صفحات الثقافة

سنة في حياة المثقّف العربي/ سامر فرنجيّة

 

مع بداية كل عام جديد، تعود طقوس الاستذكار بعد دورانها السنوي إلى خانتها الأولى، لتبدأ السنة الجديدة – القديمة مع فيض من الكتابات عن ذكرى ثورة «٢٥ يناير» ومصائرها المتعثّرة. وهي بمثابة الحصة الأولى من السنة الدراسية الجديدة، ومفادها «حتمية الخيبة». فمن ميدان التحرير وشبابه المدنيين إلى الإسلام السياسي وقمعه العلماني، لا مكان للثورات في عالمنا المتساقط هذا، يستنتج الكتّاب الذين تحوّلوا إلى قيّمين على أرشيف الخيبة، إلاّ إذا جاءت على شكل الثورة الإيرانية، وهو الحدث التي تختم ذكراه الشهر الأول من السنة.

ومع انتهاء كانون الثاني (يناير)، يكون المثقف العربي قد وضع معايير استذكار ماضيه، القابع بين حدّي سوء حظه الوجودي: سوء الحظ النابع من فشل الثورة الأولى، وسوء الحظ الناتج من نجاح الثانية. فشباط (فبراير) ومناسباته، تؤكد صوابية كانون الثاني، حيث يتذكّر بعض الكتّاب أحد تجليّات الثورة الإيرانية، وهي قضية الفتوى ضد سلمان رشدي، بينما يتحسّر الآخرون على ذكرى «الجمهورية العربية المتّحدة»، وأحلامها التي قُضِي عليها بالأسيد. وسوء الحظ الوجودي هذا، يلخّص تقليداً من الرثاء السياسي، أو بكلام أدقّ، من «رثاء السياسة» في الثقافة العربية، مفاده أنّ الفشل حتمي ومصير السياسة الموت، أكان بطيئاً أم سريعاً.

وبعد شباط، يأتي آذار (مارس)، شهر الثورة – الخطيئة، وحفلات استذكار ما كان قبل السقوط والسرقة والتحوير والتسليح والتطييف والتدويل والتزييف والترييف، أي الثورة قبل أن تكون حدثاً اجتماعياً. إنّه تكثيف لدرس كانون الثاني وتعنيف لمن لم يفهمه بعد، لتتحوّل ذكرى الثورة السورية أداة تأديب لمن لا يريد أن يتذكّر هذا الماضي. فيض من المقالات بات يغطي على صوت بعض اللبنانيين القابعين في مكان ما من هذا الشهر، والذين يتذكرون تظاهرة أرادوا من خلالها الخروج من هذا الماضي، قبل أن تلحقهم الخيبة وتعيدهم إلى صباح يوم واحد من شهر الخطيئة هذا.

ثلاثة أشهر من الخيبة تليها ثلاثة أشهر من طلب الغفران والنقد – الذاتي، تبدأ مع حرب نيسان (أبريل) الأهلية، التي باتت خلاصة شهر آذار، أكان شهر الثورة أم التظاهر. تتحوّل الخيبة إلى مـــسؤولية شخصية، يعتنقها المثقف العربي بوصفه ممثلاً أخلاقياً عن ضمير الأمة، بعدما كان طليعتها. تبدأ حفلات طلب الغفران عن جرائم قام بها آخرون، يقرضها المثقف ذاته خلال الشهر لتتمّ عملية نقدها قبل أن يسترجعها مع انتهاء طقوس الذاكرة. وإذا أصرّ آخرون على تكرار أخطاء الماضي، على رغم النقد – الذاتي للمثقف، فلا مفرّ من تدخّل خارجي، قبل أنّ يتذكر المثقف سقوط بغداد في هذا الشهر، والذي أسقط معه إمكانية الخلاص القادم من الخارج والوعد بإنقاذ الذات من دوامة النقد.

ومع اقتراب الصيف، يبدأ طلب الغفران بأخذ أبعاد أسطورية. في أيار (مايو) النكبة، تصل مشاهد اللطم الثقافي إلى ذروتها، حيث يكتشف المثقف العربي أنّ توقيته وتوقيت العالم باتا يسيران على نحو متعاكس. يحاول البعض تمرير أيار – التحرير كردّ على أيار – النكبة، قبل أن تذكّره أصوات أطفال القصير بأنّ النكبة والتحرير باتا متوازيين واحدهما للآخر. بيد أنّ شهر أيار، على رغم أسطورته، ليس إلا تدريباً على حزيران (يونيو) وهزائمه المتتالية، وهي الخلاصة المنطقية للستة أشهر الأولى من السنة. هكذا، يبدأ شهر نقد – الذات، هذه الذات التي لم تتغيّر منذ أكثر من نصف قرن، والتي غالباً لا تنقد ذاتها، بل ذوات الآخرين.

مهزوماً، يترك المثقف ذاته المنقودة ترتاح بعض الشيء في الصيف، وتمرح ببعض من النوستالجيا البريئة. فيأتي تموز (يوليو) وثورة الضباط الأحرار، ومن بعدها استقلال الجزائز ليتذكّر أحلام الماضي ببعض من الحنين. وتبدأ فرصة الصيف، فيتناسى انقلابات البعث العراقي المتتالية، قبل أن ينسى أيضاً شهر آب (أغسطس) والاحتلال العراقي للكويت واتفاقية أوسلو. ويأتي أيلول (سبتمبر) ومعه نبأ وفاة عبد الناصر، الذي نقده المثقف قبل بضعة أشهر، فيحنّ إلى الأب المغدور وخطاباته التي سخرت من الإسلاميين. غير أنّ ضجيج ذكرى هجمات أيلول توقظه من حنينه إلى هذا الماضي، وتذكره بموقعه المتناقض، كناقد لإسلامهم في الداخل ومدافع عن إسلامه في الخارج.

يبدأ الغضب بالسيطرة على المثقف نتيجة هذه السنة الكئيبة، فيبحث عن بعض من الأمل في ذكرى حرب أكتوبر، قبل أن ينتفض مع أطفال الحجارة في آخر السنة، هم الذين ما زالوا أطفالاً في نظره. ومحمولاً بهذه الذكريات، ينكبّ على مقالته الأخيرة للعام عن محمد البوعزيزي وعلاقة الكرامة بفعل إضرام النار في النفس، هذه النفس غير المنقودة للمرة الأولى هذا الشهر. فخوراً بذاته، يضع قلمه جانباً، ويذهب إلى سهرة رأس السنة، واثقاً من عودته إلى حضن التاريخ والجماهير. ومع بداية كل عام جديد، تعود طقوس الاستذكار بعد دورانها السنوي إلى خانتها الأولى، لتبدأ السنة الجديدة – القديمة مع فيض من الكتابات عن ذكرى ثورة «٢٥ يناير» ومصائرها المتعثّرة، وهي بمثابة الحصة الأولى من السنة الدراسية الجديدة ومفادها «حتمية الخيبة». فمن ميدان التحرير وشبابه المدنيين إلى الإسلام السياسي وقمعه العلماني، لا مكان للثورات في عالمنا المتساقط هذا، يستنتج الكتّاب…!

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى