الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دومامراجعات كتب

سميرة الخليل كتبت الحصار… وخطفت/ عبد وازن

 

 

عاشت الناشطة السورية سميرة الخليل يوميات الحصار الذي ضربه النظام السوري على دوما في غوطة دمشق الشرقية قبيل إقدام «جيش الإسلام السلفي» على اختطافها مع رفاق لها في النضال هم رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2013. وخلال هذا الحصار المزدوج، بين أسوار النظام في الخارج والسلطة السلفية في الداخل، راحت سميرة تدوّن يومياتها، وهي يوميات المدينة وناسها، طوال أشهر تمتد بين حادثة المجزرة الكيماوية في 21 آب (أغسطس) ويوم خطفها. هذه اليوميات كادت تضيع لو لم ينقذها أصدقاء سميرة وزوجها الكاتب ياسين الحاج صالح، وهم عمدوا إلى تصويرها وإرسالها إليه من دوما. ولم يكن على صالح إلا أن يعدّها للنشر مضيفاً إليها شهادات أخرى كانت سميرة كتبتها على الفايسبوك في دوما عندما كانت تتوافر «التغذية» الكهربائية. ويمكن القول إن هذه الأوراق أنقذت من السقوط في «الظلام» الذي سقطت فيه سميرة نفسها كما يعبر ياسين، في ختام الكتاب، مسمياً إياه «الداخل المعتم».

الألم المزدوج

أعاد ياسين نسخ اليوميات (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) التي كتبتها سميرة على أوراق مبعثرة وبخط ناعم لا تسهل قراءته، محافظاً على اللغة العامية التي اختارت الكتابة بها وهذا أمر بديهي، ويعترف أن مهمته لم تكن سهلة فهو خلال نسخ الأوراق كان يغالب ألماً ناجماً عن قراءته ألم امرأته في غيابه. ينقل ياسين ما كتبته سميرة مكابداً مأساة مزدوجة، مأساة سميرة والناس الذين تعبر عنهم، ومأساة البعاد عنها بعدما أصبح حقيقة أليمة.

في إحدى الفقرات تبرّر سميرة لجوءها إلى كتابة هذه اليوميات قائلة: «لم تكن في نيتي الكتابة. أكتب فقط لنقل ما يحدث. لعل الكلمة تشرح شيئاً مما يحدث». شاءت سميرة القول إن تدوين هذه اليوميات تحت الحصار لم يكن فعل متعة يوفره عادة مثل هذا الصنف من الكتابة الشخصية أو الذاتية. لم تكتب لتكتب، كتبت لتعبر عما يحدث من حولها والذي غالباً ما يفوق التعبير نفسه. وهذا ما يضفي على كتابتها ميزة البداهة، فهي كتابة صادقة وجارحة في صدقها، مباشرة ولكن على عمق إنساني نادر، بريئة ولكن حارقة بنارها. إنها يوميات مكتوبة لحينها وفي حينها، لم يتسنّ لصاحبتها أن تعيد قراءتها ربما. وهنا تكمن أهمية هذه اليوميات، أي في ما تختزن من لحظات حقيقية تشهد على المأساة، وما تحوي من أحاسيس وانفعالات لا يعيشها إلا من كان في قلب جحيم الحصار.

شاءت المصادفة أن تختطف سميرة الخليل (مواليد حمص 1961) في دوما التي كانت أمضت في سجنها البعثي نحو أربع سنوات بعد اعتقال النظام لها بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي عام 1987. وفي ذكرى خروجها من السجن تسترجع عبر يومياتها في دوما، الذكريات الأليمة التي عاشتها داخل السجن الذي «لم يخرج منها» على رغم خروجها منه كما تقول، لكنها «تترحم» على أيام الأسر عندما تقارنها بأيام الحصار. فالحصار «يتفوّق» على السجن الذي لم يكن سوى «منفى» لا يخلو من الرفاهية على رغم «شح الطعام وقلته». وتلجأ إلى إيقاظ ذاكرة الماضي لتنتشل نفسها من الحصار الراهن، كما تعبّر، مضيفة: «نخرج من السجن ويبقى عالقاً في الذاكرة… هل سنخرج من هذا الحصار معاقين أم معافين؟». وإذا كانت للسجن حكاياته فالحصار له «حكايات تتفوّق عليه قسوة ووحشية». فالسجن هو «رفاهية» حيال الحصار الذي تعده «كارثة إنسانية أخلاقية تعمّ المكان بأسره». الحياة تحت الحصار لا تشبه الحياة بتاتاً: لا خبز ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء… ناهيك عن أنّ لا أمان ولا طمأنينة ولا أمل بل موت وخوف ورعب ويأس تحت القصف اليومي للطائرات وسقوط القذائف التي لا توفر بيتاً أو مستشفى أو ملجأ… لكن الطيران لا يتوقف إلا في الأيام الماطرة : «المطر غزير وناعم، لا طيران اليوم. يخاف الطيار المطر، لكنّ الهاون لا يعبأ بمطر الشتاء». وفي إحدى الشذرات تعرب عن رغبة «طفولية» متمنية لو أن في الغيوم مغناطيساً يبتلع الطائرات قبل أن تغير بصواريخها على الأرض والبشر. ولا تغيب الطفولة أصلاً عن اليوميات هذه ولا عن عين سميرة ومشاهداتها. الأطفال هم الضحايا الأشد براءة ورهافة وهشاشة، ضحايا القصف والخوف والجوع. حرف التاء يتحول في نظر طفل جائع يرسم على باب الخزانة، «صحناً وعليه طعام». وإن كان أطفال كثر يموتون في القصف أو جوعاً فبعضهم يموتون في بطون أمهاتهم قبل أن يخرجوا إلى الحياة، والسبب هو عدم توافر الاستشفاء أو الطبيب. أطفال آخرون يموتون برداً في الشتاء القارس: «قالت لي: توفيت ابنتي وعمرها عشرة أيام، البرد كان السبب، ما قدرت أدفيها، غطيتها وحطيتها تحت الشمس، لكن الشمس ما دفأتها». طفل آخر ارتفعت حرارته فأصبح أخرس وأصم فجأة ولا دواء. وتنقل سميرة عن أم ماتت ابنتها من البرد: «بكيتها كل يوم، لم أضعها على صدري، رحلت جائعة، كان الحليب المتدفق يخبرني عن جوعها، رحلت، كان عليها أن تأخذ قليلاً منه». وتروي عن طفل آخر: «ذهب يحضر الخبز، أتى بربطة خبز، لكن شظايا القذائف اخترقت جسده الصغير. لم يأكل من خبز أتى به. كان يحتضن خبزه بيديه الصغيرتين وكان معجوناً بدمه».

أما الرغيف وسط الحصار الذي كان يضربه النظام فله قصص أخرى مأسوية وتكاد تضحك من فرط مأسويتها. من كان يتصوّر أن يبلغ ثمن الرغيف الصغير الذي هو واقعاً ربع رغيف، مئة ليرة سورية؟ من يتصوّر أن يعجز الفقراء عن الحصول على الرغيف الذي عرف باسمهم ليصبح طعام متوسطي الحال؟ الرغيف الخالي من القمح، رغيف الشعير، رغيف بلا نكهة ولا شكل ولا لون، رغيف شاحب، بطعم الحنطة… إنه رغيف الغوطة «اختراع حصري للجياع».

كارثة الكيماوي

لا تغيب «مجزرة الكيماوي» عن يوميات سميرة الخليل، وكيف تغيب وهي من أقسى المجازر التي شهدتها سورية والتي ارتكبها النظام من غير هوادة؟ تنقل سميرة مشهد الكيماوي وكأنه مشهد أبوكاليبسي: «ضربوا كيماوي. ضربوا كيماوي. أصوات هيجان جماعي في الشارع، سيارات إسعاف، أهالي يهربون بأطفالهم… اختلط الموت مع الهواء في الغوطة». والمشهد الأشد رهبة هو مشهد الأطفال والأمهات الذين ماتوا اختناقاً على أسرّتهم داخل البيوت: «رحلوا بلا ضجيج في غفوة أبدية، رحلوا وتركوا للعالم عاراً أبدياً». 1280 شهيداً، بعضهم تعرّف أهلهم عليهم وبعضهم ظلوا مجهولي الأسماء فدفنوا في مقابر جماعية. لكنّ مجزرة الكيماوي كما قالت بعض النسوة في ما يشبه السخرية السوداء، تظل أرحم من القصف الوحشي: «لا دماء فيها، لا أجسام ممزّقة، ماتوا كامل موتهم، دفنّاهم، لم يخسر أحد منهم قطعة من جسمه».

غير أن سميرة الخليل لم تقصر يومياتها على المشاهدات والانطباعات وعلى نقل الأحوال المأسوية في ظل الحصار، بل هي تتأمل أيضاً في قضايا الثورة والحرب والسياسة… تدوّن في إحدى الأوراق هي التي هربت من دمشق إلى دوما بعدما أصبحت مطلوبة على قائمة النظام: «النظام سكين في خاصرة البلد ولا بد من نزع السكين من الخاصرة كي لا تموت سورية». أما الحرب في نظرها فهي ليست حرباً بين دول بل هي «حرب دول ضد شعب لا يريد سوى حريته وحق الحياة». وتضيف بلهجة قاسية وساخرة: «هي حرب حقيقية وليست لعبة «أتاري» مستوردة. هي حرب تتفوّق بلاأخلاقيتها والعالم يتفرج على أشلاء أناس من لحم ودم تتطاير عبر الشاشات». وتحمل سميرة بشدة على ما يسمى منظمات إنسانية «ستدخل سورية يوماً حين تنتهي الحرب»، منظمات ستأتي «إلى المكان المقفر المدمر الخالي من أناسه»، منظمات «هي كذبة كبيرة». وتحمل أيضاً بقسوة على الأحزاب، أحزاب اليسار واليمين والوسط، وعلى الدول الكبرى والصغرى… ولا تنسى الثورة فتقول: «كانت الثورة للدفاع عن حريتنا، وهي الآن للدفاع عن حياتنا وبيوتنا من خراب عميم». وعلى رغم شعورها بما تعانيه الثورة من تصدّع بعدما دخل على خطها مرتزقة تكفيريون وظلاميون ودوليون تعلن إيمانها بها: «سيكون لهذه الثورة شأن عظيم، ستكون يوماً كنشيد الإنسان يتغنى به العالم بكل مثقفيه».

يختم ياسين الحاج صالح كتاب يوميات سميرة الخليل، رفيقته وحبيبته وزوجته، بما كان كتب عنها من نصوص جميلة ومؤثرة، وفي أحدها يقارن بينها وبين سورية، فهي بعد اختطافها على يد جماعة ظلامية أضحت رمزاً «للبلد المحطّم والثورة المغدورة» بل هي أضحت «مجهولة المصير مثلما هي سورية مجهولة المصير».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى