بسبب الإمكانات الكبيرة التي وضعت بين أيديها، وفي سلسلة من الأعمال والتدريب والابتعاث، أن تنشئ مؤسسات تعليمية وعامة، تجمع بين الحداثة والتطبيق أو الانسجام الديني. وعلى الرغم من أن معظم الحكومات العربية استبعدت، فيما بعد، أعضاء الجماعات الدينية أفراداً من قيادة التعليم والمناهج والمؤسسات الدينية والإعلامية، فقد ظلت أفكارها وأساليبها في فهم الدين وتطبيقه هي السائدة والمتبعة، حتى لو كان ينفذ ذلك بعدها مخالفون لها، أو حتى معادون سياسياً، فقد كان العداء في الواقع سياسياً، وليس دينياً أو فكرياً.

وكانت أكبر التحولات في فهم الدين وتطبيقه، بالإضافة إلى المناهج والمؤسسات والأسواق “المؤسلمة”، انحسار المذاهب الفقهية، والمؤسسات والاتجاهات العلمية التقليدية في تعليم الدين وتطبيقه وفهمه، والجماعات الصوفية، والطابع الروحي للالتزام الديني. صحيح أنها مؤسسات جمدت وفسدت في المرحلة، لكن “الإخوان” بدلاً من تطويرها وتحديثها دمروها.

الفكرة التي تدافع عنها هذه المقالة هي ملاحظة وعرض استراتيجيات “الأسلمة”، التي اتبعتها

“صارت الحكومات والمجتمعات تعمل ضد نفسها، وتحول نفسها إلى بيئة متطرفة وملائمة للجماعات الخارجة على القانون” الحكومات والجماعات، وأنشأت بها “إسلاماً شعبياً” جديدة مضاداً لأهداف الدول والمجتمعات، وهي ببساطة: شرعية الحاكم من الدين، وليس من القانون والسياسة، وإضفاء الطابع الإسلامي على كل شؤون الحياة ومنظوماتها، والتعليم الديني بعيداً عن مصادره التقليدية، وأيضاً بعيداً عن الفلسفة والفنون، وإضعاف المؤسسات الدينية الاجتماعية، مثل المذاهب الفقهية والجماعات الصوفية، وإقحام المؤسسات الدينية الرسمية في عمليات تسييس الدين والمواجهات والصراعات السياسية القائمة، وتضييع صفة الحياد والمصداقية التي اتسمت بها من قبل، والاعتماد على الإعلام الديني والدعاة الحكواتية الذين قدّموا الدين تقديما مشوقاً ومسلياً، لكنه يخلو من المعنى والعمق والفهم الفلسفي واللغوي والتأويلي العميق.

وبذلك، صارت الحكومات والمجتمعات تعمل ضد نفسها، وتحول نفسها إلى بيئة متطرفة وملائمة للجماعات الخارجة على القانون وعلى العالم. ولا نستطيع اليوم أن نلوم الآخرين، عندما ينظرون إلى العالم العربي عامة على أنه منطقة خطيرة على نفسها وعلى العالم، ولم يعد منطقياً أن نطلب من العالم أن يميز بين الدين والمتطرفين، طالما أننا لم نعد قادرين على التمييز.

ماذا يجب أن نفعل لإصلاح هذه الحالة؟ مؤكد أن الإجابة ليست فقط في مواجهة المتطرفين وملاحقتهم، فلم يعد ذلك يفيد، أما الإجابة البديهية والتقليدية الأخرى عن المواجهة الفكرية والأيديولوجية مع المتطرفين فمحفوفة بالاعتراف بأن ما لدى “المعتدلين” لا يختلف عما لدى المتطرفين، وقد تحالفت من قبل الأنظمة السياسية نفسها مع الجماعات الدينية في مواجهة الاتجاهات العقلانية في فهم الدين وتطبيقه واستبعادها.

الواقع أن الإجابة التي لا مفر منها أننا في مواجهة التطرف يجب أن نواجه أنفسنا، وتلك قصة أخرى طويلة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى