صفحات العالم

سوريا.. الجمعة العظيمة وانتصار العزيمة

 


مهنا الحبيل

توجّهت الأمور عبر بوابة القمع الأمني الوحشي والمُغرق في الدموية إلى أحد المسارات التي ذكرناها في مقالتنا السابقة -جمهورية الحرية.. من مصر لسوريا- وهو نَزعُ النظام إلى استعادة أبشع تراثه القمعي الذي نُفّذ في حماة ليتقدم به إلى درعا التي شكّلت تاريخا أسطوريا لها ولكل إقليم حوران قادت به مسيرة الحرية السورية التي كان تقديرها لدى المراقبين من البداية أنها مُكلفة مع طبيعة النظام الأشرس إرهابيا في تاريخ المشرق المعاصر لكنّها بالفعل اخترقت حتى الآن كل مساراته وهي صامدة أمام اقتحام الجيش الأخير لبلدات حوران.

هذا الصمود المُكلف لتحالف الأسد–مخلوف والنخبة الخاصة في النظام يُفسّر وحشية هجوم فجر الاثنين الخامس والعشرين من أبريل/نيسان الماضي, فالصورة التي عرضتها الجزيرة وكل القنوات العالمية لأرتال الدبابات وهي تعبر مزارع درعا مع مشاة أمامها وخلفها دون تعرضهم لطلقة واحدة ذكّرت الناس بمشهد الزحف العسكري الدوري الذي عاشته مناطق فلسطين المحتلة للجيش الإسرائيلي، مع الاستذكار بأنه طوال فترة حكم النظام لم تنفذ هذه العمليات على الجبهات السورية مع الاحتلال بما فيها الجولان.

وحشية مخططة ولكن مكلفة

ثم تتابع الأمر حين رصدت الكاميرات الشخصية قصف الدبابات منازل المدنيين، ومنع سيارات الإسعاف أو أي من الأطقم الطبية أو المتطوعين من سحب جثث العشرات من الشهداء الذين تلقى أحدهم قصف الرشاشات الثقيلة، وهو ما أدى إلى انفجار كامل لرأسه فلم تعرف هوية الجثة إلا من بطاقة الشهيد.

وقصف خزانات المياه لحوران ومصادرة شاحنات الطحين لمخابزها يعطي مؤشّرا على قضية الوقت الذي يُصارعه النظام رغم أنه دخل إلى بلدات حوران دون مقاومة وأثبت للعالم في ساعات تكذيب ذاته بانتفاء أي وجود مسلح في مواجهته, خاصةً مع الشهادات التي قدمها أهالي المجندين العسكريين مصورة مع جثثهم في إفادات يقينية بأن العسكريين الذين قتلوا كانوا في إطار تصفيات نفذتها فرقة ماهر الأسد التي كانت نواتها سرايا الدفاع، أكبر تشكيل عنف دموي نفذ مجاز حماة وغيرها، وذلك لرفض أولئك العسكريين قصف أو قتل المتظاهرين.

رسالة تأكيد للغرب وتل أبيب

ولكن لماذا يعزز النظام حصاره للمؤن والمياه على بلدات درعا رغم أنه يوجد في شوارعها، وخاصة قصفه خزانات المياه؟

الذي يتضح أن النظام قلق للغاية من أي فترة زمنية تحتاجها هذه المجزرة فتتمدد قبل أن يصل إلى نقطة الصفر الشاملة وهي تصفية الانتفاضة عبر القمع الدموي من خلال سحق شامل لأي حراك مدني في إقليم حوران، منطلق الانتفاضة السورية المطالبة بالحرية.

ولذلك فإن النظام يصارع البرنامج الزمني للصمود بحيث يُنفذ برنامجه قبل أي قدرة لاستعادة الانتفاضة برنامجها الاحتجاجي وانطلاق مدن القطر السوري والتي بدأت بالفعل ليلة تنفيذ المجزرة في حمص وفي درعا وغيرهما وتزحف لأكثر من منطقة، وهو ما يخيف النظام, خاصة أن النظام ومن خلال سحبه فرقا عسكرية من المواجهة مع إسرائيل عبر تفاهم مؤكد لا يمكن أن يُنفذ دون تفاهم بين الطرفين، فلذلك هو حريص وقلق أمام تل أبيب والمجتمع الغربي على أن تصفية الانتفاضة ستتم بأقصر فترة زمنية, ليقدم نفسه من جديد كقوة إقليمية ضمنت استقرار الحدود والرقم الصعب المطمئن للغرب بتركيبته القائمة في دمشق.

الجمعة العظيمة أحبطت النظام

من المهم للغاية أن نستحضر مشهد الجمعة العظيمة الذي سبق قرار اجتياح درعا وأثّر كثيرا ولا يزال في معنويات النظام, فالجمعة العظيمة كانت عظيمة في كل المسارات التي عززت وحدة الشعب واصطفافه بكل فئاته وخاصة العلاقة الإسلامية المسيحية واشتعال كل نواحي القطر بهتافات الانتفاضة والوحدة والحرية.

في حين دقت أجراس الكنائس المسيحية مع أصوات المآذن وخاصة أن أحد الشهداء كان من أتباع الديانة المسيحية التي شارك شبابها بحضور نوعي في الجمعة العظيمة, فكان مشهد الشهيد المسيحي أغنية موحدة مع مجزرة إزرع وباقي شهداء مدن القطر شكّلت سخرية من قصة الإمارة السلفية المزعومة، ولوحة مفجعة للنظام وهو يقابل هذه الحركة الشبابية المعزولة إلا من المبادئ, وكانت حصيلة قاتلة للنظام وبرنامجه الدعائي المزور.. ولعل خسارة النظام معركة التشويه مع توثيق عناصر الشبّيحة برعاية الأمن العسكري والمخابراتي لهم حفزته لسلاح المجزرة الذي ستكون تكلفته عالية عليه.

المحور الإعلامي الخطير

قبيل بدء الهجوم على درعا كرّس النظام دورة جديدة من إعادة ترتيب أوراقه الإعلامية, وحضر ممثلوه مؤتمرا في بيروت تدعمه إيران لمحاولة الإسناد الإعلامي للنظام بعد تصاعد التعاطف الإعلامي العربي والعالمي مع انتفاضة سوريا, وفشل عمليات التشويه التي تبنّاها إعلام النظام ومحوره الإيراني بكل فروعه.

ومبادرة النظام لهذا المحور لأنه من أهم وسائل التعمية على فترة المجازر ومبرراتها فيما بعد, لكن كل المؤشرات تعطي دلالة على أن النظام وحلفاءه الإيرانيين يخسرون هذه المعركة, وهنا وقفة مهمة للغاية لمسار دعم الانتفاضة السورية ودعم مسيرة الحرية والخلاص, فتصاعد الحشد الإعلامي وتواصله مع شهود العيان عامل حيوي للغاية لإنهاك النظام وخسارته لمرحلة المجازر والدماء المحروقة وتصعيد التكلفة عليه لتكون بناء انطلاق جديد لمرحلة سقوطه لمصلحة جمهورية الحرية السورية وعمقها العربي.

ولذلك فإن هذا التضامن يجب أن يستمر ويتصاعد كما هو حاصل في الإعلام الجديد والتقليدي وعلى كل المستويات أفرادا وجماعات حقوقية وإعلامية وفكرية, وقد رصدنا تأثيره البالغ في المرحلة السابقة.

قرار الانتفاضة والضريبة الصعبة

تتبعنا مسار قرار الانتفاضة بعد مجازر الجمعة العظيمة ومجازر اجتياح درعا، ووضح أن الانتفاضة ورغم حقّها المشروع في الدفاع عن المدنيين بكل الوسائل فإنها متمسكة بسلميتها ومواصلة ذات الطريق، وقد بدا القرار موحدا في كل مدن القطر, وهذا يعني بوضوح ثقة في رؤية القيادة الميدانية وائتلافها, وبلا شك أنهم قد احتسبوا لتكاليف هذا القرار، وهو ما يجب التأكيد عليه بأن الأيام القادمة ستحمل مشاهد دموية أشد مما رأيناها لطبيعة النظام الإرهابية ووحشية مشاعره فضلا عن وسائله.

غير أن مما يجزم به أن ضريبة الصمود في هذه المرحلة نتيجتها كارثية وانقلابية على النظام، كيف ذلك؟

إن بدء امتصاص مشهد المذابح خاصة مع الحصار وبدء تفاعل مدن القطر وتصاعده يسبب تصدع واضطراب في البناء العسكري الذي شهد بالفعل حملة تمرد صغيرة حاليا وستكبر وبالذات لأن التشكيل العسكري يحمل تنوعا وإن كان يعتمد على النخبة الفئوية, فصمود درعا وتحرك مدن القطر, وتحريك البناء المجتمعي المدني الإنساني ليضغط في كل الاتجاهات، أمر مرجّح للغاية ومتوقع, رغم أن سوداوية ذكرى مذبحة حماة محيطة بالذاكرة الوطنية والعربية، والنظام سعى لها بالفعل من خلال قصف منارة المسجد العمري في درعا.

لكن التأمل الهادئ الذي يجب أن ينفصل في قراره الإستراتيجي عن الانهيار العاطفي يتوجه إلى اختلاف الوضع على الأرض وفي العالم والمحيط العربي, وخاصة في شبكة قيادة الميدان التي أظهرت قدرة فائقة في تطوير اتصالاتها وتوزيع مهامها وحراكها بين مدن القطر, ولذلك فإن المقاومة المدنية للنظام ستكون مكلفة كلما استمر الصمود وتنوع الميدان القطري وأُسند إنسانياً عربيا وعالميا.

محاور الإسناد للانتفاضة

وواضح أنّ النظام لا يزال يتلقى دعما من أركان من النظام الرسمي في الخليج ومن ضغطه على المحيط وخاصة قرار الأردن تخفيض شبكة التغطية لأبراجها استجابة لضغط دمشق, غير أن المسار الشعبي مسؤولية ملقاة على الحركة الإسلامية في الأردن وكل الفعاليات القومية والمدنية لإسناد أهالي درعا, مع أن حركة التضامن بين العشائر إنسانيا في الجهتين لن تقف حتى تتحرك التشكيلات السياسية كطبيعة لعنصر الحمية الاجتماعية للمنطقة.

وهذه المسؤولية تشمل كل الأقطار العربية وحراكها المدني في توجهات عدة كمظاهرات التضامن التي جرت في مصر أو الضغط السياسي أو الحقوقي, الذي لن يستطيع المحور الإيراني مواجهته وخاصة أن هذا المحور يحارب الشعب السوري مع ما تعنيه هذه الحقيقة من مصادمة شعورية عنيفة للتضامن العربي الحقوقي.

وكنّا قلنا في سلسلة مقالاتنا عن حرب غزة إن المحلل السياسي مهما بلغ به الوصف والاستقصاء فإننا في المشرق الإسلامي نؤمن بتدخل القدر خارج حساباتنا وإن قُدّاساً معظما لا ينقطع يقدمه شهداء سوريا في لوحة وحدة عظيمة وعزيمة مذهلة لهي محل تنزل تلك الأقدار التي تبارك انتفاضة حقٍ لشعبٍ أراد الحياة وأراد له

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى